لو كنت أعرف  المفاجأة الرائعة التي أعدّها إبني لي بكلّ حسن نيّة، ما كنت سخّرتُ كلّ ما أستطيع بسوء نيّة؛ لأثبت له بأنّه مخطئ.. ومابين إصرار ابني بحسن نيّته، وإصراري بنيّة سيّئة.. ضاجعنا الحرية بطريقة غير ديمقراطية؛ لتولد بعد مخاض عسير ديمقراطية عربية مشوّهة.. أبكتني خجلاً.. وها أنذا أعتذر، وأعترف..

 

ديمقراطية عربية ..!!

مازلتُ أذكر تماماً حين دُعِيتُ لإلقاء محاضرة حول مفهوم الديمقراطية في بلاد العالم الثالث، ومن ثمّ فتح حوارٍ ونقاشٍ مفتوح مع طلاب صف الباكالوريا في إحدى  مدارس المدينة التي أعيش فيها، إلّا أنّ ابني لم يوافقني بكلّ ماقلته بل أصرّ مثله مثل الكثيرين من الطلاب بأنّ الديمقراطية في كلّ العالم هي واحدة لا تتجزّأ أبداً..

وفي اعتقاده بأنّ الإتفاق الواضح والصريح مابين الحاكم والمحكوم هي التي تحمي الديمقراطية، وتعززها بشكل أفضل.. وسبب قناعته هذه يكمن بأنّ الوضوح والإتفاق بين الطرفين لا يدع مجالاً أبداً لأيّ طرف لاستخدام نوايا سيئة يستغلّها أحد الطرفين لمصالحه الخاصة، بحيث يتفوّق طرف على أخر، بينما كنت أصرُّ بأنّ الديمقراطية في العالم الثالث تخضع دائماً للتشويه بمعانيها تحت تسميات مختلفة لاستخدامها بطريقة سيئة حتى لو كان هناك اتفاق موقع يتضّمن نقاط ترضي الطرفين.. وذلك لأسباب وعوامل كثيرة جداً؛ أهمّها النمو السكاني والحاجة وتدخل الآخرين وإلخ...

ومرّت الأيام، وتصاعدت وتيرة الأحداث فيما يسمونه تارة بالربيع العربي، وتارة أخرى بالشتاء العربي، بأسماء أسبوعيّة لكلّ يوم جمعة حتى أن هناك من يجمع التسميات حتى يصنفهم في موسوعة غينيز للأرقام القياسية..

ويجب أن أعترف هنا بأنّني منذ تلك المحاضرة، وأنا أتحيّن الفرصة لأثبت وجهة نظري، حتى جاءت الفرصة حين طلبتُ من ابني أن يرافقني لمدينة قريبة تبعد حوالي نصف ساعة بالسيارة، فوافق بشرط أن أكون ديمقراطياً بسماع الأغاني، بحيث نسمع أغاني عربية بالذهاب، وأغاني سويدية بالإياب، فنظرتُ إليه وقلت له بكلّ ثقة: تكرم عينك.. ثمّ أكملت بخبثٍ، وأنا أضمرُ له مقلباً: وحتى أبرهن لك عن ديمقراطيتي أكثر سنضع أغنية عربية وأغنية سويدية بالتناوب.. وستكون الأغنية الأولى سويدية.. مارأيك؟؟

وأعجبه كلامي وقال: هل رأيت هذه هي الديمقراطية الصحيحة!؟

الديمقراطية:هي أن يكون هناك من يطالب ويناقش، وتتم الموافقة من الطرفين.

فقلت له ضاحكاً: وهل أنت موافق على هذا !؟

فحضنني بشدّة وقال: طبعاً.. وسيكون لك مني مفاجأة سعيدة جداً..

فقلت في نفسي: وأنت أيضاً سيكون لك مفاجاة، ولكن لا أعتقد بأنّها ستكون سعيدة، وكتمت ضحكة كادت تفضحني..

في الطريق دعيته أن يضع أغنية سويدية أولاً فرفض إلّا أن تكون أغنية عربية ولعدّة أسباب؛ أولاً نحن لا ننكر جذورنا، وثانياً احتراماً لأنّي الكبير، وثالثاً كنوعٍ من الشكر لأنّي وافقت على اقتراحه.. وابتسمت ووضعت أغنية أم كلثوم/أنت عمري/.. وبدأت الموسيقا، وبعد قليل سألني إن كانت أغنية أو موسيقا فقط فقلت له: طبعاً أغنية، واستمرينا في طريقنا ونحن نسمع، ومّرت خمس دقائق ثمّ عاد يسألني مستغرباً: هل أنت متأكد بأنّها أغنية!؟

