لم يكن أمن السوريين الغذائي بمعزل عن مجريات الحرب المستمرة منذ أكثر من سبع سنوات، إذ شهد هذا القطاع تدهوراً كبيراً نتيجة تدمير البُنى التحتية الخاصة بالزراعة والصناعة والتصدير ومنشآت إنتاج الغذاء عموماً، ما أدّى إلى اتساع شريحة السوريين «المحتاجين» إلى أرقام ونسب لم تشهدها سورية من قبل.

نصف الشعب على المحك

 لأبو مصطفى حكمة جاهزة تعبّر عما وصل إليه الحال، يقول الرجل الثمانيني «إذا غلي اللحم… فالصبر رخيص»، فهل يُجدي الصبر نفعاً مع انعدام الأمن الغذائي الذي يضع حياة أكثر من نصف الشعب على المحك؟

يقول الرجل «إن مشهد المواطنين وهم يصطفون في طوابير للحصول على ربطة الخبز أو يتدافعون للفوز بأسطوانة غاز تعود بذاكرته إلى الثمانينات، حين قررت حكومة عبد الرؤوف الكسم إصلاح رفع أسعار كل شيء بنسبة تتراوح ما بين 100 إلى 400% فتدهورت الحياة المعيشية للمواطنين، ترافق ذلك كما يتذكّر مع إيقاف عمليات الاستيراد للكثير من المواد الأساسية بهدف الحفاظ على القطع الأجنبي، مع رفع شعار تحقيق الاكتفاء الذاتي، وقد أدى هذا القرار على الفور، إلى تنشيط عمليات التهريب من الدول المجاورة، وإلى المزيد من ارتفاع الأسعار كما يقول أبو مصطفى .

ويضيف الرجل الذي عايش تلك المرحلة الصعبة في حديثه لـ «الأيام»: اليوم يتكرر ذات المشهد، ولكن الذي تغير هو مُخرج المشهد… فالتصريحات والتبريرات والوعود والاجتماعات وكاميرات الصحافة نفسها… ليبقى المواطن الضحية الأولى والأخيرة، والدليل الكبير ما نسمعه ونشاهده عن وفاة أطفال سوريين نتيجة البرد والجوع.

كان أبو مصطفى حينها موظفا بسيطا في إحدى الدوائر الحكومية، ومنذ ذلك الوقت عاصر العديد من الحكومات التي أصدرت القرارات الخاطئة لنصل إلى ما نحن عليه من اقتصاد مترنّح… وفي الوقت الذي كانت سورية تتغنى بالاكتفاء الذاتي في أهم المواد الغذائية، أصبحت اليوم تعيش على المساعدات والمعونات التي ترسل من قبل الدول الحليفة.

ثلاثة ملايين دولار من روسيا للدعم

وما دام الحديث عن الحلفاء، فإنه من المهم القول إن الاتحاد الروسي يتبرع بمبلغ ثلاثة ملايين دولار لدعم سبل عيش وتغذية المزارعين والرعاة المتأثرين في سورية، وذلك بهدف استعادة قدرتهم الإنتاجية وتحسين أمنهم الغذائي وتغذيتهم، وذلك وفقاً لمصدر مسؤول في مجلس الوزراء.

ويشير المصدر من جهة أخرى، إلى هجرة عدد كبير من المزارعين في سورية لأراضيهم بسبب انعدام الأمن، الذي أدى إلى خسائر فادحة في إنتاجهم الزراعي وتدمير البنية التحتية والخدمات، لذلك فإن الكلفة المرتفعة للمدخلات الزراعية وقلة توافرها يشكل قيوداً كبيرة على المزارعين المحليين، ومن المعروف أن سورية تعتمد على الزراعة لتعزيز الاقتصاد المحلي وتوفير الأمن الغذائي.

 أرقام وإحصائيات

يبدو أن المشكلة المتعلقة بتحديات الأمن الغذائي وتزايد فرص التهديد لجهة ما يتعلق بإمكانات الوصول إلى السلع والخدمات، لا تتعلق فقط بمستوى الإنتاج المحلي للسلع الغذائية، وذلك بحسب الدراسة التي قام بها الدكتور مدين علي، الذي أكد فيها أن الوضع الغذائي للسكان في سورية شهد تدهوراً كبيراً طوال سنوات الحرب، وتحديداً في السنوات 2012- 2014، جراء التراجع أو الانخفاض الكبير الذي طال أداء القطاعات الاقتصادية ذات الصلة بإنتاج الغذاء تحديداً (الزراعة والصناعة الغذائية) هذا من جانب، وجراء التراجع في القدرة الشرائية للدخول، أو فقدان فرص العمل ومصادر الدخل من جانبٍ آخر، إذ أنَّ وسطي الأجر الشهري في الوقت الراهن يشكل نحو ( 50%) فقط من تكلفة الغذاء الشهري الذي قدّرته الدراسة بأنه لا يقل عن (34000) ل.س…

بالمقابل وبحسب “المكتب المركزي للإحصاء” فإن نسبة الأسر غير الآمنة غذائياً في سورية وصلت خلال عام 2017 إلى 31.2%.

