سيريا ديلي نيوز _ د.نهلة عيسى
أمس، وذاكرتي المحمومة تهرول في دروب اللحظات المذبوحة على محراب نعوات، آه.. عفواً نشرات الأخبار، التي تقطر دماً، تذكرت فجأة، كرنين صفعة، جدولاً كنت قد وضعته أثناء تحضيري لرسالة الدكتوراه، دوّنت فيه كل الأشياء التي أريد تجربتها وخوض غمار عيشها، فور ترجّلي من وعورة الدروب إلى العلم، وعودتي من غربة الجسد والروح، إلى دفء الوطن، ووضوح الطريق، والملامح المُفَسرة لحياة، وفق ظني آنذاك، كان يجب أن تكون رائعة.
تذكرت الجدول الحلم، الذي بدأت بترتيب مفرداته وفق أولوياته، يوم سكنني الوطن لحظة غادرته، وقد كان جدولاً، أشبه بخطة عيش، لعاشق طريد، وجد حبيبته بين ذراعيه للمرة الأولى، فنطق الكون كله من حوله، لغة واحدة، لغة مشاعره وحواسه، وذاك الدوار العذب، الذي يحوّل حضن الحبيبة إلى وطن، يقصه الشوق للعيش فيه.. قطعتين، ويأمل بعد العيش الطويل، أن يدفن تابوته فيه!؟
تذكرت الجدول، وكيف رصصت فيه، الرياح فرساً لقادم أيامي، والطيور، الأسماك، الرمال، الخلجان، النجوم، أصدقاء لعمري، أنا العاشقة المتيّمة، الراضية بنصيبها، لحبيب غادر اسمه البحر، من الصعب السير على خطاه، أو حتى في موازاته، لكن من المستحيل العيش بدونه، ففي أصدافه يسكن القمر، وتلاطم أمواجه يلخّص ضوء ودفء وأنس وحنان وعذوبة الوطن؟
تذكرت الجدول، وكيف رسمت معظم ملامحه في القطارات التي كانت تقلّني في مدن الغربة المثقلة بالوحشة، حينما كانت دموعي تنهمر في قلبي، وكان الطريق إلى الوطن مرصوفاً بقرارات إدارية، تنصّ على ذبحي حيّة، فيما لو غامرت بإعلان الدكتوراه، غلطة مطبعية، في عمر قصير، القدر فيه يعشق النهايات الغامضة، ووحده من يستحق جائزة نوبل للرواية، رغم عدم مبالاته بالجائزة، لأن رأس نوبل بجلال قدرها، في قائمة ضحاياه!؟
تذكرت، كيف كنت أحلم بالتدفق كقطرة دم صغيرة داخل شرايين الوطن، لأستعيد ذاكرة الطيران والفرح والضحك من القلب، ولأصل إلى قلب الشام القديمة، حيث تضيق الأزقة، فتتسع ضربات قلب البساطة والسكينة والبهجة العلنية العفوية، حيث رائحة البصل المقلي مهرجان ألوان، يعد بمائدة شهية، وبملاقاة السيدة المدللة العصية “السعادة”، بل حتى بملامستها، لمجرّد أنك تشم!؟
تذكرت، يوم هبطت من طائرة الغربة، وجدولي وتصميمي على عيشه في يميني، كيف بدت لي أيدي الملوحين الفرحين بوصول أحبائهم، كأجنحة نورس، يحلّق فوق البحر، ويهدي إلى ضفافه؟ ولكن ما كدت أغسل غبار الغربة الطويلة، وأفتح حقائب السفر، لأوضب أمتعة الغد، حيث يجب أن تكون، اصطادت رصاصة قناصة جدولي وما فيه، ومسح السير على رؤوس الأصابع خوفاً من إزعاج بندقية إرهابي، كل حبر أحلامي، والتهمت القذائف والحواجز والمتاريس ونعوش الأحبة والأبناء، ورق الجدول، وقماش الغد، ووجهاً كنت قد حدّدت تضاريسه بريشة فنان ملهم، لرجل كان يجب أن يكون حبيباً!؟
تذكرت، وبعد سنين طويلة من قول كلمة “وداعاً” للوطن، بنبرة من يقول: “أحبك”، كيف رمتني منذ خمس سنوات، غربة الجسد على عتبات التيه في الوطن، حيث كل الملامح لا أذكرها، وكل الوجوه غريبة، وصدر الوطن مفروش بالمسامير، وكل الأحبة يبتسمون في وجهي، وأنا أودّعهم مقتولين، وكل سلام أردّ عليه، تلوّح لي به أيادٍ مبتورة!؟
تذكرت، كيف أنني منذ خمس سنوات، أتجول عارية من جدولي وكل الأحلام التي كانت فيه، وأكتفي بالعيش على فوهة الأمل، بأن لا تحوّلني – بغتة – قذيفة، إلى اسم مبني للمجهول، وأكتفي بالهرولة خلف صاحب الظل الطويل “الوطن”، أحاول رمرمة البيوت والجراح، ولصق أقدام أحلامي المقطوعة، ورتق الوجوه والملامح والمشاعر والدموع، والتظاهر بالعيش فوق ضرس الموت، حيث ماذا تفعل حين يكون الجريح وطناً؟ وماذا تستبدل به، وللواحد منا ألف حبيب، ووطن واحد؟
تذكرت، وأنا جالسة أمام التلفاز في وكر غربتي الحالية، أتمزق حزناً لأن أحداً لم يعد يذكر اسم دمشق أميرة الحزن والقلب، إلا في النعوات، واكتفيت بالمرور العابر على الذكريات، والعابر صادق، والمقيم رضا، كما اكتفيت باكتشاف أنني عندما قررت العيش، داهمني الموت، ألست محقّة عندما قلت: وحده القدر من يستحق جائزة نوبل للرواية، فهاهو يحصد رؤوسنا جوائز، ويمدّ لسانه للجائزة سخرية!؟
سيريا ديلي نيوز
2016-02-03 15:01:25