بعد مرور أكثر من عقد على موجات الفصل التعسفي التي ضربت موظفي القطاع العام في سورية منذ عام 2011، أصدر معاون الأمين العام لرئاسة الجمهورية لشؤون مجلس الوزراء، علي كده، قراراً بتشكيل لجنة مركزية لدراسة أوضاع المفصولين خلال هذه الفترة، في خطوة قد تعيد فتح ملف ظل طويلاً غامضاً ومثاراً للجدل. اللجنة، التي وُصفت بأنها "مركزية"، ستراجع حالات الفصل من الخدمة التي جرت خلال الفترة الممتدة من عام 2011 وحتى تاريخ سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024.
ورغم أهمية هذه الخطوة جماهيرياً لكنها تواجه تحديات عديدة منها ترهل القطاع الحكومي، وتأزم الأوضاع الاقتصادية والمالية للدولة التي تعاني اضطرابات في العديد من المناطق. ويواجه الاقتصاد السوري تحديات كبيرة بعد سنوات من الحرب، حيث يعاني من تراجع حاد في الناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع معدلات البطالة، وتدهور قيمة العملة الوطنية، وتقول أرقام حديثة لبرنامج الغذاء العالمي، إن نحو 12 مليون سوري، يعانون من انعدام الأمن الغذائي.
وفي ظل هذه الأوضاع، يغلب على الكثير من المفصولين الشعور بالقلق من أن يصبح دور اللجنة شكلياً ولا ينصفهم خلال وقت قريب، خاصة في ظل غياب الشفافية في تحديد المعايير، ما قد يجعل عملية الإنصاف انتقائية، بحسب مراقبين.
قصص من الانتظار
مدرّسة لغة فرنسية من حمص، خولة الحمصي، تعيش منذ سنوات حالة انتظار إنصافها بعد أن فُصلت من عملها في عام 2013. تقول لـ"العربي الجديد": "كنت أدرّس في مدرسة بحي الخالدية منذ سبع سنوات. في ربيع ذلك العام، نزحت مع عائلتي بسبب القصف، ولم أستطع الوصول إلى المدرسة.
انقطاع الكهرباء في 4 محافظات سورية
بعد أسابيع، اتصلوا بي من الإدارة وأخبروني أنني مفصولة بسبب التغيب. حاولت شرح ظروفي، لكنهم قالوا إن القرار أمني ولا يمكن تغييره. منذ ذلك الوقت أعتاش من الدروس الخصوصية في بيتي، أنتظر أن يعود لي حقي، أو على الأقل أحصل على تعويض عن سنوات الخدمة التي ضاعت".
أما الموظف السابق في شركة المياه بريف دمشق، مصطفى المحمد، فيروي قصته التي تشبه كثيراً قصص المئات من المفصولين: "في أواخر 2014، تم اعتقالي لمدة ستة أشهر بسبب مشاركتي في احتجاجات سلمية. بعد خروجي، أبلغتني الإدارة شفهياً أن عودتي للعمل غير ممكنة لأسباب أمنية. غادرت إلى تركيا عام 2015 وعدت قبل عامين بعد تسوية وضعي، لكنني لم أستطع استعادة وظيفتي أو أي من مستحقاتي. أسمع الآن عن تشكيل اللجنة الجديدة وأقول في نفسي: ربما تكون فرصة أخيرة، لكنني لا أعرف إن كانوا سيعيدون حقوقنا أم لا". ورغم هذا الانتظار، يغلب على العديد من المفصولين الشعور بالقلق، خشية أن تتحول اللجنة إلى "غربلة" جديدة تتركهم خارج العدالة، في ظل اشتراطات أمنية قد تعيق شمول جميع الحالات.
بين الإنصاف والقيود
يقول الخبير القانوني المحامي حسين الموسى لـ"العربي الجديد" إنه "من الناحية القانونية، إعادة النظر في قرارات فصل الموظفين تتطلب التمييز بين القرارات الإدارية البحتة، مثل التغيب أو المخالفات الوظيفية، وبين القرارات ذات الخلفية الأمنية أو السياسية. في الحالة الأولى، يمكن للجنة أن توصي بإعادة الموظف أو منحه تعويضاً عن الفترة التي حُرم فيها من العمل. أما في الحالات المرتبطة بملفات أمنية، فغالباً ما تكون صلاحيات اللجنة محدودة، لأن القرار النهائي يبقى بيد الأجهزة المختصة. المشكلة الأساسية هي غياب الشفافية في تحديد المعايير، ما قد يجعل عملية الإنصاف انتقائية".
