"مقاربة نقدية من منظور سياساتي/استراتيجي مختلف"

 مركز دمشق للأبحاث والدراسات

مِداد

 

يكاد أن يجمع معظم الخبراء الاقتصاديون والأكاديميون، على أنه لا يوجد في سورية سياسة نقدية واضحة المعالم والغايات، كما لا يُلاحظ وجود دور فاعل ومؤثر لمصرف سورية المركزي، ينسجم مع طبيعة المهام والأهداف، التي تشكل الإطار العام لدور المصرف، والوظائف والغايات التي تأسس عليها ولأجلها، وأن جهد القائمين على إدارة الشؤون النقدية (طبعاً بحسب الخبراء) كان قد انصب طوال السنوات الماضية على هدف مركزي شبه وحيد، يتعلق بكيفية تثبيت سعر الصرف، وضبط إيقاع تحركاته، ضمن حدود معينة، مستهدفة من قبل الدولة السورية، وكأن سعر الصرف هو البداية والنهاية. وعليه يبقى السؤال المطروح:

هل لا توجد فعلاً سياسة نقدية في سورية؟ وهل دور المصرف المركزي محدود الفعالية والتأثير، وما يقوم به دون مستوى الغايات والأهداف والمهام؟

إن هذه التساؤلات الهامة تُطرَح في ظل ظروف سياسية واقتصادية معقدة، دخل بها و معها الاقتصاد السوري في أتون أزمة ركود اقتصادي عميق، تعد بجانبٍ كبيرٍ منها انعكاساً لأزمة كبرى، تستحكم بالاقتصاد السوري منذ زمن، لكن مفاعيلها تفاقمت بصورة دراماتيكية في ظروف الحرب، لدرجة أنه لم يعد ممكناً التعاطي مع نتائجها، ولا استيعاب مفاعيلها وتداعياتها عن طريق بعض الإجراءات الترقيعية المحدودة –كالتي يمكن أن تتم على مستوى السياستين النقدية والمالية، أو على مستوى النظام الضريبي– لأنها لم تعد تسمن إنعاشاً للدورة الاقتصادية، ولا تغني بالنسبة لاقتصاد، يعيش على وقع مفاعيل أزمة اقتصادية واجتماعية بنيوية وهيكلية مديدة، تعمقت مرتسماتها بصورة كبيرة طوال سنوات الحرب، لأسباب لا يتسع المقام للخوض في تفاصيلها الآن.

ما يعني أننا أصبحنا بحاجة ماسة لاستراتيجية اقتصادية كبرى، تنطلق من حزمة متكاملة من البرامج والسياسات النوعية، بما في ذلك السياسة النقدية، وذلك بغية تنفيذ خطة إنعاش استراتيجية، يمكن أن تساعد في تحقيق نقلة نوعية للاقتصاد السوري، نحو تأسيس قاعدة صلبة، تساعد في توطيد دعائم الانتقال السلس والعبور الآمن والسليم، إلى رحاب اقتصاد صلب ومتين، يمتلك مقومات الاستدامة في النمو والتنمية، ولديه القدرة على استيعاب مفاعيل الدمار والخراب للحرب الجائرة التي شُنّت على سورية وهضم تبعاتها.

 

 

أولاً- السياسة النقدية في سورية (الخصائص والملامح)

يتطلب البحث في موضوع السياسة النقدية، التحليل والتدقيق في مجموعة من الإجراءات والتقنيات الاقتصادية النقدية، التي يصممها المصرف المركزي، ويستخدمها، للتحكم بإدارة النقد الوطني، سواء أكان في جانب عرض النقد، أم الطلب عليه. وهي إجراءات وأدوات تقنية، معروفة على مستوى النظرية النقدية والاقتصادية، تتراوح بين مستوى تدابير وإجراءات كمية، تتعلق باتجاهات تغيير أو تعديل سعر الفائدة، ومعدل الخصم، وسقف الاحتياطي القانوني، والعمليات المفتوحة من جهة، ومستوى إجراءات وتدابير رقابية نوعية، تتعلق بالضوابط النقدية، وبنية الائتمان، وسياسات التسليف القطاعية من جهة أخرى.