الأرقام جاءت استناداً لمسح قام به مكتب الإحصاء لتقييم حالة الأمن الغذائي، وبحسب النتائج فقد: “تراجعت نسبة الأسر المعرّضة لفقدان أمنها الغذائي من نحو 51% في 2015 إلى نحو 45.5% خلال 2017، فيما زادت نسبة الأسر الآمنة غذائياً من نحو 16% في 2015 لتصل إلى 23.3% في العام 2017”.

واعتبر المركز، أن هذا التحسّن الطفيف جاء بسبب “الوضع الأمني في بعض المناطق” مُستبعداً أن يكون له أي علاقة بتحسّن الوضع الاقتصادي في سورية، ورغم أن السلع أصبحت متاحة اليوم، لكن العائلات التي تملك القدرة المادية للحصول عليها لا تزال نسبتها قليلة، بسبب بقاء الأسعار مرتفعة للغالبية العظمى من السكان.

طرطوس أولها وحلب آخرها

مقابل هذه الإحصائيات فإن برنامج الأغذية العالمي «الفاو» يقول بتقريره الصادر مؤخراً؛ إن ما يزيد عن عشرة ملايين سوري يعانون ظروفاً قد تعرضهم للجوع.

وأوضح التقرير أن “سبعة ملايين شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي في أنحاء البلاد، بعد أن استنفذوا مدخراتهم ولم يعودوا قادرين على إطعام عائلاتهم، مشيراً إلى أن أعلى نسبة أمن غذائي لا تتجاوز 38 % وهي في طرطوس، وأدنى نسبة أمن غذائي هي في حماه بنسبة 12%، أما المعرضون هامشيا لانعدام الأمن الغذائي فتتراوح نسبتهم فوق 40% في عموم سورية، في حين تحتل حلب النسبة العليا في انعدام الأمن الغذائي وتصل إلى40%.

إن انعدام الأمن الغذائي لا يتوقف فقط على النوعية والجودة الغائبة، وإنما تحوّل إلى خطر مباشر بما يحوي من سموم ومواد غير صالحة للاستهلاك البشري، بالإضافة إلى تأثيره حتى على الكمية التي باتت أقل على موائد السوريين، وبات كثيرون منهم يشعرون بالجوع الفعلي، لعدم قدرتهم على الحصول على ما يكفيهم، أو بسبب غياب أصناف ومنتجات أساسية لم يعد بمقدورهم الحصول عليها أبدا.

الموارد غير متاحة …

وحول الموضوع، يؤكد المحلل الاقتصادي ميشيل منصور في تصريحه لـ «الأيام» إلى أن الموارد الغذائية غير متاحة اليوم، وهو ما يصعّب من مهمّة وصول جميع طبقات المجتمع إلى الغذاء بشكلٍ سلس، لافتاً إلى أن عدداً كبيراً من البُنى التحتية مثل مصانع الغذاء والآلات الزراعية ومعامل تحويل المواد الخام، قد دُمّرت جراء الحرب، ولم يتم إصلاحها على الرغم من ابتعاد المعارك عن تلك المناطق، وذلك بسبب عدم تحرّك الحكومة بشكل صادق لإجراء أي عمليات إعادة تأهيل فعلية من جهة، فضلاً عن أن أصحاب هذه المنشآت لا يملكون الموارد الكافية لتفعيل عملهم من جهة أخرى.

وبحسب منصور فإن العقوبات الاقتصادية، لم تسبّب ضرراً كبيراً، بسبب وجود البدائل لدى الحلفاء، غير أنّه أثّر على السوريين بمن فيهم المقيمين في مناطق الأرياف، حيث أدّى ذلك إلى إعاقة التجارة وحركة الأسواق، وصعوبة الوصول إلى الوقود الضروري لتشغيل المضخات والجرّارات الزراعية، وفيما لو توفّرت فإن سعرها يكون مرتفعاً جداً، مستبعداً أي ارتباطات بين واقع شحّ الغذاء في سورية، وبين الوضع الأمني في البلاد، مؤكّداً أنه لا يوجد أي علاقة بين العمليات القتالية وتوفّر الأغذية للعامة.

