شكّل سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024 نقطة تحوّل مفصليّة في تاريخ سوريا الحديث، حيث أعلنت السلطات الجديدة حلّ الجيش السوري التقليدي والأجهزة الأمنية التابعة للنظام السابق، والشروع في بناء جيش وطني جديد قائم على أسس الاحترافية والتمثيل الوطني، بعيداً عن الإرث الأمني للنظام المخلوع.
إلا أن عملية إعادة بناء المؤسسة العسكرية تواجه تحديات جسيمة على مختلف المستويات، إذ دمّرت سنوات الحرب البنية التحتية العسكرية في سوريا بما في ذلك المنشآت التدريبية والتصنيعية، الأمر الذي يتطلب استثمارات ضخمة لإعادة الإعمار.
العوامل الإقليمية والتهديد الإسرائيلي
على الصعيد الإقليمي، تبرز عقبات كبرى أمام إعادة تشكيل الجيش السوري، إذ تعارض إسرائيل أي عملية لإعادة تسليح القوات السورية، ولا سيما في مجالي الطيران الحربي المتطور والصواريخ الباليستية. وتنفّذ تل أبيب غارات متكررة تستهدف أي تراكم عسكري سوري، كان أبرزها عملية “سهم باشان” التي أدت إلى تدمير نحو 80% من الترسانة الاستراتيجية السورية.
فرص الدعم والتعاون الدولي
رغم هذه التحديات، تبرز فرص تعاون مهمة. فقد قدّمت تركيا دعماً تدريبياً وفنياً للجيش السوري الجديد، ووقّعت اتفاقية تعاون عسكري لتزويد القوات السورية بأنظمة أسلحة وأدوات لوجستية. كما بدأت دمشق بإعادة بناء جسور التواصل مع موسكو، حيث تبادلت وفود رفيعة المستوى الزيارات بين الجانبين.
وكشف الرئيس السوري أحمد الشرع قبل يومين عن وجود ارتباطات متشعبة بين سوريا وروسيا، مؤكداً أهمية الحفاظ عليها وإدارتها برؤية هادئة ورصينة. وأوضح، في مقابلة مع قناة “الإخبارية السورية”، أن اتفاقاً جرى بين المقاتلين الثوار والروس قبيل سقوط النظام السابق في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، مضيفاً:
“عندما وصلنا إلى حماة في معركة التحرير، جرت مفاوضات بيننا وبين روسيا. وقد انسحب الروس تماماً من المشهد العسكري عند وصول قواتنا إلى حمص، وذلك تنفيذاً للاتفاق المبرم بين الطرفين.”
وشدد الشرع على أن كلا الطرفين –السلطة الحالية وروسيا– قدّما التزامات متبادلة ووفيا بها حتى اللحظة.
تراجع الدور الروسي قبل سقوط النظام
المشهد العسكري في المراحل الأخيرة من المعارك قبل فرار الأسد إلى موسكو اتّسم بتراجع واضح في حجم التدخل الروسي، وهو ما أثار استغراب المحللين الأمنيين. ورجّح بعض الخبراء أن هذا الانحسار يعود إلى ترتيبات روسية–تركية مشتركة، إلى جانب ضيق موسكو ذرعاً بسياسات النظام السابق.
ديناميكيات جديدة وتحالفات متغيرة
هذه التطورات عكست تحولات في التحالفات الإقليمية والدولية، وديناميكيات جديدة للقوى الفاعلة في سوريا. وفي هذا الإطار، تعتمد السلطة الحالية على نهج أكثر هدوءاً ورويّة في إدارة علاقاتها الدولية. ويرى الخبراء أن على سوريا تفادي “الانتحار الاستراتيجي” الناتج عن الارتهان لمصدر تسليح واحد خاضع لأجندة سياسية معينة، سواء كان روسيا أو الولايات المتحدة.
فبدلاً من العودة الكاملة إلى المعسكر الروسي التقليدي، أو الارتماء الكلي في أحضان المنظومات الأمريكية، ينبغي على دمشق اعتماد سياسة تنويع مصادر التسليح، خاصة في ضوء الدروس المستفادة من الهجوم الإسرائيلي الأخير على العاصمة القطرية الدوحة.
