يتوفر لدى معظم البنوك العاملة في سوريا “العامة والخاصة” فوائض مالية كبيرة جاهزة للتوظيف، لا تستطيع هذه المصارف أن توظفها لأسباب عديدة، لا يتسع الإطار الراهن لمناقشتها، أو الدخول في تفاصيلها، مع الأخذ بالحسبان، أن معظم البنوك المذكورة قدمت في الآونة الأخيرة، تسهيلات كثيرة، بهدف تحفيز عملية الاقتراض، وتنشيط الطلب على القروض.
على خلفية ما تقدم اتجه كثير من هذه البنوك، نحو تبني استراتيجية جديدة في إدارة الأموال، مضمونها عدم قبول ربط ودائع جديدة، أو قبول ربط ودائع بسقوف منخفضة، أو الربط لآجال قصيرة (شهرية)، وربما لمرة واحدة، وذاك تجنباً للخسائر، التي قد تتولد جراء الفوائد العقدية، المترتبة على ودائع مربوطة، لا يقابلها توظيف أو استثمار بالكم المناسب، أو بالحجم المطلوب.
إن ذلك يجري، في وقتٍ يُعاني فيه السوري، من تباطؤ شديد، يعود إلى أسبابٍ كثيرة ومتعددة، ليست موضوعاً للنقاش، منها النقص الكبير في حجم السيولة النقدية، التي تستحكم مفاعيلها بالاقتصاد السوري، ودفعته للدخول في دورات انكماش متوالية، انتهت إلى حالةٍ من الركود العميق، انعكست مفاعيلها بصورة سلبية على مستوى الطلب الاجمالي، بكل مكوناته، لا سيما الإنفاق على الاستهلاك والاستثمار.
في إطار النقاش الدائر في الوقت الراهن حول سبل تحريك عجلة الاقتصاد السوري، وآليات تحفيز النمو، يعتقد بعض الخبراء الاقتصاديين، كما تعتقد غالبية كبيرة من المقترضين، سواء كانوا رجال أعمال ومستثمرين، أم مستهلكين، أنّ تخفيض سعر الفائدة، يمكن أن يساعد في إنعاش الاقتصاد السوري، وتحريك عجلة الاقتصاد، وتحفيز قاطرات النمو. وعليه يبقى السؤال المطروح: هل يمكن لتخفيض سعرالفائدة ، أن يساعد في تحريك عجلة الاقتصاد السوري؟ وإلى أي مدى يمكن الرهان عليه، كخيار سياساتي بديل، ضمن بدائل السياسة النقدية في سورية؟
إن الطرح المذكور يندرج من حيث الإطار في صميم النظرية الاقتصادية، ويعد أحد أبرز مكوناتها النظرية، لكنه في الأحوال كافة، يبقى في إطار وجهة النظر المحضة، عندما ننتقل من ميدان التنظير إلى ميدان التنفيذ، إذ تصبح كلمة “ربما” هي الأكثر عقلانية، عند الحكم والتعاطي مع بعض الظواهر الاقتصادية.
لا شك أن تخفيض سعر الفائدة المدينة، يمكن أن يساعد في تحريك عجلة الاقتصاد، وإنعاش الأنشطة والفعاليات الاقتصادية، بحسبان تكلفة الفائدة، مكوناً بنيوياً أساسياً من مكونات التكلفة الإجمالية، التي ترتفع بارتفاع الفوائد، وتنخفض بانخفاضها.
ما يعني أنّ تخفيض سعر الفائدة، يمكن أن يكون فرصة حقيقية، تساعد في تخفيض التكلفة الإجمالية، ما يساعد في زيادة هامش ربح، وتحقيق عائد اقتصادي، ربما يحفز بدوره الفعاليات الاقتصادية، للإنفاق على الاستثمار وزيادة الإنتاج، بهدف تحقيق الربح، ما يساعد بقوة في رفع مستوى التشغيل والاستخدام، وبالتالي تحفيز الطلب الكلي، ما يعزز فرص النمو الاقتصادي.
وفي سياقٍ آخر، وبمنظورٍ مختلف، قد يدفع تخفيض سعر الفائدة المنتجين والمستثمرين، نحو تخفيض التكاليف، وبالتالي تخفيض الأسعار بحسبان تكلفة الفائدة، مكوناً أساسياً من مكونات التكلفة الكلية، التي تلعب في الواقع الدور الأساس، في تحديد سعر المبيع، للمنتجات الخدمية والسلعية في السوق، ما يساعد بقوة في زيادة الطلب الكلي، المحفز لتنشيط دورة إنعاش الاقتصاد، وبالتالي تحريك عجلة الإنتاج، وتحفيز النمو الاقتصادي.