يتبين في جميع الأحوال، عن طريق تتبع سير الوقائع النقدية في الاقتصاد السوري، طوال عقودٍ من الزمن، أن الإدارة النقدية، لم تكن تاريخياً هي الأساس، وليست المتغير المستقل، ولم يخطط لها لأن تكون كذلك[1]، بمقدار ما كانت متغيراً تابعاً، ومحكومة بخططٍ وحساباتٍ، تنسجم مع طبيعة التوجه أو الخيار الاقتصادي والسياسي التاريخي للاقتصاد السوري، الذي أنتج بنية اقتصادية، أو منظومة قللت من أهمية اللجوء لاستخدام أدوات السياسة النقدية، أو الرهان على دور استراتيجي لمصرف سورية المركزي كذراع فنية وتقنية، ما جعل المصرف يتحول إلى مؤسسة بيروقراطية، تُدار بأدوات تقليدية، كأي مؤسسة اقتصادية في الدولة السورية. ولذا لم تتعاط جميع الحكومات السورية، مع السياسة النقدية، كإحدى قاطرات الاقتصاد الاستراتيجية، بمقدار ما تعاطت معها بذات المنظور، الذي صاغت بواسطته الخطط والسياسات، على مستوى القطاعات والأنشطة الاقتصادية المختلفة. ما جعل الإطار العام لكلٍّ من السياسة النقدية، ولدور المصرف المركزي، يتصف تاريخياً، بالضعف والحياد. إذ بقيت أسعار الفائدة ثابتة لعقود طوال، بينما استمرت أدوات السياسة النقدية الأخرى، مُحيّده أو معطلة.

هذا وفي سبيل استعادة الدور، والرهان على وظيفة أكثر فعّالية للسياسة النقدية، وحيوية نشطة لمصرف سورية المركزي، ومختلف مكونات القطاع النقدي والمالي، اتجهت الدولة السورية في سياق ما عرف ببرنامج الإصلاح الاقتصادي، منذ مطلع عام 2002 نحو الانفتاح بصورة أوسع مربع نص: إن معاينة دقيقة وتحليلية للقطاع النقدي في سورية، تبين بوضوح أن عملية الإصلاح التي استهدفته، لم تحقق الاختراقات النوعية، لجهة ما يتعلق بتطوير مضمون أدوات السياسة النقدية المعطلة، وكيفية إخراجها من عطالتها.على القطاع الخاص، بما فيه القطاع الخاص المصرفي، ولذا فقد انصبت الجهود في بعض جوانبها، على عملية إعادة الهيكلة للقطاع المالي والمصرفي، وعلى الآليات، التي يمكن أن تساعد في توسيع نطاق دور هذا القطاع، وتحويله إلى مساهم حقيقي في تحريك عجلة الاقتصاد السوري، وتعبئة المدخرات، وتحفيز النمو الاقتصادي، إلى جانب القطاع المصرفي الحكومي.

لكن الجهود والمحاولات، بقيت كما تبيّن النتائج، في حدود الشكليات والإجراءات فقط، التي لم تتناول مضمون السياسة النقدية في العمق، ولا كيفية تفعيل مختلف أدواتها الكمية والكيفية، وبالتالي ديناميات ربطها بصورة أكثر فاعلية، بغايات التنمية وأهدافها الاستراتيجية. إذ اقتصر الإصلاح على عملية إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتطوير آليات العمل عن طريق منح التراخيص لمصارف خاصة[2] وتسهيل عملية فتح الاعتمادات المستندية، وتحويل الأموال من وإلى البلد، وفتح مكاتب صرافة، واعتماد بعض أساليب التقنية في الدفع، واستخدام الصرافات، من كل ذلك إلى سياسة تسليف وائتمان توسعية طوال السنوات 2002-2010 غير مدروسة، من حيث المضمون أو البعد التنموي، شابها الكثير من التجاوزات وغير ذلك، من مظاهر الخلل والفساد، التي تسببت في إنتاج ملف القروض المتعثرة، بكتلة ديون، بلغت (282) مليار ل.س. ويعد هذا الملف في الواقع بكل المقاييس، من أضخم الملفات تعقيداً، وأكثرها لبساً والتباساً.

