خاص - سيريا ديلي نيوز
في أصعب وأقسى اللحظات المصيرية التي يمر بها الإنسان؛ يمكن للضعف أن يسيطر عليه؛ وللحزن أن يتملك قلبه؛ وللخيبة أن تحسم قراره، فإمّا أن تتغلب عليه نفسه أو يتغلب عليها.. ولكن كيف للمرء أن يكون مُتحدياً لذاته المحكومة بقسوة اللحظة؟؟ ومصيرية القرار؟؟
هذا لايكون إلا حين تمتزج في الذات عراقة المنشأ ليسطع الوفاء.. وصلابة الإرادة لتزلزل القوة.. وحكمة العقل ليكون الحسم..
وحين تكتنزهذه الروح ببراءة طفل لايفارقها.. وتستكين بنفحات إيمان تُعطّرها.. وتعتمر بعشق يختلجها..
عندها فقط تلتحم القوة والعزيمة مع الوفاء والإيمان والحب.. ليولد الفرح من رحم الحزن.. ويسطع الحق من ظلمة الباطل.
كل هذا التناغم الممتع نعيشه مع ما مر به كاتبنا يعقوب مراد في الجزء/30/ من خلال ما خطته روحه بكل صدق وعفوية وإحساس يلامس الوجدان.
في حضن الشيطان ـ 30
هكذا وضعْتُ الأمورَ في نصابها المنطقي؛ وشعرتُ بسعادةٍ لترتيب الأحداث بشكلٍ عقلانيّ قد أرضى غروري بالنجاة من هذا الفخ الذي نُصبَ لي بعناية، ولكن يبقى احتمال واحد: ماذا لو كذب أحدهما لينجو بنفسه!؟
مسيو جان بول مثلاً! فأنا لم أره منذ أربع سنوات؛ ويمكن أن يكون قد غيّر طريقة تفكيره وأسلوب حياته ولفّق أي تُهمة لي لأقع في الفخ وينجو بنفسه!؟
وأرعبني هذا الاستنتاج..
واتخذتُ قراري أنا، وصمّمتُ أن أمضي للنهاية حتى لو كانت بعكس ماأتمنى، على الأقل سيكون قراري صورة طبق الأصل عن شخصيتي أنا...
خبَطتُ يدي على الطاولة وقلت: ـ أيّها السادة.. مُذْ جئتُم بي إلى هنا وأنتم تنهالون عليّ بأسئلتكم المُحرجة تارةً والشخصية تارةً أخرى، وكانت لي إجابة واحدة هي الحقيقة، ولاشيء سوى الحقيقة رغم التهديد والترغيب والتخويف،وهاأنا الآن أُعيدُ ماقلتهُ وسأبقى أقوله ولو بعد ألف عام... أنا مُصرٌّ على كلّ كلامي ولاأعرف ماذا قالت إليزابيت!! ولا أعرف ماذا قال السيد جان بول!! ولا يهمني أن أعرفَ ذلك، كل مايهمني هو كلامي أنا.. أنا لا أعرف شيئاً عن تنظيم الهاربون، وهذا هو جوابي النهائي.. وصمتت وأنا أتأمل ردةَ فعلهم..
أعترفُ بأنّ أصابعَ قدمي كانت ترتعشُ قلقاً، وكنت أبذلُ مجهوداً جباراً للحفاظ على هدوء أعصابي وأنا أقولُ كلامي وعيني تراقبُ تأثيرَ الكلام على وجوه الحاضرين في محاولةٍ لمعرفة ردة فعلهم، وكان القلق والتوتر يكبران كلّما لاحظتُ الاستغرابَ وعدمَ الاقتناع على ملامحهم؛ ولكن... لم يكُنْ أمامي خيار آخر سوى عبارة شكسيبر الشهيرة في مسرحية هاملت: أن أكون أو لا أكون تلك هي المسألة.. وهاأنا اتخَذْتُ قراري وقلتُ كلمةَ الحسم التي قد تُخرجني من هذا المكان اللّعين أو.. تكون حياتي هي ثمن أن أكون!..
هذه المسرحية الخالدة التي بقيت في ذاكرتنا والتي لم أتصوّرْ بأن أعيشَ أحداثها وأكون يوماً في موقف هاملت..
