منذ بداية الازمة السورية كانت الشاحنات التركية تجول المناطق الحدودية لشراء محصول القمح من المزارعين وتهريبه إلى تركيا، ثم جاءت عمليات السرقة والنهب التي قامت بها المجموعات المسلحة، واستهدفت من خلالها المستودعات ومراكز التجميع وحقول المزارعين، وصولاً إلى المخاطر والمتاعب التي يتكبدها المزارع للوصول بمحصوله إلى مراكز الاستلام الحكومية، وما أنتجه ذلك من ظهور تجار وسماسرة يستغلون ظروف المزارع، وعجز مؤسسات الدولة عن القيام بخطوات استباقية.
وفي كل مرة، كان المهتمون يطالبون بتحرك حكومي فاعل وإجراءات غير تقليدية لزيادة فعالية عمليات التسويق، ومنح المزيد من الميزات والتسهيل للمزارعين لتشجيعهم على بيع محصولهم للدولة.
لكن النتيجة كانت خسارة سنوية تدريجياً لآلاف الأطنان من القمح، وزيادة مستوردات البلاد من هذه المادة الاستراتيجية، والأخطر استبدال العديد من المزارعين زراعة المحاصيل الاستراتيجية بالتوابل وغيرها.
اليوم.. ليس هناك ما يبشر بالخير، رغم أن الحكومة قالت إن إحدى أهم أولوياتها هي لزيادة الإنتاج الزراعي، والسعي لتحقيق الأمن الغذائي الأسري، فالأرقام التي حصلت عليها "الأيام"، والمتعلقة بكميات القمح التي جرى تسويقها إلى اليوم، تكشف أن مؤسسة الحبوب لم تنجح إلّا بتسوق نحو 260 ألف طن "لغاية 26 تموز" منها 155 ألف طن في الحسكة، وذلك من إجمالي التوقعات الفعلية القائلة إن إنتاج سورية هذا العام من القمح لا يتجاوز 800 ألف طن، وهي توقعات تخالف بيانات وزارة الزراعة التي لا تزال تعد وتنجز من خلف المكاتب، وبناء على بيانات ما قبل الأزمة، وتخالف كذلك تقديرات منظمة الفاو، التي توقعت مؤخراً أن يصل الإنتاج إلى نحو 1,8 مليون طن.
هذا يعني أن الكميات التي استطاعت مؤسسة الحبوب تسوقها لا تزيد نسبتها على 32,5 % من إجمالي التوقعات الفعلية لحجم إنتاج البلاد هذا الموسم، وتقل هذه النسبة لتصل إلى نحو 11,9 % مقارنة بتوقعات وزارة الزراعة القائلة بحجم إنتاج يصل إلى 2,17 مليون طن، وإلى 14,4% وفقاً لتقديرات منظمة "الفاو"
وهنا نتسائل .. أين تذهب الكمية المتبقية من الأقماح والبالغة نحو 540 ألف طن؟.
حسب مصادر خاصة في مؤسسة الحبوب، فإن الكمية المنتجة كل موسم لا تسوق بالكامل أو بالأحرى لا تطرح بكاملها للبيع، إذ إن الفلاح يحتفظ تقريباً بنحو 25 % من إنتاجه لاستخدامه كبذار في الموسم القادم، وكمونة سنوية للاستهلاك، وغيرها. وعلى ذلك فإن الكمية التي تطرح للبيع تقدر نسبتها بنحو 75 % من إجمالي الإنتاج، أي إن ما طرح للبيع هذا الموسم يقدر بنحو 600 ألف طن، ذهب منها لمؤسسة الحبوب حتى تاريخه نحو 260 ألف طن، ليبقى بذلك نحو 340 ألف طن!.
وتضيف المصادر: المعلومات الأولية تشير إلى أن الجهات الكردية قامت بتسوق نحو 160 ألف طن، وتحديداً من أربع مناطق رئيسية أهمها: عامودا، الدرباسية، المالكية.. هذا رغم أن سعر شراء محصول القمح المحدد من الجهات الكردية، أقل بنحو ليرتين من السعر المحدد من الحكومة السورية..!
وتوضح المصادر قدرة الجهات الكردية على تسوق كميات أكبر من الكميات المسلمة إلى مؤسسة الحبوب رغم فارق السعر بسببين: الأول سيطرة مجموعات مسلحة كردية على بعض المناطق الرئيسية المعروفة بزراعة القمح، والثاني يعود إلى إجراءات الاستلام وما يشوبها من مشكلات ومعاناة تواجه الفلاحين، فضلاً عن إجراءات أخرى كان يفترض بوزارة التجارة الداخلية اتخاذها للتعامل مع الوضع المستجد في عمليات تسويق محصول القمح، لكن الوزارة فضلت كما في الحكومة السابقة "دفن رأسها بالرمال" بدليل أن تعاطيها مع ملف القمح كاملاً تشوبه مخالفات وإخفاقات كثيرة، وتتوفر لدينا كثير من الوثائق في هذا السياق، وسيتم نشرها تباعاً.
وإلى جانب الفصائل الكردية تحضر أيضاً المجموعات المسلحة والجهات المرتبطة بها والممولة من الخارج، حيث تسعى هذه الجهات لشراء القمح من المزارعين بإجراءات تتحول إلى قسرية في المناطق التي تخضع لسيطرتها.