إن معاينة دقيقة وتحليلية للقطاع النقدي في سورية، تبين بوضوح أن عملية الإصلاح التي استهدفته حتى اللحظة، لم تحقق الاختراقات النوعية، لجهة ما يتعلق بتطوير مضمون أدوات السياسة النقدية المعطلة، وكيفية إخراجها من عطالتها وكيفية استخدامها وتوظيفها، كأدوات سياساتية تقنية وفنية فاعلة في تنشيط دورة الاقتصاد، وتحويله إلى اقتصاد يمتلك خصائص ومقومات الدفع الذاتي. وكل ما جرى حتى اللحظة، لا يتعدى نطاق التركيز على عملية تطوير البنية التكنولوجية لمصرف سورية المركزي، بواسطة بعض مشاريع الأتمتة، واستخدام نظام تكنولوجيا المعلومات، وبعض التطبيقات البرمجية والحاسوبية، من قبيل إدارة البريد الداخلي، وبذل جهود مكثفة لتسويق مشروع الدفع الإلكتروني.... وغير ذلك، وهي بكل الأحوال قضايا جوهرية وأساسية، تُحسب لإدارة المصرف المركزي الراهنة[3]، لا يمكن تجاهلها، ولا يجوز التقليل من أهميتها الاستراتيجية، لا بدوافع شخصية، ولا بأنانية مفرطة، بل يجب المتابعة والمضي بها قدماً، في دائرة الضوء، بصورة أكثر شفافية وتنافسية.

إلا أن ما يجب أن يُؤخذ بالحسبان، هو أن تلك العمليات والإجراءات على أهميتها، لا تفي بالغرض المطلوب، ولا ترتقي إلى مستوى تحديات المرحلة الراهنة وبالتالي استحقاقاتها، ولا تساعد البنك في تأدية رسالته، وتنفيذ المهام والغايات، طبقاً لما ورد في قانون المصرف المركزي.

يتضح تماماً أن الإدارة النقدية في سورية تستثمر الآن بصورة مكثفة،  بالاستقرار أو التثبيت الذي تحقق على مستوى سعر الصرف طوال السنوات الثلاث الأخيرة، وقد عدّ القائمون على أمر السلطة النقدية ذلك إنجازاً تاريخياً، جاء كنتيجة لرؤية استراتيجية، نفذتها السلطات النقدية، بواسطة إجراءات وتدابير لا تتعدى من حيث الشكل والمضمون، حدود أو نطاق كونها إجراءات وتدابير إدارية محضة، لا تشكل بالمطلق مضموناً نوعياً لسياسة نقدية حقيقية، متعددة الأدوات والبدائل، محكومة بحسابات تنموية اقتصادية أو اجتماعية، ذات مضامين وأبعاد استراتيجية.

