يستمر التردي السريع في قطاع الطاقة السوري، دون أي علامات تدلّ على أن في جعبة المسؤولين حلولاً قريبة. وكما هو الحال دائماً، مع كل موسم شتاء، يعاني السوريون من زيادة جديدة في ساعات انقطاع الكهرباء، التي وصلت في العديد من المناطق إلى ساعتي وصل يومياً فقط (وأحياناً أقل). وهذا ما يجعل السؤال ملحاً: لماذا تعاني سورية من هذه الفترات الطويلة في «التقنين»؟ وهل هنالك أي تفسير معقول يقدمه القائمون على القرار؟
انخفض إنتاج سورية من الكهرباء من نحو 7200 ميغا واط في عام 2010 إلى نحو 2500 ميغا واط في عام 2022، ثم واصل الإنتاج انخفاضه هذا العام، وفقاً لتصريحات وزير الكهرباء السوري، غسان الزامل، الذي أكد في بداية العام 2024 أن إنتاج سورية من الكهرباء يتراوح بين (2000 و2200 ميغا واط ساعي) بينما تصل الحاجة إلى 6 آلاف ميغا واط.
قد يظن الكثيرون أن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية لقطاع الكهرباء بسبب الصراع الدائر في البلاد هي السبب وراء المشكلة. ولكن، بحسب البيانات الرسمية، هذا الافتراض غير دقيق إطلاقاً. ولا سيما أن الوزير ذاته أعلن في مقابلة مع إحدى الإذاعات المحلية أن «هناك إمكانية لدى محطات الطاقة لتوليد ما بين 5 آلاف و5500 ميغا واط ساعي، وهي كافية لتحسين الواقع الكهربائي بشكل كبير، لكن المشكلة في توفير حوامل الطاقة».
ما هي كمية الكهرباء التي يحتاجها السوريون فعلياً؟
يحتاج الرقم الذي ذكره الوزير حول تقدير حاجة البلاد حالياً للكهرباء (وهو 6 آلاف ميغا واط) إلى وقفة ونقاش:
حسب الأرقام الواردة في النشرة الإحصائية لعام 2011 من الاتحاد العربي للكهرباء، كانت سورية بحاجة إلى نحو 8.6 غيغا واط من الكهرباء. والتساؤل هنا: بعد تأثر البلاد بموجات الهجرة الكبيرة الذي أثر على ملايين الأشخاص، بالإضافة إلى اللجوء خارج البلاد، والتدهور الكبير في قطاعي الصناعة والزراعة، ووجود مناطق ومحافظات سورية كثيرة لا تتم تغذيتها كهربائياً من المركز؟ هل يظل رقم 6 غيغا واط معقولاً ومنطقياً؟
وهنا نصل للسؤال الأهم، إذا كانت هناك إمكانية لدى محطات الطاقة - وفقاً لتصريحات الوزارة- لتوليد ما بين 5 آلاف و5500 ميغا واط ساعي، فما الذي يمنع تأمين حوامل الطاقة اللازمة لتشغيل المحطات بطاقتها الكاملة؟
هل هي أزمة حوامل الطاقة حقاً؟
عندما يثار الجدل حول سبب عدم استغلال محطات توليد الطاقة في سورية لأقصى طاقتها، تأتي الإجابات الرسمية لتشير إلى نقص في مواد الطاقة الأساسية اللازمة للتشغيل. ويتم التشديد بشكل ملحوظ على العجز في توريدات الغاز الطبيعي.
وبحسب تصريحات الوزارة في نهاية عام 2023، تصل واردات الفيول في معدلها الوسطي لنحو 5 آلاف طن يومياً، وهو ما يلبي حاجة معظم مجموعات التوليد العاملة على مادة الفيول والتي تصل لحدود ألف ميغا (تتوزع مجموعات التوليد بين أربع محطات توليد هي: الزارة، التي تشمل ثلاث مجموعات توليد تعمل على الفيول باستطاعة نحو 500 ميغا، ومحطة حلب (مجموعة واحدة) باستطاعة 200 ميغا واط، ومحطة توليد تشرين وفيها مجموعتان واحدة باستطاعة 125 ميغا والأخرى باستطاعة 75 ميغا واط، في حين تنتج محطة توليد بانياس نحو 70 ميغا واط بحال توافر الفيول).