في ضوء ما تقدم، إن سياسة تخفيض سعر الفائدة في سوريا، ربما ينطوي على عوائد وفرص، قد تساعد في توفير بعض الشروط الموضوعية، اللازمة لدفع الاقتصاد السوري للعودة إلى المسار الطبيعي، الذي يمكن أن يساعد في إنتاج الديناميات اللازمة لتوفير شروط الانطلاق الاقتصادي، لكن النتائج في الأحوال كافة غير مؤكدة، لطالما أن طرفي المعادلة التي تحكم العلاقة بين النمو الاقتصادي وسعر الفائدة، تخضع لتأثيرات عوامل أخرى، ومتغيرات مختلفة، أكثر من اقتصادية.
لكن الأبرز في هذا السياق، يبقى التركيز على تأثيرات المحددات الاقتصادية النوعية، تحديداً العلاقة بين سعر الفائدة الدائنة والمدينة، ومتوسط مستوى التكلفة المرجحة لسعر الفائدة، وتأثير معدل التضخم، وغير ذلك من المحددات الاقتصادية النوعية الأخرى، التي تؤثر بقوة على حجم الإقراض، ومستوى عمليات التمويل.
إنّ الاتجاه العام للتطور المحتمل في مسار مجمل المتغيرات الاقتصادية الكلية في سوريا لا يؤكد على أن معدل التضخم في سوريا، يمكن أن يتراجع إلى الحدود الطبيعية في الأجل القصير والمتوسط، لطالما أن مجريات الحرب لم تنته بعد، ولطالما أن الشروط الموضوعية، اللازمة لانطلاقة حقيقية للاقتصاد السوري، لم تتوفر حتى اللحظة الراهنة.
لقد حدد مصرف سورية المركزي الفائدة على الودائع بـ (7%) كحد أدنى، و(10%) كحد أقصى، بينما يتراوح متوسط تكلفة الفائدة المرجحة في البنوك، بين (4-6%) ، ما يعني أن تخفيض سعر الفائدة على الإقراض والتمويل بمقدار(1-2%) من معدل الفائدة المعتمد بالمنح حالياً، يمكن أن يساعد في تخفيض تكاليف الإقراض والتمويل، وبالتالي، ربما يحفز عملية الاقراض، الذي يمكن أن يساعد في تنشيط الدورة الاقتصادية، وبالتالي تحفيز النمو الاقتصادي،
لكن المخاطر الحقيقية، التي قد تواجه إدارة المخاطر والأموال في البنوك العاملة في سورية، والتي قد تهدد مراكزها المالية، تتولد في الواقع من احتمالات ارتفاع معدل التضخم، وانفلاته بصورة تتجاوز الحدود المقبولة بالمعايير الاقتصادية الكلية، ما قد يتسبب بإلحاق أضرار حقيقية، تطال مستقبلاً مختلف البنوك العاملة في سوريا.
إن سياسة تخفيض سعر الفائدة المدينة والدائنة، يمكن أن تكون رافعة حقيقية للانتعاش والنمو الاقتصادي في سورية، إذا ما استطاعت الحكومة السورية، أن تضبط معدلات التضخم، ضمن الحدود الطبيعية، المقبولة بالمعايير الاقتصادية، وتزيل الأسباب والعوامل الأخرى المختلفة، المسببة للارتفاع في المستوى العام للأسعار، وبالتالي ارتفاع معدل التضخم
إن ما تقدم يتطلب ابتكار سياسة جديدة، تتجاوز في مضامينها حدود السياسة النقدية، أي أن المطلوب هو ابتكار سياسة اقتصادية متكاملة، تمتلك الأدوات القوية والفاعلة، التي تساعد في ضبط التوازن المالي، وتحقق الاستقرار النقدي والاقتصادي، وتضع سقفاً صلبة (غير نفوذة)، للعجوز المالية للدولة السورية، التي إن استمرت، لا يمكن أن تمر دون مفاعيل ومنعكسات تضخمية سلبية، ستدفع بالمشكلات الاقتصادية السورية إلى مزيدٍ من التعقيد، وإلى أكلاف إضافية أخرى، باهظة الثمن اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.

سيريا ديلي نيوز


التعليقات