وفي الواقع أن معاينة دقيقة لواقع الاستقرار المزعوم، وتحليل البيئة أو الفضاء العام، الذي تحقق في سياقه، يبيّنان بوضوح أن الاستقرار الذي حصل على مستوى سعر الصرف، لا يعدُّ بالمنظور الاستراتيجي، معيار قوة اقتصادية، ولا دليل عافية، ولا مؤشر نجاح، يُحسب للسلطات النقدية، والقائمين على إدارة قطاع النقد والأموال في سورية، لأنه لم يتحقق في جانبٍ كبيرٍ منه  عن طريق سياسة نقدية، ابتكارية، تنموية، ذات مضمون استراتيجي، أنتجها الإدارة النقدية،  تستند إلى أسسٍ، تعزز مقومات الاستقرار النقدي والمالي المُستدام، وتقوي آليات الدفع الذاتي للاقتصاد، وتثبّت المرتكزات الأساسية لمسار متوازن في النمو والتنمية، يمكن أن يساعد في إنتاج وإعادة إنتاج مصادر تمويل طبيعية وعادية للنمو والتنمية، كان البلد قد خسرها، وافتقد الكثير منها طوال سنوات الحرب.

بل بخلاف ذلك، إن التحليل المعمق للأليات والأدوات، التي لجأ إليها البنك المركزي، يبين بوضوح، أنها كانت بمعظمها ملتبسة وغير شفافة، وتمّت بأدوات وسياسات شابها الكثير من عدم الوضوح، ما يعني ضرورة المراجعة والتقييم للمرحلة والأدوات والآليات، كي يُبنى على الشيء مُقتضاه، سواء كان لجهة ما يتعلق بمحاسبة المقصرين، أم لجهة ما يتعلق بتصويب مسار السياسات والإجراءات، خاصةً وأنها رتّبت كلفاً اقتصادية واجتماعية باهظة، سيستمر الاقتصاد السوري في تسديد فواتيرها لعقودٍ طوال[4]، وقد بدأ هول تكاليف العلاج اللازمة، لإطلاق أو لتحفيز الاقتصاد، واستعادة المسار الطبيعي، تطل برأسها، وتطرح ذاتها، كاستحقاق نوعي، يفرض نفسه بقوة على الإدارتين النقدية والمالية، ومختلف الجهات المعنية،  بتأمين الأموال ومصادر التمويل، اللازمة لتأهيل البنى وإعادة الإعمار.

ويبقى الأبرز في هذا السياق، هو الإشارة والتأكيد، على أن تحسن سعر صرف الليرة السورية، وتزايد قدرة الدولة على التحكم بسعر الصرف، وسوق القطع، جاءا إلى حدٍّ كبيرٍ، كنتيجة لمجموعة كبيرة من التطورات والمعطيات في سورية، التي لا ترتبط عملياً بأداء الإدارة النقدية، ولا المالية على الإطلاق، منها:

  • الإنجازات العسكرية الميدانية، التي حققها الجيش العربي السوري، والتي تمكن بواسطتها، من استرجاع مساحات واسعة من الأراضي السورية، ما أسس وأنتج بدوره تطورات سياسية واقتصادية، كان لها دور كبير في تحقيق انعطافات حادة، ذات مردود إيجابي، لجهة ما يتعلق بتحسن نسبي ومحدود في دورة الإنتاج، وبالتالي في حركة المتغيرات الاقتصادية على المستوى الكلي، ومختلف المؤشرات الفرعية، وفي مقدمتها سعر الصرف.
  • تقييد الاستيراد بحدود معينة، والمحاولات المتشددة التي استهدفت ضبطه، عند حدود استيراد المستلزمات الضرورية فقط.
  • التطورات السيكولوجية للمواطن والمجتمع في سورية، تحديداً لجهة ما يتعلق باسترداد الدولة للكثير من مظاهر الهيبة والقوة، التي عززت ثقة المواطن والمجتمع بدور الدولة، وقدرتها على الاستمرار والصمود.
  • تأمين الكثير من السلع والخدمات عن طريق الخط الائتماني الإيراني، وبمبلغ مؤجل الدفع، قارب بحسب (بعض التقديرات) حوالي (8) ثمانية مليارات دولار أمريكي.
  • تغير قواعد التعامل الاقتصادي بين سورية والاتحاد الروسي، وذلك عن طريق بناء تفاهمات، وعقد اتفاقات استراتيجية، تضمنت الكثير من المرونة والتسهيلات، لجهة ما يتعلق بآليات الدفع، وطرق تسديد ثمن معظم التوريدات والمشتريات من السلع والخدمات، وذلك عن طريق التحول إلى نظام الدفع العيني المباشر، والآجل لجانب مهم من الالتزامات المختلفة واجبة الأداء.... وغير ذلك.

