يمر سوق العمل في سوريا في العام الحالي بمرحلةٍ دقيقة، تتقاطع فيها التحديات الاقتصادية مع محاولات النهوض والإصلاح. فالسوق مثقلٌ بمعدلاتِ بطالة مرتفعة، وفجوة متزايدة بين احتياجات السوق وعدد الأيدي العاملة، في ظل تراجع قدرة
القطاع العام على الاستيعاب وضعف أداء القطاع الخاص. هذا الواقع يفرض ضرورة ملحة لإعادة النظر في آليات التشغيل والتأهيل بما يتناسب مع متطلبات الواقع الاقتصادي الراهن.
يقف الاقتصاد السوري اليوم أمام مفترق طرق وهو يعتمد على سوق عملٍ لا يزال هشاً، فإما الاستمرار في نمط التشغيل الدائم التقليدي، أو الانفتاح على تجارب في سوق العمل أكثر مرونة كدول الخليج على سبيل المثال. في هذا المقال سنعرض حالة سوق العمل الحالية ونناقش ما يشوبها، ونرصد التحديات التي تواجه هذا السوق، ونطرح الآليات لتطوير هذا السوق ونقدمها كتوصيات.
حالة سوق العمل في سوريا في الوقت الحالي
في ظل أرقام متضاربة عن نسبة البطالة في البلاد، ما ينعكس بشكل مباشر على سوق العمل، كشف وزير الاقتصاد والصناعة السورية، أن البطالة بلغت في البلاد تفوق 60%، مردفاً أن الحكومة استلمت البلاد مدمرة اقتصادياً، وأن حجم الكارثة تجاوز التقديرات.
وفقاً لمعدل البطالة المعلن عنه من قبل الوزير يعني أن 2.7 مليون شاب في البلاد لا يملكون عملاً وأن واحداً من كل أربع أشخاص في سوريا عاطل عن العمل. وهذا يتطلب إعداد دراسات وانتهاج سياسات للنهوض بواقع سوق العمل السوري والإقلاع من جديد. في حين ذكر مكتب الإحصاء في معرض حديثه عن حجم قوة العمل ومعدلات البطالة بحسب الجنس أن 4.5 مليون هو عدد العاملين منهم 22 في المئة إناثاً ومتعطلون أقل من 1.5 مليون، مقدراً عدد سكان سوريا بـ 23.2 مليون نسمة.
في سياق متصل، الفجوة المتنامية بين متطلبات سوق العمل ومهارات الباحث عن العمل هي من أبرز العقبات التي تعترض ميدان العمل في البلاد، ما يعني أن أعداد العاطلين عن العمل في البلاد وفق السياق المطروح في ازدياد وسيتزايد معها الفقر وتتفاقم المشكلات الناتجة عنه. فغياب الاهتمام بالشباب وتأمين فرص عمل لهم في الظروف الراهنة والتغافل عن تدريبهم حول متطلبات سوق العمل واحتياج الشركات، وإعداد دراسات ميدانية عن واقع ميدان العمل يستند إليها لزج المهارات الشبابية في السوق، كل تلك عوامل تعزز من تآكل سوق العمل في سوريا وتعزز من هشاشتها.
ناهيك عن تراجع القطاع العام في البلاد بعد أن هيمن لسنوات طويلة حتى عام 2011، فقد أشار تقرير للمعهد الوطني للإدارة العامة بدمشق في عام 2024 إلى أن نسبة تسرب العاملين من القطاع العام منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011 بسبب الأوضاع الأمنية وخروج العديد من المناطق عن سيطرة النظام، إضافةً إلى الأوضاع الاقتصادية المتردية وحتى عام 2022 بلغت ما يقارب الـ 50% من موظفي ست وزارات.
في حين يقدر عدد العاملين في القطاع العام في البلاد للعام الحالي (مليون ومئتين وخمسين ألفاً). أما العاملون في القطاع الخاص يبلغ حوالي 7 إلى 7.5 مليون عامل سوري يعملون في المجالات المختلفة للقطاع الخاص، أي حوالي 5 أضعاف عدد العمال والمتقاعدين من القطاع العام. بالرغم من ضعف القطاع الخاص في البلاد وحاجته إلى التطوير. فهذه هي حال سوق العمل في سوريا اليوم: بطالة مرتفعة وفجوات متصاعدة بين احتياجات السوق ومتطلبات العمل التي تحتاج إلى حلول، وتراجع للقطاع العام وضعف في القطاع الخاص، جميع هذه العقبات تقف في وجه الشباب السوري وجهود النهوض بالاقتصاد، ولا يمكن تجاوزها إلا عبر سياسة واضحة تستوعب احتياجات السوق ومخرجات التعليم وتحاول الموائمة بينهما.
التحديات التي تواجه معترك سوق العمل في البلاد
تبعاً للأرقام المطروحة حول البطالة وعدد العاملين في كلا القطاعين العام والخاص، وفي ظل رصد للفجوة التي يشهدها سوق العمل، تواجه عملية تطوير هذا السوق جملة من التحديات البنيوية والهيكلية التي تعيق خلق فرص عمل جديدة ومستدامة.
استمرار غياب السياسات الواضحة والفعالة للتدريب والتأهيل سيؤدي إلى تزايد في ضعف اليد العاملة ومدى جاهزيتها للانخراط في السوق، إذ يفتقر الشباب السوري لاسيما الخريجين الجدد منهم إلى المهارات التقنية والإدارية التي يتطلبها سوق العمل الحديث، فالأميّ اليوم ليس من يجهل القراءة والكتابة، بل من يجهل البرمجة والرقمنة، وسوريا لديها ضعف في التحول الرقمي وما تزال في أول الطريق نحوه.
تغيب السياسات التأهيلية إلى جانب الشق التشريعي، فالحقيقة أن التشريعات العمالية في البلاد لا زالت تقليدية ولا تواكب التحولات الاقتصادية أو أنماط العمل الجديدة كالعمل الحر أو الرقمي الذي بات ملجأ للشباب السوري في البحث عن فرص للعمل. فغياب قوانين عمل تواكب متطلبات ميدان العمل الجديدة يحد من مرونة السوق.
إلى جانب البيروقراطية الموروثة في البلاد، يبرز المناخ الاستثماري المضطرب والهش في البلاد لعوامل عديدة أبرزها، تعقيد الإجراءات كأحد مفرزات البيروقراطية المتبعة، وهذا ما يثني القطاع الخاص عن التوسع ويضعفه ويقيد من قدرته على استيعاب اليد العاملة.
كذلك محدودية الابتكار وغياب الدعم عنه إلى جانب محدودية ريادة الأعمال، يجعل الفرص المطروحة في السوق محدودة لعدة عوامل منها، ضعف التمويل والعمل المؤسساتي، ما يفضي إلى تقليل فرص ظهور مشاريع صغيرة قادرة على تحريك جمود السوق. فمجمل تلك العوامل تجعل من الإصلاح البنيوي أولوية وليس حاجة ثانوية، فبغيره لن تعود الحيوية إلى سوق العمل ولن يتمكن من مواكبة التحولات الجديدة.
سيريا ديلي نيوز
2025-10-28 19:08:02