أنا لا أسمع إلّا موسيقا.. فقلت له: نعم أغنية أنتظر قليلاً.. وبدأت الأغنية وأنا أقول: الله يا أم كلثوم.. رزق الله.. والله زمان.. ثمّ قاطعني بعصبية: نكاد نصل للمدينة والأغنية لم تنتهي بعد.. فقلت له ببرود: هي في الحقيقة لم تبدأ بعد.. واستغرب وقال: لم تبدأ نصف ساعة ولم تبدأ !!!!!!!!؟؟؟ كيف!؟

فقلت له: هذه الأغنية حفلة وهي بحدود ساعة ونصف.. وانتفض كمن لسعه عقرب وقال: ماذا.. ساعة ونصف!؟  قلت له: ويمكن أكثر أيضاً.. أحياناً يُعاد المقطع أكثر من مرّة حسب رغبة الناس.. فسألني: والناس لاتتعب من طول الأغنية!؟ فقلت: لا أبداً.. بالعكس هي مسرورة جداً.. هذه أم كلثوم.. فعاد يسألني: وهل هناك رقصة عربية طويلة لهذه الاغنية!؟ قلت: لا.. الناس لم تكن ترقص حين تغني أمّ كلثوم، بل كانت تجلس بمسرح وتسمع، فزاد استغرابه: تجلس ساعة ونصف ويمكن أكثر، وهي تسمع مطربة جالسة تغني وتعيد، وتقول لي بأنّهم سعداء!!.. فهزّيت رأسي بالإيجاب، وأنا أسترق النظر إليه مبتهجاً بانتصاري.. ووصلنا المكان، وركنت السيارة وقلت له: أنا أحببت أن أبرهن لك بأن الديمقراطية يمكن اختراقها مهما وضعنا لها قواعد ونقاط اتفاق طالما هناك سوء نية بالتنفيذ، وهذا ما يحدث للأسف..

نظر ابني في عيوني وقال: أعرف هذا، ولكن لم تكُ مضطراً أبداً أن تخدعني بسوء نية بلعبة الأغاني لتثبت لي كلامك، كان يكفي أن تدعني أكتشفه بنفسي، خاصةً وأنّك فعلاً رجلٌ ديمقراطيٌّ وأنا أعرف هذا.. ولكن.. صمت قليلاً ثمّ سحب سي دي وتابع كلامه: في هذا السي دي الأغنية التي كنت أريدك أن تسمعها؛ اسمعها لوحدك حين يكون لديك وقت، لأنّني لن أعود معك ومع أم كلثوم، بل سأذهب لزيارة بيت خالي، وأشار بيده كمن يودعني ومشى لحاله، وحزنت لما فعلته.

 وفي طريق عودتي، نظرت إلى السي دي، قلبته لم يكُ مكتوب عليه شيئاً.. وضعته في آلة التسجيل، وسمعت ما جعلني أوقف السيارة فجأة، وأسمع صوت إبني وهو يقول: هذا ألبومي الغنائي الأول من كتابتي وغنائي مع فرقتي المتواضعة؛ والألبوم يحمل عنوان الأغنية الأولى/في عيون أبي/.. تلك العيون التي لم ولن أرَ مثلها أبداً.. وبدأت الموسيقا.. وسمعت صوته يغني، وشعرت بدموعٍ ساخنة، ولم أعرف إن كانت دموع فرحٍ لما سمعته وعرفته أو دموع ندمٍ لأنّني بأنانيّتي وسوء نيّتي، ولأثبت لاِبني نظرية ما، حرمته من متعة هديّته الرائعة؛ هدية العمر كله. اتصلت به هاتفياً وقلت له: شكراً.. أنا قادم إنتظرني.. وأدرت محرّك السيارة وعدّتُ إليه، ركنت السيارة فوجدته ينتظرني، فهرعت إليه، فركض إليّ، وعانقته وعانقني، واعتذرت منه وشكرته وقبلته، فمد يده يمسح دموعي وقال:لا أريد أن أرى دموعاً في عيون أبي التي أحبّها جداً..

 

 

وها أنذا الآن أعترف بأنّني لو كنت أعرف المفاجأة الرائعة التي أعدّها ابني لي بكلّ حسن نية، ما كنت سخّرت كلّ ما أستطيع بسوء نيّة؛ لأثبت له بأنّه مخطئ، ومابين إصرار ابني بحسن نيّته، وإصراري بنيّة سيّئة، ضاجعنا الحرية بطريقة غير ديمقراطية؛ لتولد بعد مخاض عسير ديمقراطية عربية مشوهة.. أبكتني خجلاً.. وها أنذا أعتذر، وأعترف؛ لتكون عبرة لمن يريد.

 

 

سيريا ديلي نيوز


التعليقات