ثمّ يأتي دور بعض الإجراءات على مستوى السياستين المالية والنقدية التي اتبعتها الحكومة السورية عن طريق:

  • تقليص حجم الإنفاق العام الفعلي، إلى حدود ثلث (1/3) الإنفاق المقدر (بحسب بعض التقديرات)، وضبط الإنفاق بالحدود الدنيا. وذلك بواسطة إجراءات تقشفية وترشيد متعددة منها تقييد الاستيراد، وتثبيت الرواتب والأجور وإلغاء الكثير من الحوافز والتعويضات والمكافآت والبدلات... وغير ذلك.
  • توقف المصارف عن الإقراض والتمويل بصورة شبه مطلقة، باستثناء بعض عمليات الإقراض والتسليف البسيط، لأصحاب الدخل المحدود، كان قد نفذها مصرف التوفير طيلة سنوات الحرب. في الوقت الذي قام فيه مجلس النقد والتسليف في عام 2012 وعام 2015، برفع سقف سعر الفائدة (أدنى/أعلى) على الودائع التي تزيد مدتها عن سنة، وذلك بهدف تحفيز السلوك الادخاري كمحاولة لكبح جماح التضخم[5].

مربع نص: إن اللجوء لخيار السياسة الانكماشية، كان ضرورة تاريخية لا بد منها، لكن المشكلة الحقيقية بدأت مع تحول تلك السياسة إلى خيار استراتيجي في الأجل المتوسط والطويل، بالنسبة للإدارتين النقدية والمالية.لقد تسبب كلٌّ من توقف عمليات الإقراض والتسليف، ورفع سقف سعر الفائدة (أدنى/أعلى) على الودائع التي تزيد مدتها عن سنة، في زيادة حجم ودائع المصارف العاملة في سورية، لدى المصرف المركزي خلال الفترة (2011 - 2015) بمقدار (4.4) مرة، وبمعدل نمو بلغ (333.4%)، كما تضاعف حجم الفائض الاحتياطي بالليرة السورية، المُتاح للتسليف والإقراض، بمقدار (3.86) مرة، وبمعدل نمو (286.5%)، وتضاعف حجم الفائض الاحتياطي بالعملات الأجنبية بمقدار (7.9) مرة، وبمعدل نمو (694.6%)، في الوقت الذي تشكل فيه فائض كبير من الودائع الادخارية والأموال أيضاً لدى المصارف الخاصة، قامت بإيداعها وتوظيفها مؤخراً في المصارف اللبنانية[6].

وتُعَدُّ هذه السياسةُ في جميع الأحوال صحيحة بمنظور الضرورة التاريخية و سياسات الأجل القصير، إذ لعبت دوراً كبيراً في لجم مسار التضخم، وحالت دون تسهيل اندفاع مساره، في حركة لولبية متصاعدة، بوتائر حادّه، ما يؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية لليرة السورية وبالتالي انخفاض سعر الصرف، لكنها تحولت بالمقابل إلى عبء، لأنها تحولت إلى استراتيجية على ما يبدو للإدارة النقدية والمالية، تسببت في  تقليص حجم السيولة، وتجفيف السوق بصورة كبيرة، ما أدى إلى تراجع كبير في حجم الطلب على السلع والخدمات، الأمر الذي تسبب في إدخال الاقتصاد السوري في حالة من الركود والجمود الاقتصادي الخطير[7].