رأيتُ فيفي تُغْلقُ جهازَ الكومبيوتر؛ وتُلَملمُ أوراقَها وتنهضُ برفقة ألكسندر وماركوس وابراهام؛ وبصُحْبتهم مسيو جان بول.. ليغادروا القاعةَ بدون أن يقولوا شيئاً..
وجدت نفسي وحدي من جديد؛ ولكن هذه المرة كنتُ أشْبَه بمَنْ أوقعَ نفسهُ بالرّمال المُتحرّكة ويحاول النجاةَ بدون أيّ فائدة..
كانت الأفكارُ تتقاذفني والحيرةُ تأكلُني؛ وكنتُ أشعرُ بحاجةٍ لفنجان قهوةٍ وصوت فيروز؛ فرسمْتُ على الورقة فنجانَ قهوةٍ وكتبتُ:
لو كانَ قلبي معي ما اخترتُ غيرَكُم.. ولا رضيتُ سواكُم في الهوى بدلا..
لكنه راغبٌ في مَنْ يُعذّبهُ.. وليس يَقبلُ لا لوماً ولا عَدَلا..
قمرٌ تكامل في نهاية حُسْنه مثلَ القضيب على رشاقة قدّه..
فالبدر يطلعُ من ضياء جبينه والشمسُ تَغْربُ في شقائق خدّه..
ملَكَ الجمال بأسره فكأنّما.. حُسن البريّة كلها من عنده..
يا مَنْ حوى ورْدَ الرياض بخدّه.. وحكى قضيب الخَيزران بقَدّه..
دَعْ عنكَ ذا السيف الذي جرّدتهُ.. عيناكَ أمضا من مضارب حدّه..
كُلّ السيوف قواطعٌ إن جُرّدَتْ.. وحُسامُ لَحْظكَ قاطعٌ في غمده..
إنْ شئْتَ تقتلني.. فأنت مُحكّمٌ.. من ذا يُطالبُ سيدٌ في عبده..
وتأملتُ فنجانَ القهوة؛ وتخيّلتُ مذاقَهُ في فمي؛ وعُدْتُ أقرأ ماكتبته من شعر عنترةَ بن شدّادْ وتساءلت: كيف تجتمعُ قوة عنترة برومانسية العاشق لتولد أغنية بصوت فيروز تعيش مدى العمر!؟..
وفجأة فتحت فيفي الباب وأطلَتْ برأسها تدعوني لمُرافقتها وهي تقول:ـ تعال هناك مَنْ يريد أن يراك..
مشيتُ بجانبها وأنا أتوجّسُ شراً؛ وفي قلبي كنت أقول: يارب..
دخلنا مكاناً كبيراً أشْبَه بكازينو؛ ووجدت أمامي جَمْعاً غفيراً من الرجال والنساء؛ ورأيت رجلاً يقف على مسرح وبيده مايكروفون يُرَحب بي ويدعوني إليه...
