ثمة جانب نصيّ في الحرب السورية لا يمكن إغفاله أو التقليل من أهميته وحساسيته، بل يجب إيلاؤه الاعتبار المطلوب، وخاصةً في موضوع الدستور الذي سوف يحتل واجهة المشهد في المرحلة المقبلة. وقد كانت النصوص بمثابة "بنية تحتية" وجزء من إعدادات وأدوات الحرب أيضاً، كما كانت قاعات وزارات الخارجية والمنظمات الدولية وردهات الفنادق الفخمة حول العالم ساحات لـ "مواجهات نصية" في الأزمة السورية، لم تكن تقل أهمية وخطورة عن ساحات المعارك، كما لو أن "النص" هو "أصل" أو شرط لأن تتحول الخطط والرهانات بما هي نصوص إلى حرب.

في الوقت الذي تحاول الحكومة السورية فيه تحويل الإنجاز العسكري والميداني إلى فعل سياسي يتجلى في صيغ دستورية وسياسية وتسويات وتوافقات؛ فإن خصومها يحاولون أن تكون المداولات حول الدستور استمراراً لما كان في بدايات الأزمة، إذ تؤكد الولايات المتحدة وحلفاؤها والأمم المتحدة على "فك الارتباط" بين الواقع والميدان حيث يتقدم الجيش السوري وبين عملية الحل أو التسوية.

الاصطفافات حول الدستور اليوم هي اصطفافات الحرب، البعد السوري أقل ما فيها، فيما تبدو المعارضة واجهة أو منصة لفواعل إقليمية ودولية معروفة، ولم يعد ثمة حرج في الإفصاح عن ذلك، وقد أعلنت تركيا –وأيّدتها في ذلك جماعات المعارضة– أنها هي المخولة بإعداد قائمة تتضمن الأسماء المقترحة لممثلي المعارضة في اللجنة الدستورية.

السؤال المطروح اليوم هو: أي إطار مرجعي لعملية الدستور في الأزمة السورية، وأي منوال لها؟ ثمة نمطية عامة يشعر أطراف كثيرون أنها موائمة، وهي عادة ما تأخذ من تجربتين أو نمطين عامين: الأول هو المركزية الغربية في السياسة والنظم السياسية والدستورية، وما يعتقد الغرب وحلفاؤه ومريدوه أنه منسجم مع معايير الديمقراطية والمشاركة وبناء الأمم والدول، والثاني هو تجارب الغرب بالذات في "بناء الدول" ما بعد الحرب، وخاصةً بناء الدول بعد الاحتلال الأمريكي، كما حدث في أفغانستان والعراق، وثمة تجارب البناء الدستوري والدولتي التي تولتها أو شاركت فيها الأمم المتحدة كما في البوسنة وتيمور الشرقية وعدد من الدول الأفريقية التي شهدت أزمات وحروباً داخلية وخارجية مركبة.

السؤال المطروح أيضاً هو: أي عملية لصناعة الدستور في مجتمعات الحرب وما بعد الحرب، وألا يمثل ذلك "تظهيراً" لتوافقات وتوازنات أو لا توازنات الحرب نفسها؛ وهل ينبغي أن تكرس العملية الدستورية إرادةَ الفائزين الدوليين والإقليميين بالتمام (هل هذا مطروح بالفعل؟) أم تراعي أن تكون عملية "متفق عليها" وتراعي ضرورة خلق ميزان وعقد اجتماعي وعقد دستوري جديد؛ وما هو دور "الخارج" و"الآخر" في عملية الحل أو التسوية، وما هو دورهم في عملية الدستور، وأي علاقة للعملية في فهم طبيعة البلد ما بعد الحرب، ألا يجب أن يتم التوصل إلى توافق على الانتقال للسياسة، وبناء السلام ثم يأتي بعد ذلك بناء الدستور، بحيث يكون الحديث في الدستور هو محاولة لـ "تظهير" و"تثبيت" ما يتم الاتفاق عليه؟

ثمة مستوى آخر من الأسئلة، مثل: ما هي الأسئلة الكبرى والاشتراطات الكبرى خلف عملية صناعة الدستور، هل يخاف الفائزون، أي دمشق وحلفائها، من العملية فيحاولون وضع حدود وشروط تحول دون عودة الحرب من باب الأسلمة والمذهبة والتطييف، وأي ذرائع للتغلغل الخارجي؟ وهل يخاف المعارضون وحلفاؤهم من تمركز السلطات والموارد وعوامل القوة والقرار، فيحاولون الحيلولة دون ذلك (التمركز)، ومن ثمّ بناء دولة أقل مركزية من حيث المعنى ومن حيث القوة والسلطات؟ وإلى أي حد يمكن أن تتمفصل إرادة عدم التمركز لدى هؤلاء مع إرادة الخارج الذي لا يريد دولة قوية في سورية؟

وهكذا، فإن العملية الدستورية محكومة بسؤال رئيس وهو أي دستور لأي دولة؟ ويتعلق الأمر بنوع الحل أو التسوية للأزمة. وعندما تفكر الدول وفواعل الأزمة السورية في دستور لسورية، فهي تفكر في محددات السياسة والدولة السورية، ولا بد أنها تعمل ما أمكنها على فرص تصورها للدولة التي تريدها أو تريد أن تتعامل معها في المستقبل.

إن دمشق وحلفاءها قد لا يريدون العودة إلى ما كان قبل الحرب، إنما دستور معدل أو جديد لنظام سياسي ودولة مختلفة قليلاً أو كثيراً (لن ندخل في التسمية أو التوصيف الموائم الآن) تكون أكثر ثباتاً من جهة وأكثر قدرة على احتواء مصادر التهديد من جهة ثانية، وأما خصوم دمشق (وجماعات المعارضة الموالية لهم) فيريدون دولة مختلفة بالتمام إن أمكن، وإن لم يكن فدولة أقل صلة بما كان قبل الحرب –من حيث تمركز مصادر القوة والموارد– وأقل قدرة على إثارة المتاعب!

قد تدفع التجاذبات والرهانات الإقليمية والدولية، وإلى حد ما الداخلية، نحو دستور لدولة سوريّة تكون "مستقرة بما يكفي" في الداخل، ولكن "غير قادرة" على مباشرة طموحات خارج حدودها، دولة مصممة بحيث تكون مفخخة بالعنف ومن الصعب على أي إيديولوجيا أو كتلة اجتماعية أن تعيد النظر في السياسة أو تعيد النظر في موقف وموقع الدولة في النظام الإقليمي والعالمي، وإذا ما فكرت فواعل أو قوى بذلك، فهذا يعني تجدد الصراع داخل الدولة نفسها. ومثال العراق ولبنان يمكن أن يساعدا في توضيح ذلك. وهذا هو قلب الموضوع اليوم. ويجب على السوريين أن يتدبروا ما هم فاعلون! وللحديث بقية.

مركز دمشق للابحاث والدراسات "مداد"

 

سيريا ديلي نيوز


التعليقات