إن اللجوء لخيار السياسة الانكماشية، كان ضرورة تاريخية لا بد منها، لكن المشكلة الحقيقية بدأت مع تحول تلك السياسة إلى خيار استراتيجي في الأجل المتوسط والطويل، بالنسبة للإدارتين النقدية والمالية، اللتان لم تسعيا نحو تغييره، كونه خياراً مريحاً، وغير مربكاً، يمكن استثمار مفاعيله الإيجابية (المؤكدة) في الأجل القصير، وبذات الوقت يمكن الاختباء، وبالتالي توزيع المسؤولية الناجمة عن مفاعيله السلبية في الأجل الطويل على مسببات وعوامل مختلفة (منها الحرب على سبيل المثال والظروف الدولية غير المناسبة .... وغير ذلك)، وهي مفاعيل يتعين بكل الأحوال على الإدارات اللاحقة مواجهتها والتعامل معها، وهكذا كل إدارة ترحَل للاستجمام، وترحِّل الأزمات والمشكلات لمن سيليها، وهكذا تكبر كرة العجز وضعف الأداء، ويستمر الفقراء وغير المتمكنين اقتصادياً من الشعب السوري يدفعون الثمن.

هذا، وفي ضوء ما تقدم، تبقى التساؤلات المطروحة: ماذا تفعل السلطات النقدية والقائمون على إدارة شؤون النقد في سورية؟ وماهي الخطوات التي يقوم بها المصرف المركزي في الوقت الراهن، لجهة ما يتعلق بتحريك عجلة الدورة الاقتصادية وتحفيز النشاط الاقتصادي؟ ماهي ملامح السياسة النقدية الراهنة؟ ما هي ملامح المضمون التوزيعي للسياسة النقدية، الذي يمكن الرهان عليه، في عملية تضييق فجوة الاختلال الحادة في تخصيصات الدخل، وتوزيع الناتج، بصورة تساعد في استعادة التوازن الاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي تساعد في تصحيح التشوه والاختلال البنيوي/الهيكلي، الذي بات ينذر بكوارث اقتصادية وسياسة واجتماعية في الأجل القريب. ما هي خطة المصرف المركزي لعقلنة الإجراءات الرقابية/التحقيقية، والأسئلة المقلقة والمربكة، التي يواجهها الكثير من المراجعين بخصوص استلام حوالات، أو إيداع مبالغ، لا تتجاوز بضع مئات آلاف من الليرات السورية، من قبيل [من أين؟ ولماذا؟ وكيف. وماذا ستفعل بها...]؟ وهل عملية مكافحة غسل الأموال، وتجفيف المنابع والمصادر، التي تغذي الإرهاب، تتم بواسطة هكذا إجراءات؟ هل الأموال الحقيقية، التي تغذي الإرهاب والإرهابيين في سورية، تأتي عن طريق الحوالات والتحويلات عبر الأجهزة المصرفية السورية؟ ماذا تفعل السلطات النقدية والقائمون على إدارة شؤون النقد في سورية، بخصوص مئات المليارات من الليرات السورية، التي تدور خارج نطاق شرايين الاقتصاد السوري الرسمي، والتي يمكن أن تكون بجزءٍ كبيرٍ منها مصدراً حقيقياً من مصادر تمويل الإرهاب الاقتصادي، ومختلف الأعمال والارتكابات النوعية بحق الوطن والمواطن؟ هل لديهما سياسات وخطة فنية وتقنية لإعادتها إلى خزينة الدولة السورية، وهل لديهما نية في ذلك؟ ألا يمكن استرجاعها بإجراءات بسيطة؟! هل اطّلعا على تجارب دول عديدة، امتحنت بالبلاء ذاته، الذي ابتليت به سورية، لكنها (أي تلك الدول) تمكنت من استرجاع الحقوق وأقامت ميزان الإنصاف؟ هل سياسة الغموض وترك الفعاليات الاقتصادية تحت تأثير الإشاعات، وعدم الرد عليها، يُعدّ سياسة نقدية أو مالية؟ لماذا لم يقم المصرف المركزي بتقديم توضيحات بخصوص سياسة سعر الصرف، وانعطافاتها الحادة والملتبسة والمفاجئة، التي خلقت حالة من الحذر، لدرجة الرعب في السوق، تسببت في انكفاء الكثير من القوى والفعاليات الاقتصادية؟ هل يعتقد المصرف المركزي أن الناس لا تفهم الوقائع، وهل الحقائق هي تلك التي يقبض عليها في حوزته فقط؟ ما الذي يفعله البنك لزيادة متوسط عدد دوران النقد كبديل يساعد في تنشيط الاقتصاد، ويقلل بذات الوقت من الحاجة للإصدار النقدي، أو لمصادر التمويل الاستثنائية الأخرى؟ ما هو سعر الفائدة المناسب للاقتصاد السوري في حالته الراهنة، بعيداً عن مقولة أن سعر الفائدة الحقيقي محكوم بمعدل التضخم، وتكلفة الفرصة البديلة؟[8] ألا يندرج كل ما تقدم في صلب اختصاص ومهام الإدارة النقدية، ويدخل كمكون بنيوي في صميم السياسة النقدية؟

