اعتمدت المجتمعات القديمة وتحديدًا في زمن الجاهلية على النظام القبلي في حياتها، إذ شكلت القبيلة آنذاك كيانًا مستقلًا بذاته، له أعرافه وقيمه ومبادئه التي لا يمكن التعدي عليها أو تجاهلها، لذلك انصاعت جميع العوائل والأسر التي تنتمي إلى هذا النظام الاجتماعي لقوانين القبيلة؛ احترامًا للعادات وخوفًا من النبذ والطرد.

اعتادت هذه القبائل التفاخر بكرمها وشجاعتها وفصاحتها والأهم من ذلك أصالة أنسابها، ولذلك فإن أقسى قرار يمكن أن يتخذه أفرادها هو الزواج من قبيلة أخرى، خاصةً من تلك التي سبق وأن حدث معها نزاعات، وفي هذه الحالة تكون العقوبة الاجتماعية وخيمة.

لكن مع تغير الأزمنة تقلصت مكانة القبيلة وانحصرت معها تقاليدها، لكن ما زالت بعض المجتمعات تتبنى أفكارها بشكل مبطن وخاصة تلك المتعلقة بالزواج، إذ تجبر بعض العائلات أبناءها على الزواج من أولاد العم أو الأقارب بشكل عام، أو تضغط عليهم للزواج بسن معين، وكأن هذه الخيارات المسار الوحيد للزواج، إلا أن عدة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية غيرت هذه التوجهات وأضافت بعض الحرية لهذه المنظومة، مع العلم أن بعض هذه التحولات لم ينتج عنها علاقة زوجية سليمة.

الرحلات التجارية

قديمًا قبل اختراع وسائل الاتصال الموجودة حاليًّا كانت التجارة الوسيلة الرئيسية للتواصل بين الشعوب من مختلف المناطق، ولم تكن هذه الوسيلة ذات غايات اقتصادية بحتة، فلقد سهلت تحركاتها التبادل الثقافي والديني والاجتماعي بين الحضارات في أوروبا وإفريقيا وآسيا.

    اعتاد التجار العرب تكوين بيئة خاصة بهم من خلال تكوين عائلة واتخاذ زوجة تضمن لهم الاستقرار، وبناءً على هذه الحاجة بدأ الجمود الاجتماعي تجاه الزواج من الغرباء بالتزعزع

فيما يخص التجار العرب، كانت رحلاتهم ذات تأثير اجتماعي كبير، فلقد كانت أسفارهم تستغرق شهورًا أو سنوات في مناطق مختلفة، ولذلك اعتاد التجار العرب تكوين بيئة خاصة بهم من خلال تكوين عائلة واتخاذ زوجة تضمن لهم الاستقرار، وبناءً على هذه الحاجة بدأ الجمود الاجتماعي تجاه الزواج من الغرباء بالتزعزع، لا سيما أن هذه الزيجات حصدت مئات الأتباع للدين الإسلامي، فلم يكن يرضى الزوج بعقد قرانها دون أن تعتنق الفتاة الأجنبية الإسلام.

 

الحروب والأزمات السياسية

أثرت الحروب بشكل كبير على منظومة الزواج وغيرت العديد من شروطه، ففي أثناء الحرب العالمية الأولى والثانية مات الملايين من الرجال وبقي عدد كبير من النساء الأرامل وغير المتزوجات، وبسبب هذا الاختلال السكاني بين عدد النساء والرجال، اضطرت النساء بعد انتهاء الحرب بالزواج من رجال أصغر منهن بالسن، وهم فئة الشباب التي نجت من الحرب أو لم تكن مشاركة في الحرب.

من خلال هذه الظاهرة، تغيرت فكرة الأجيال التي تعرضت للحرب بشأن سن الزواج المناسب ولم تعد الشروط التقليدية حاضرة بالقوة نفسها قبل الحرب بسبب التغيرات السياسية والاجتماعية التي خلفها موت الملايين من الرجال.

    حيث بلغ عدد الأجنبيات المتزوجات من أتراك 22 ألف و583 فتاةً عام 2016، وتصدرت السوريات المرتبة الأولى بنسبة 28.8% أي 6 آلاف و459 فتاةً سورية متزوجة من تركي

وإلى وقتنا الحالي، لا تزال الحروب والأزمات السياسية تغير من تقاليد الزواج، مثل الأزمة السورية التي دفعت أبنائها إلى الزواج من جنسيات مختلفة وأبرزها التركية على سبيل المثال، إذ كشفت مؤسسة الإحصاء التركية أن عدد الأجنبيات المتزوجات من أتراك بلغ 22 ألف و583 فتاةً عام 2016، وتصدرت السوريات المرتبة الأولى بنسبة 28.8% أي 6 آلاف و459 فتاةً سورية متزوجة من تركي، وهي ظاهرة جديدة على المجتمع السوري الذي بدل شروطه مقابل ظروف معيشة أفضل.

أما بالنسبة إلى المجتمع التركي، فإن ثقافتهم المحلية تتقبل فكرة الزواج من الأجانب بشكل واسع، ولا سيما الجيل الرابع من الأتراك الذين يعيشون في ألمانيا ويرون أن الزواج من الجنسيات الأخرى أمرًا إيجابيًا ومقبولًا، وذلك بحسب دراسة قام بها البروفيسور أوزجان كونغور، محاضر في جامعة يلدريم بايزيد في أنقرة.

لا شك أن الأتراك توارثوا هذه العادة من زمن الإمبراطورية العثمانية التي حكمت ضمن منطقة جغرافية واسعة تشمل دولًا أوربية وآسيوية وإفريقية؛ ما ساهم في زيادة التبادل الثقافي والتجاري بينها وبين الشعوب الأخرى وبالتالي تولدت علاقات وطيدة مبنية على أهداف دبلوماسية وسياسية انتهى بعضها بالزواج داخل البلاط العثماني وخارجه.

التكنولوجيا

أنقذت منصات التواصل الاجتماعي الشباب العربي من تقاليد الزواج الاتباعي الذي يسير وفقًا لثوابت اجتماعية متحجرة ورغبات عائلية معينة قد لا تتوافق مع اختيارات الشباب، لذلك تعتبر السوشيال ميديا منفذًا مثاليًا من خلال حرية التواصل والتعارف التي توفرها للمستخدمين من مختلف دول العالم ولطوال الوقت. إذ سيطرت هذه المواقع بشكل كبير على العلاقات والتعارف الرقمي الذي أصبح العنوان الرئيسي في القرن الواحد والعشرين.

بالرغم من سوء سمعة هذه الوسيلة في التواصل في المجتمعات العربية، إلا أنها شائعة وواسعة الانتشار، إذ تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من ثلث الأزواج الذين يتزوجون التقوا ببعضهم البعض عبر شبكة الإنترنت، دون الاعتماد على توصيات الأهالي أو الصداقات المشتركة. وفي نهاية الأمر، لا يمكن حصر العوامل والتأثيرات التي غيرت من هذه المنظومة التي لم تعد تشابه نفسها بفعل التطورات والأحداث المستمرة التي مر بها العالم من تغيرات اقتصادية وسياسية وتكنولوجية غيرت شكل وتفاصيل هذه المنظومة بالكامل، التي بدأت ضمن قبيلة ما، ووصلت اليوم إلى أن تجمع بين زوجين ربما يكون أحدهما في أقصى الشرق، والآخر في أقصى الغرب.

سيريا ديلي نيوز


التعليقات