لكن الوزارة تشدد دائماً على أن الغاز هو العنصر الرئيسي الذي تعتمد عليه أغلبية محطات توليد الكهرباء، وتؤكد أن الكمية التي تصل إلى وزارة الكهرباء من الغاز تلعب دوراً حاسماً في تحديد مقدار الطاقة المولدة وهي السبب الرئيسي في ضعف التوليد حالياً.
هنا تتجلى مشكلة رئيسية، وهي اعتماد الإنتاج السوري للطاقة بشكل كبير على الغاز الطبيعي. ومع تراجع كميات الغاز المستخرجة في سورية (إذ يُقدر أن الإنتاج الحالي للغاز الطبيعي في البلاد لا يتجاوز 40% مما كان عليه قبل بدء الأزمة)، تجد سورية نفسها عاجزة عن تعويض النقص من خلال الإنتاج المحلي. ونتيجةً لذلك، تضطر البلاد - نظرياً- للاستيراد من الخارج، في ظروف تتسم بالصعوبة في نقل الغاز الطبيعي مقارنةً بسهولة نقل الفيول.
السؤال ببساطة: لماذا نبقى تحت رحمة الغاز؟
هل يجب أن تظل سورية مرتبطة بشكل دائم بحاجتها للغاز الطبيعي؟ خاصةً وأن تزايد الاعتماد على الغاز في توليد الكهرباء هو تطور حديث نسبياً في سورية. فقبل انفجار الأزمة، في عام 2008 على سبيل المثال، تشير الإحصاءات إلى أن توليد الكهرباء باستخدام الفيول كان يشكل نحو 62% (انظر الشكل)، بينما كان الإنتاج الكهربائي المعتمد على الغاز الطبيعي لا يزيد عن 32.5%. وكانت النسبة المتبقية والتي لا تتعدى 5.5% تعتمد على الطاقة الهيدروليكية (المائية).
من خلال الرجوع إلى التقرير الإحصائي الصادر عن المؤسسة العامة لتوليد الكهرباء لعام 2020، يتضح أن أغلب العنفات في محطات التوليد هي عنفات بخارية ومركبة، والتي يمكن - نظرياً - تشغيلها باستخدام الفيول، حتى لو كان ذلك يتطلب بعض الصيانة والتعديلات على العنفات. أما العنفات الغازية المعتمدة على الغاز الطبيعي (مثل السويدية، والتيم، وتشرين الغازية، وتوسع بانياس)، وفقاً للتقرير ذاته، تمثل فقط 407 ميغاواط من إجمالي الطاقة الاسمية البالغة 4382 ميغاواط، أي حوالي 9.2%.
هذا يطرح سؤالاً هاماً: إذا كان من الممكن زيادة الاعتماد على الفيول، كما كان الحال قبل انفجار الأزمة في البلاد عام 2011، لتوليد الطاقة الكهربائية، فلماذا لا يتم تأمين الإجراءات اللازمة والكمية الكافية من الفيول لتشغيل المحطات؟
الوزارة تفصح.. وبكل وضوح: «الدعم» هو المشكلة
الحديث عن الأعطال والاستطاعات ومشاكل المحطات وصعوبات التوريد، وغيرها من المشكلات هو حديث يستخدم بكثرة بسبب ودون سبب، كذرائع لتبرير عدم اتخاذ خطوات لوقف التدهور في مجال الطاقة بالبلاد.