أما من الناحية الاقتصادية وأثر القرار، فيشرح الخبير الاقتصادي أمجد ونوس لـ"العربي الجديد" أن "إعادة آلاف الموظفين إلى وظائفهم أو منحهم تعويضات مالية يمكن أن تنعش القدرة الشرائية لشريحة واسعة من الأسر، وتعيد ضخ السيولة في الأسواق، خصوصاً في المدن الصغيرة والبلدات التي تعتمد على رواتب القطاع العام كمصدر دخل أساسي. لكن الأثر الإيجابي سيظل محدوداً إذا اقتصر القرار على حالات قليلة أو بقي خاضعاً لقيود أمنية، لأن جزءاً كبيراً من المشكلة مرتبط بسوق العمل نفسه، الذي تقلص بشكل كبير خلال سنوات الحرب".
تسرب من القطاع العام
بعد اندلاع الثورة في آذار/مارس 2011، شهد قطاع الدولة السوري هجرة واسعة وتسرباً كبيراً في الموارد البشرية، إذ ترك عدد كبير من موظفي القطاع العام وظائفهم لأسباب أمنية وحياتية، بالإضافة إلى خروج مناطق واسعة عن سيطرة النظام.
استمر القطاع الحكومي في مواجهة تسرب مستمر للعاملين، خاصة خلال السنوات الثلاث الأخيرة من تلك الفترة. وكان السبب الرئيسي في هذا التسرب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي مرت بها البلاد، والتي أثرت سلباً على الرواتب المتدنية وارتفاع تكاليف المعيشة، مما دفع العديد إلى الاستقالة أو مغادرة وظائفهم من دون تقديم استقالة رسمية. وكشفت دراسة استطلاعية نُشرت عن المعهد الوطني للإدارة في دمشق (INA) مطلع نيسان/إبريل 2024، أن أكثر من 50% من موظفي ست وزارات قد تسربوا خلال الفترة الممتدة بين 2010 و2022.
وبينت الدراسة أن معدل التسرب بين الذكور وصل إلى 32.7% في مؤسسات القطاع الحكومي والعام عام 2022 مقارنة بعام 2010، في حين ارتفعت نسبة الإناث الموظفات بنسبة 9.7%، مما يشير إلى اتجاه نحو "تأنيث" قوة العمل الحكومية.
400 ألف موظف "شبح"
وكان عدد موظفي القطاع العام قبل عام 2011 يُقدر بين 1.2 و1.3 مليون موظف، شمل ذلك الإداريين والخدميين وغيرهم. لكن بحلول عام 2020، انخفض عدد الموظفين العاملين فعلياً إلى حوالي 125 ألف موظف. وفي نهاية 2024، أفادت تصريحات لمسؤولين حكوميين بوجود نحو 1.3 مليون موظف مسجلين على الكشوف الرسمية، منهم نحو 400 ألف موظف "شبح" مسجلين على الرواتب من دون تأدية عمل فعلي.
وكانت حاجة الدولة الحقيقية من الموظفين تُقدر بنحو 550 ألف إلى 600 ألف موظف فقط، ما يعكس وجود فائض وتشوهات كبيرة في الكشوف الإدارية والاقتصادية.
يُعيد تشكيل اللجنة المركزية لدراسة أوضاع المفصولين من وظائف الدولة ملفاً ثقيلاً إلى الواجهة بعد أن ظل مهملاً لأكثر من عقد، وسط آمال بفتح صفحة جديدة من الإنصاف والتسوية. لكن النجاح في ذلك مرتبط بوضوح معايير عمل اللجنة، ومدى قدرتها على تجاوز الاعتبارات الأمنية والسياسية التي استنزفت حقوق آلاف الموظفين.
سيريا ديلي نيوز
2025-08-11 07:16:17