في الحديث عن طبيعة المعاناة والمشكلات التي يتعرض لها الفلاح أثناء تسليمه لمحصوله من القمح، يحضر ما يمكن تسميته بإجراءات "التطفيش"، والتي تمثل سبباً رئيسياً يحول دون تسليم الفلاحين للقمح المنتج إلى مؤسسة الحبوب، إذ وفق ما تؤكد عدة كتب أرسلها الاتحاد العام للفلاحين إلى وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك فإن بعض مراكز استلام الحبوب تقوم بتسعير المحصول بأسعار متدنية جداً وتكاد تكون معدومة بحجة وجود شعير أو إصابة المحصول بالسونة وتدني الوزن النوعي، وهو يشكل من وجهة نظر اتحاد الفلاحين "ظلماً وإجحافاً بحق الفلاحين وستكون له آثار سلبية على عملية تسويق القمح".
ويقدم الاتحاد في كتبه التي حولت للدراسة والعرض، لكن بعد فوات الأوان، أمثلة عن الأسعار المتدنية والمثير للسخرية فعلاً، فأحد الفلاحين تفاجأ بسعر ثلاث ليرات وثلاثين قرشاً للكيلو الغرام الواحد، علماً أن السعر المحدد من الحكومة يبلغ 140 ليرة، وهناك فلاح آخر حظي بسعر أربع ليرات وسبعة وأربعين قرشاً، والقائمة تطول وفق ما هو منشور جانباً.
قد تكون مراكز استلام الحبوب تطبق تعليمات الاستلام المحددة للمواصفات والشروط، لكن يفترض أن يكون للظروف الحالية وتطوراتها المتعلقة بإنتاج المحصول والمنافسين دافعاً لاعتماد تعليمات أقل تشدداً، فالمشكلة ليست في الموسم الحالي كما كنا نقول منذ العام 2013 وإنما في المرسم القادم، والذي كان يشهد طوال السنوات الماضية تراجعاً في الكميات المسلمة لمؤسسة الحبوب، ومن دون أن يفعل الوزراء المتعاقبون على التجارة الداخلية، الزراعة، الاقتصاد، والمالية شيئاً يحول دون التدهور في حالة الأمن الغذائي لمحصول القمح.
أحد الفلاحين، الذين تواصلوا مع "الأيام"، يقول: إذا كانت مراكز الاستلام لا تستطيع أن تدفع للفلاح ثمناً مقبولاً للكميات التي سلمها بحجة وجود شعير وسونة وغير ذلك، فعلى الأقل لماذا لا تعاد هذه الكميات للفلاح، لبيعها في أسوأ الاحتمالات علفاً للحيوانات، وهي خطوة يمكن أن تؤمن له سعراً أفضل من ذلك السعر الذي منح له من تلك المراكز.
يذكر المهندس حسان قطنا الخبير في الشؤون الزراعية والتنموية أسباباً أخرى لعدم بيع المزارعين إنتاجهم لمؤسسة الحبوب منها أن التجار يقومون بشراء القمح من المزارعين بسعر يوازي أو أعلى بعشرين ليرة سورية من الأسعار المحددة من الحكومة للتسويق، حيث يقوم التجار بشراء المحصول من أرض المزارع بسعر يتم تقديره حسب الصنف وكمية الأجرام والشوائب وغيرها، ويتم دفع القيمة مباشرة من التاجر.
هذا الأسلوب الذي يتبعه التجار في شراء المحصول يحقق للمزارع مصالح متعددة، الأمر الذي يجعله يتخلى عن تسويق المحصول لمؤسسة الحبوب الحكومية.
قبل الأزمة، لم تعتمد الدولة على إجراءاتها "القسرية" الملزمة للفلاح ببيع محصوله لمؤسسة الحبوب فقط، وإنما كانت تدفع له سعراً أفضل بكثير من السعر العالمي، وتمنحه تسهيلات مالية ومصرفية وبذار مجاني وغير ذلك من إجراءات الدعم التي حققت للبلاد إنتاجاً سنوياً يتجاوز 5,5 ملايين طن.
صحيح أن ذلك كان يرتب على خزينة الدولة عجزاً سنوياً بمليارات الليرات، لكن في المقابل كانت تضمن أمناً غذائياً لمواطنيها لعدة سنوات، وتتجنب عجزاً أكبر فيما لو اضطرت للاستيراد، والارتهان للخارج.
يحدد المهندس قطنا أربعة مقومات للعودة إلى استقطاب محصول القمح، وهي كالتالي:
أولاً- وضع منظومة جديدة للربط بين حاجة المؤسسة من القمح وبين المزارعين بعقود مسبقة لقاء تأمين مستلزمات الإنتاج.
ثانياً- منح المزارعين مكافأة تسليم لتغطية التكاليف الإضافية التي سيتكبدها المزارع للتحميل والتنزيل والنقل وتأمين أكياس الخيش وتكاليف العناء والانتظار لاستلام قيمة المحصول.
ثالثاً- عودة مؤسسة إكثار البذار والمصرف الزراعي لتوفير البذار المحسن والأسمدة في المناطق الآمنة وتحقيق استقرار أسعارها وتوفيرها على مدار الموسم الزراعي وتحقيق الاستقرار للمزارعين.
رابعاً- حل مشكلة تراجع الإنتاج، حيث يلاحظ أن محافظة الحسكة كانت تنتج قبل الأزمة ما لايقل عن 1.3 مليون طن قمح وفي عام 2016 أصبح 700 ألف طن وفي عام 2017 نحو 600 ألف طن، ومن المفيد التدقيق في الأرقام الإنتاجية وهل تم تخفيضها عن الواقع لردم الفجوة بين الإنتاج والتسويق وعدم إبراز التراجع في الكميات المستلم
سيريا ديلي نيوز
2017-08-02 11:58:32