هل بذل المسؤولون في البلاد جهوداً حقيقية لإبرام عقود طويلة الأجل لتوريد الفيول من الدول الصديقة التي لا تطبق العقوبات الغربية المفروضة على سورية؟ هل حاولوا فعلياً ترتيب اتفاقيات مع هذه الدول تضمن استمرارية تدفق الطاقة اللازمة لتشغيل المحطات دون جعل هذه الدول مجرد مصادر استغلال جديدة لملء جيوب الفساد في سورية؟ هل انخرط أصحاب القرار الفعلي في البلاد جدياً بجهود الحل السياسي الممهد لاستعادة العلاقات مع دول الجوار (تركيا مثالاً)، ولا سيما أنه بنظرة سريعة إلى دول الجوار وإمكانية الاعتماد عليها لكسر الحصار المفروض على البلاد، يمكن الاستنتاج أن الحدود السورية - التركية تكاد تكون الوحيدة القادرة على تحقيق هذه المهمة؟
أم أن التقاعس والتبريرات وحرمان ملايين السوريين من الكهرباء هي عوامل ترتبط بمحاولة توفير تكلفة دعم الكهرباء؟
يجيب وزير الكهرباء في تصريحه لإذاعة محلية بداية العام الحالي بمنتهى الوضوح، عندما سأله المذيع عن سبب عدم زيادة الكميات الواردة من حوامل الطاقة، فيقول: «نلاحظ أن ثلثي دعم الدولة يذهب لدعم قطاع الكهرباء، وهذا على مستوى توليد 2000 إلى 2200 ميغا واط فقط، وعندما أقول أن هناك 2000 ميغا جديدة يجب أن تضخ في المنظومة الكهربائية حتى يتحسن الواقع الكهربائي، فهذا سيعني أن هناك زيادة في عجز الموازنة وزيادة في مصادر التمويل اللازمة لهذا العقد»، ثم يعود ليؤكد أن «وسطي كلفة الإنتاج حالياً بحدود 1600 إلى 1700 ليرة سورية للكيلو واط، ووسطي سعر المبيع [تبعاً لاختلاف الشرائح] حالياً هو 76 ليرة سورية».
أي أن الدولة تعمل وفق المنطق التالي فعلياً: إذا قمتُ بتأمين كميات إضافية من حوامل الطاقة لتشغيل المحطات بطاقتها القصوى، فإني سأضطر إلى إنفاق المزيد من الأموال على دعم الكهرباء نتيجة زيادة كميات الكهرباء التي سيستهلكها السوريون. وهذا سيعني - بالضرورة- التسبب في زيادة بعجز الموازنة!
الفساد لا يريد الدعم.. ولهذا يمنع الكهرباء عن السوريين
إذا كانت محاولات توفير تكاليف الدعم هي الدافع وراء عدم مبادرة أصحاب القرار لتوفير حوامل الطاقة اللازمة لتشغيل المحطات، فهذا يعكس إلى أي مدى وصلت اللامبالاة وقصر نظر
هل يحتاج هؤلاء إلى من يذكرهم بأن الإنفاق على دعم الكهرباء وتشغيل المحطات، وبالتالي تحريك دورة الإنتاج في مجالات الصناعة والزراعة وغيرها، ستعزز الاقتصاد الوطني، ما سيولد في النهاية إيرادات تتجاوز هذا الإنفاق بمراحل؟ ثم هل يمكن أن نقارن أي حساب لتكاليف إعادة تأهيل قطاع الكهرباء من البداية إلى النهاية مع الخسائر الكبيرة المترتبة على توقف عجلة الإنتاج وإضعاف الاقتصاد الوطني؟ لم يحسب أحد بعد حتى الآن الفاتورة التي دفعناها كشعب سوري نتيجة توقف عجلة الإنتاج على امتداد السنوات الماضية نتيجة هذا المستوى من اللامبالاة إزاء مسألة الكهرباء.
يعي الشعب السوري جيداً أن تنشيط دورة الإنتاج الحقيقية لا يخدم مصالح القوى المتنفذة التي تستفيد من تحويل اقتصاد البلاد إلى نموذج يعتمد على التعيش من عمليات الاستيراد والتحويلات المالية، بالإضافة إلى أنشطة أمراء الحرب في قطاعات الاقتصاد الأسود ؟
سيريا ديلي نيوز
2024-01-30 15:24:46