كل ذلك لم تقم به السلطة النقدية ولا القائمون على إدارة شؤون النقد في سورية!؟ إلا أنّ التساؤلات التي طرحناها تسقط مبرراتها، وتصبح غير منطقية، بل غير مقبولة، ولا داعي لطرحها، إذا كانت الإدارة النقدية، والمعنيون بالسياسة النقدية، يعتقدون أن الإدارة بالغموض، والسوق الخلفية والموازية، والتفريط بالاحتياطي الذي تم بطرق ملتبسة، يعدّ من أهم أدوات السياسة النقدية، وأبرز مكوناتها الصميمة، بل تعدُّ سياسة نقدية ذكية، ابتكارية وإبداعية، وأن عدم تدريسها في الأكاديميات والجامعات، يعدُّ من نقاط القصور، وأوجه الضعف، في المناهج والنظرية الاقتصادية، وتحديداً النظرية النقدية، ما يعني ضرورة العمل على استدراكها، وتوظيفها في مناهج الاقتصاد مستقبلاً !؟

 

 

ثانياً- حول سياسة التمويل بالعجز، وتنامي العجز المالي للدولة السورية

أدى الدمار الهائل والخراب الذي أصاب مؤسسات الدولة السورية، إلى تراجعٍ كبير في حجم إيرادات الدولة الطبيعية [الضرائب، الرسوم، عوائد أملاك الدولة، فائض المؤسسات الاقتصادية (الإنتاجية والخدمية)]، ما دفع الحكومة السورية بحكم الضرورة والواقع، للاعتماد بصورة كبيرة جداً على مصادر التمويل الاستثنائية، كبدائل إيرادات مالية، سواء أكان ذلك عن طريق الاستدانة الخارجية، عبر فتح الخط الائتماني مع إيران، أم عن طريق الاستدانة الداخلية عن طريق تغذية مالية مستمرة، تتم بوتيرة شهرية، يقدمها البنك المركزي للحكومة، بواسطة إصدارات نقدية، لسد العجز المالي الحكومي الناجم عن التراجع الكبير في حجم الإيرادات الطبيعية/العادية، وتوفير السيولة اللازمة لتمويل الإنفاق العام[9]. ما أدى إلى ارتفاع كبير في حجم الديون والالتزامات واجبة الأداء على الدولة السورية، تجاه الداخل والخارج، قاربت (بحسب بعض التقديرات) حدود (6) تريليون ليرة سورية، وذلك رغم النهج الحكومي الرسمي المتشدد في تطبيق إجراءات مالية ونقدية ذات طابعٍ انكماشي وتقشفي حاد، ورغم تقييد الاستيراد، وتثبيت الرواتب والأجور وإلغاء الكثير من الحوافز والتعويضات والمكافآت وبدائل السفر... وغير ذلك، من إجراءات، قامت بها الحكومة السورية، كنا قد أشرنا إلى بعضها، وهي بالتأكيد هامة، وذات مردود إيجابي بمنظور تاريخي في الكثير من جوانبها، وكان لها في الواقع دور كبير، في كبح جماح التضخم المفرط، والحيلولة دون الوصول إلى حالة الانهيار الاقتصادي. لكن ما يجب أن يؤخذ بالحسبان: هو أن المفاعيل الإيجابية لتلك السياسة، كان من الممكن أن تكون أفضل بكثير، وذات مردود أعلى، لو ترافقت مع إجراءات نوعية جادة، وتدابير حكومية متشددة وصارمة، تستهدف كبح نشاط اقتصاد الظل، ولجم ظاهرة تشكل الاقتصاد الموازي، الذي فوّت على الدولة موارد مالية كثيرة.