ومن أبرز أسباب صعوبة تحصيل الغذاء هناك الغلاء الكبير لأسعار هذه السلع والبضائع، نتيجة شحّ الإنتاج الزراعي والصناعي، في حين أن دخل السوريين بات متهاوياً إلى حدٍّ كبير، في مقابل إنفاق المال الذي من المفترض أن يقوموا بدفعه للحصول على المواد الأساسية اللازمة.

غياب الخطط البديلة للحكومة …

وفي سياق متصل يؤكد الدكتور في جامعة تشرين، محمد موفق في تصريح لـ «الأيام» أنه مع استمرار حالة الاستعصاء في الإنتاج المحلي، وغياب الخطط البديلة للحكومة، فإن «كارثة ستحلّ بالأمن الغذائي السوري، إذ يتشظى هذا القطاع بمكونيه: الزراعي والحيواني إلى حدود التلاشي».

وبحسب موفق الذي يشارك في لجنة «الأمن الغذائي» التي شكلتها وزارة الزراعة لوضع حلول لتراجع إنتاج القمح في سورية، فإن القمح يحتل المرتبة الأولى في سلة الأمن الغذائي المحلي، وقد تهدّد بشكل كبير بعدما تراجع إنتاجه من 4 ملايين طن قبل الأزمة إلى نحو 400 ألف طن العام الماضي، كما فقدت البلاد ما يصل إلى ربع الماشية، وأكثر من ثلث الأغنام، وانخفض إنتاج الدواجن بأكثر من 50%.

وأرجع موفق السبب في نقص الموارد إلى عدّة عوامل، أبرزها أن “الظروف المناخية غير الملائمة في بعض المناطق، تلعب دوراً في ذلك، كما أن صعوبة الوصول إلى الأراضي وإمدادات الزراعة والأسواق، تصعّب من مهمة المزارعين في الحفاظ على سبل معيشتهم وتوفير الغذاء للبلاد، موضحاً أنَّ عدداً كبيراً من المزارعين باتوا غير قادرين على تحمّل الوضع الحالي، بما في ذلك عدم توفّر السماد والمياه وهذا ما جعل العديد منهم يتركون مزارعهم ويتّجهون نحو مهنٍ تحقّق دخلاً أكثر استقراراً.

ويسلّط موفق الضوء في نفس الوقت على عدم قدرة الحكومة على توفير البيانات الأساسية والآنية عن قطاع الأغذية الزراعية، واللازمة لوضع السياسات القائمة على الأدلة بهدف توجيه قطاع الأغذية الزراعية.

في النهاية…

بعد 8 سنوات من الحرب بات أكثر من ثلثي عدد السكان في سورية -أي نحو 13.5 مليون نسمة- بحاجة إلى مساعدات مختلفة وذلك بحسب تقرير لاتحاد العمال.

وبحسب التقرير، يعدّ الأمن الغذائي أبرز الاحتياجات الأساسية للأسرة بنسبة 86%، إذ لا تزال أسرتان من كل ثلاث أسر تُعاني من نقص في الإمدادات الغذائية، تليها المواد غير الغذائية بنسبة 37%، كما زادت نسبة السكان الذين يعيشون في فقر مدقع بمقدار الضعف عن حوالي 34% قبل الأزمة إلى 69%.

كما بلغ متوسط تكلفة سلة من المنتجات الأساسية التي تستهلكها الأسرة في كافة المحافظات السورية (31 ألف و180 ليرة سورية)، وقد بلغ وسطيّ سعر سلة من الأغذية الرئيسية نحو 35 ألف ليرة، أي نحو (65 دولار) وهي أعلى بنسبة 486% عن العام 2012 .

أما فيما يخص حجم الإنفاق وبالأخص على الغذاء، فقد قدّر التقرير إياه، الحاجة الشهرية للأسرة المكونة من خمسة أفراد بـ 650 ليرة سورية يومياً، كي تُحقق تغذية سليمة بالحدود المقبولة، أي أن الأسرة بحاجة إلى نحو 97500 ألف شهرياً للغذاء السليم فقط، من دون التطرق للحاجات الأخرى، وبحسب ما أشار إليه اتحاد نقابات العمال، فإن الأسرة السورية المكونة من 5 أفراد تحتاج إلى 230 ألف ليرة سورية شهريا لسد نفقات معيشتها، فالكثير من الأطفال والنساء بحاجة إلى دعم غذائي، بما يؤكد ضرورة إيجاد حلول طويلة الأمد لعكس الاتجاه الحالي .

سيريا ديلي نيوز- نور ملحم


التعليقات