الدرس القطري: صدمة إقليمية
في التاسع من الشهر الجاري، نفّذت إسرائيل ضربة جوية استهدفت قيادات من حركة “حماس” في العاصمة القطرية الدوحة. شاركت في العملية 15 طائرة مقاتلة، أطلقت أكثر من عشرة صواريخ دقيقة على حي القطيفية، مدمّرة الهدف.
الهجوم، الذي مثّل زلزالاً استراتيجياً، أثار تساؤلات واسعة حول جدوى الضمانات الأمنية الأمريكية. فقد استُهدفت دولة خليجية تستضيف أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة، وتمتلك منظومات دفاع جوي متطورة مثل “باتريوت” و”ثاد”. ورغم ذلك، فشلت هذه المنظومات في صد الهجوم الإسرائيلي الذي جاء من مسافة 1800 كيلومتر.
قطر أدانت العملية بشدّة ووصفتها بـ”الهجوم الجبان”، مؤكدة أنها لم تُبلّغ مسبقاً، فيما أشارت إلى أن اتصالاً أمريكياً ورد أثناء سماع دوي الانفجارات. إسرائيل بدورها أعلنت نجاح العملية وحمّلت حماس المسؤولية عن استمرار العنف، بينما أكدت الولايات المتحدة علمها المسبق بالضربة، لكنها أبدت استياءها من انعكاساتها على الجهود الدبلوماسية.
سقوط “وهم” الحماية الأمريكية
العميد فراس عطوان، الخبير الاستراتيجي في الشؤون الدفاعية، علّق على الضربة قائلاً:
“ما حدث في قطر دليل قاطع على خطورة الاعتماد الأحادي على الولايات المتحدة في مجال الدفاع والأمن. الأنظمة الأمريكية المتطورة التي اشتريناها بمليارات الدولارات أثبتت أنها قد تُغلق عن بُعد في اللحظة الحاسمة، تاركةً سماءنا عارية أمام أي تهديد، خاصة إذا كان مصدره إسرائيل. هذه ليست نظرية مؤامرة، بل حقيقة رأيناها بأعيننا في الدوحة.”
وأضاف عطوان: “الاعتماد على مصدر واحد للتسليح هو أعلى درجات الغباء الاستراتيجي، لأنه يجعل الدول رهائن لإرادة طرف واحد. يجب أن نتعلم من تجارب مصر والسعودية وتركيا في تنويع مصادر السلاح بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، بل وتوطين الصناعات العسكرية. وحده الاكتفاء الذاتي النسبي مع تنويع مصادر التسلح يوفّر أمنًا حقيقيًا لا يرتهن لأحد.”
التجربة التركية وملف S-400
في هذا السياق، نشر موقع “خبر 7” التركي تقريراً بعنوان: “الهجوم الذي كشف تبرير تركيا لمنظومة S-400! إسرائيل تضرب، وأنظمة الباتريوت نائمة”، أوضح فيه أن أنظمة الدفاع الجوي الغربية، وخاصة الباتريوت، لا تعمل ضد التهديدات الإسرائيلية أو يتم تعطيلها عن بُعد من قبل واشنطن عندما يتعلق الأمر بحليفها الاستراتيجي. التقرير أشار كذلك إلى أن خطوة تركيا باقتناء منظومة “S-400” الروسية، رغم الضغوط والعقوبات الأمريكية، كانت قراراً صائباً من الناحيتين السياسية والعسكرية، نحو تعزيز الاستقلال في صنع القرار الأمني.
استنتاجات للمستقبل السوري
واختتم عطوان بالقول:
“هذا السيناريو يجب أن يكون جرس إنذار لكل دولة في المنطقة تسعى لبناء سيادتها وأمنها القومي بعيداً عن الهيمنة الغربية، وعلى رأسها سوريا. إن الأحداث المتسارعة في الشرق الأوسط تشكّل نقطة تحول إقليمية كبرى، وتدفع الدول إلى مراجعة تحالفاتها الأمنية، والسعي نحو تطوير قدرات دفاعية مستقلة.
صحافي و كاتب سياسي_ د. مناف سعد
2025-09-19 12:20:13