بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، دخلت العلاقات بين دمشق وموسكو مرحلة جديدة أكثر تعقيدًا، تقوم على المصالح المتبادلة والضرورات الجيوسياسية، لتبرز إعادة بناء هذه العلاقة كخيار استراتيجي جاد للحكومة السورية الجديدة.
انهيار النظام الذي حكم البلاد لأكثر من خمسة عقود لم يكن مجرد انتقال في القيادة، بل انهيار مؤسسي شامل، نتج عن تراكمات اقتصادية وأمنية شملت تدهور المعيشة وانخفاض رواتب الجنود والفساد وفقدان الدعم من الحلفاء المنشغلين بصراعات أخرى.
في هذا السياق، أظهرت موسكو مرونة دبلوماسية واضحة، فبدلاً من التمسك بنظام لم يعد قادراً على البقاء، قبلت بالتغيير وساهمت في انتقال سياسي سلس نسبيًا، وفقاً لتحليلات اعتبرت أن روسيا تصرفت “كلاعب محسوب” دون تدخل مباشر أثناء سقوط دمشق.
الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع وصف العلاقة مع روسيا بأنها “استراتيجية وطيدة وطويلة الأمد”، مشيرًا إلى وجود “مصالح استراتيجية” مشتركة، وكشف أن سقوط النظام السابق تم “ضمن اتفاق بين الطرفين” تضمّن التزامات متبادلة التزم بها الجانبان حتى الآن.
أما وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، فأكد في مقابلة مع قناة “روسيا اليوم” أن العلاقات مع سوريا “قائمة على الصداقة وليست انتهازية”، مشيرًا إلى دعم موسكو المستمر لدمشق في مجالات الاقتصاد والصناعة والزراعة والطاقة، واستمرار المشاريع التي بدأت منذ العهد السوفيتي وما بعد عام 2011.
لافروف تناول أيضًا موضوع القواعد العسكرية الروسية في سوريا، موضحًا أن الرئيس فلاديمير بوتين أكد مرارًا أن الوجود الروسي “لن يستمر رغماً عن إرادة القيادة السورية”، لكنه لفت إلى أن “القيادة السورية وعدداً من دول المنطقة مهتمون ببقاء هذا الوجود”. كما شدد على أهمية مشاركة أحمد الشرع في القمة الروسية – العربية المقررة في 15 أكتوبر، متوقعًا أن تشهد القمة “محادثات جادة” حول مستقبل العلاقات الروسية العربية.
وأشار لافروف إلى “المخاطر الجسيمة المرتبطة بالمشكلة الكردية”، محذرًا من محاولات “التلاعب بورقة الأكراد تحت شعار الحكم الذاتي والانفصال”، والتي قد تؤدي إلى “تفجير” القضية في دول أخرى بالمنطقة، داعيًا إلى إدراك أن “وحدة سوريا تمثل مصلحة مشتركة للجميع”.
على صعيد التعاون العسكري، يُعد ملف إعادة بناء الجيش السوري من أبرز مجالات الشراكة المستقبلية بين البلدين. إذ تم تدمير معظم العتاد العسكري التابع للنظام السابق بفعل الغارات الإسرائيلية التي استهدفت مواقع ومطارات كانت تشكل تهديدًا لتل أبيب.
ولا يزال لدى الجيش السوري الجديد معدات وأسلحة روسية وسوفيتية المنشأ، ما يجعل عملية إعادة التأهيل والتطوير مرتبطة بموسكو التي تمتلك خبرة واسعة في التدريب والعمليات العسكرية خارج حدودها. كما تمثل العقوبات الدولية المفروضة على سوريا عقبة أمام أي صفقات تسليح غربية، بينما تعمل جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة على منع رفع هذه العقوبات للحيلولة دون إعادة بناء القدرات العسكرية السورية.
ويرى خبراء أن مواجهة التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة، والتي بلغت ذروتها مؤخرًا مع الغزو الإسرائيلي لمحافظة القنيطرة، ممكنة عبر الوجود الروسي الذي يشكل عامل توازن. فروسيا، كعضو دائم في مجلس الأمن، قادرة على توفير غطاء دبلوماسي وسياسي يحدّ من التفوق الإسرائيلي المدعوم أمريكياً.
ويشير الخبراء إلى أن القيادة السورية الحالية تدرك أن التعاون مع موسكو بات ركيزة لا غنى عنها في ظل الأوضاع المعقدة داخليًا وإقليميًا، ما يستدعي تبني مقاربة دقيقة توازن بين الاستفادة من دعم الحليف الروسي والحفاظ على هامش القرار الوطني المستقل بما يحقق مصالح الشعب السوري.
 

 

صحافي و كاتب سياسي_ د. مناف سعد


التعليقات