كنت أقترب من المسرح وأنا في حالة ذهول ممّا أرى: ـ هذه إليزابيت ضاحكةً تمُدّ يدها تلامس يدي؛... وهذا فريدريك يضع يده على كتفي؛... وهذا صديقي ملك النبيذ؛... وهذا البروفسور ج . م الخبير الاقتصادي الذي كان لسنوات طويلة يَشْغلُ منصب مستشار اقتصادي للبنك الدولي؛ والذي قال لي باللقاء الأول بأنّ لديه وثائق ومستندات هامة جداً؛... ـ وهذا وزير المالية السابق لإحدى الدول والذي كان على صلة مباشرة بكل العقود والرشاوي وغسيل الأموال في بلده؛... وهذا رجل الأعمال الملياردير الذي كان يُطْلب منه تمويل صفقات الأسلحة الغير شرعية لمنظماتٍ على لائحة الإرهاب الدولي؛... وهاأنا أرى الخبير القانوني الذي عمل لسنوات طويلة في الأمم المتحدة وكانت مهمته الوحيدة إيجاد الثغرات لتمرير عراقيل في تفاصيل العقود والإتفاقيات وكانت لعبته المفضلة بالتفاصيل لهذا كان يحقق مايريده من خلال عبارة السياسيين الشهيرة ـ الشيطان يَكْمُن بالتفاصيل؛... وهاهو عرّاب صفقات الأسلحة لمنظمات ومؤسسات وأفراد؛... وهاهي مسؤولة العلاقات العامة في البنك الدولي والمشرفة على كل العلاقات الإباحية واللاأخلاقية لتوريط رجال لهم قوة ونفوذ؛... وهاهو الجنرال المتقاعد الذي كانت مهمته وضع خطط عسكرية لصالح الجهات والمنظمات التي لديها طموحات سياسية أو عسكرية أو دينية؛... وهذا هو رجل الدين الذي كان وسيط الشيطان ينفذ مايطلب منه بفتوى يمررها لمن يهمه الأمر ..ولمن يدفع أكثر؛... ورجل الجمارك الذي كان يمرر كل ماهو ممنوع وكانت مهمته تمرير كل مايطلب منه؛... وهاهو الطيار الخاص طيار المهمات الخاصة والمحرّمة وناقل الرسائل الخاصة جداً؛... وهاأنا أرى في هذه القاعة كل الهاربون من بلادهم؛ البروفسور والوزير وكل أعضاء تنظيم الهاربون الذين التقيتهم في رودوس!! كلهم مجتمعين في حفلة وكأنني في حفل توزيع جوائز الأوسكار..
ووسط عاصفة من التصفيق صعدت خشبة المسرح لأجد نفسي وجهاً لوجه مع البروفسور توماس الذي هرع إلي يحضنني ويعانقني ويضع يده على كتفي ويقول بصوتٍ جهوري مخاطباً الحضور: ـ هذا هو إبني الذي سُررْتُ به .. وضحك .. ثم عاد يقول: ـ لن أسرقَ كلامَ السّيد المسيح؛ ولكن لم أجدْ عبارةً أخرى أُرحّب بها بصديقي الذي أثبتَ بكل مراحل الإختبار أنه إنسان جدير أن نتعاون معه ونساعده ليفهمَ الحقيقةَ..
وبعد عاصفةٍ من التصفيق عاد يقول: حين جاء إليّ في مكتبي بالسويد يطلب المساعدة بمعرفة الحقيقة طلبْتُ منه المجيء إلى رودوس ولقاء الأصدقاء؛ ولكن كان هناك مَنْ يُشَكّك به وبانتمائه، وكان هناك من يتخوّف من أن نكشفَ له أوراقنا كلها وكأنّه عضو معنا.. وأمام المتحمسين له والمتخوفين كان لابدّ من امتحان صعب وصعب جداً ليتأكد المتخوّفون أننا على حق وأنه يستحق الثقة.. اسمح لي ياصديقي أن أُرحبَ بك مع تنظيم الهاربون الذين كرّسوا حياتهم من أجل خير الإنسان للتكفير عن الذنوب التي اقترفوها خلال مشوار حياتهم السياسي والعسكري والمهني...
وبنبرة صوتٍ عاليةٍ جداً وكأنّه يُقدم مطرباً مشهوراً قال: اسمح لي أيضاً أن أقدم لك رئيس ومؤسس منظمة الهاربون بلاحدود...
بين حزمة الأضواء القوية كنت أحاول أن أتبيّنَ وجه الرّجُل القادم من خلف القاعة الكبيرة وهو يتقدم بخطواتٍ متّزنةٍ وسْطَ عاصفة من التصفيق المدوّية.. وماكاد يصل خشبة المسرح حتى رأيته يقترب مني وهو يبتسمُ ابتسامةَ الفرح ..ابتسامةَ النصر.. الابتسامةُ التي أحببتها دائماً.. ابتسامة الحياة والموت.. ابتسامة جان بول!!
تنويه: في حضن الشيطان ./ بحث وتحقيق وأحداث حقيقية تمت كتابتها في صيف 2013
ـــــــــــ . يعقوب مراد . ـــــــــــــ
يمكنكم قراءة سلسلة "في حضن الشيطان" من البداية على الرابط التالي: يعقوبيات مغترب
سيريا ديلي نيوز
2014-10-02 10:26:42
A.IAKOVO