هذا ومما لاشك فيه أن خيار اللجوء إلى مصادر التمويل الاستثنائية في سورية،  سواء أكان عن طريق الاستدانة من الخارج، أم من الداخل عن طريق إصدار السندات، (الذي لم يتم حتى اللحظة، ولا تتوافر على ما يبدو الشروط الموضوعية لنجاحه، كخيار بديل)[10]  أوعن طريق الإصدار النقدي، الذي هو خيارٌ قائمٌ ومطروحٌ ومعمولٌ به في سورية، ويعد من البدائل التي لجأت إليها دول كثيرة، خاضت صراعات وحروباً داخلية، إلا أنه يبقى بكل الأحوال خياراً محفوفاً  بالمخاطر، ويحتاج نجاحه لتوافر مجموعة من الشروط الموضوعية، غير متوافرة في الحالة السورية في الوقت الراهن، لأسباب كثيرة لا يتسع المقام للخوض في تفاصيلها الآن. وعليه إذا كان خيار التمويل عن طريق السندات غير ممكن الآن، وإذا كان خيار التمويل عن طريق الإصدار النقدي ينطوي على مخاطر حقيقية لجهة ما يتعلق بإمكانية تأجيج التضخم وبالتالي زيادة حدة الاختلال في الاقتصاد السوري، وأن التمويل عن طريق الاستدانة الخارجية غير ممكن أو مُتاح، فإن إطار النقاش العام يبقى مفتوحاً لطرح العديد من التساؤلات من قبيل: ألا يوجد مقاربات بديلة لمصادر التمويل التضخمي، يمكن أن تساعد في تحفيز الاقتصاد الراكد!؟

 

 

ثالثاً- مقاربات سياساتية بديلة

إن مشكلة الركود العميق الذي يعيشه الاقتصاد السوري، لا ترتبط كما نرى بأسباب الندرة على مستوى العرض النقدي. بمعنى أنها ليست نتيجة لنمو في حجم الناتج المحلي الإجمالي بمعدل يتجاوز معدل النمو في حجم الكتلة النقدية. فقد تراجع الناتج المحلي الاجمالي السوري طوال سنوات (2010-2016) من (60.2) مليار دولار إلى (26.4) مليار دولار، أي أنه تراجع بمقدار  (56.14%) وذلك بحسب تقديرات اللجنة الاقتصادية لغرب أسيا، في الوقت الذي استمرت فيه الكتلة النقدية (M0) تنمو بصورة مستمرة ومتواصلة (بحسب بعض التقديرات) بمعدل يتراوح بين (19  - 23%) طوال السنوات (2012 - 2016)، وكذلك الأمر بالنسبة لـ (M1) التي تطورت بمعدل كبير منذ عام 2013، تراوح بين ( 20% و23%) طوال السنوات (2013 - 2016) أيضاً  مع الأخذ بالحسبان ارتفاع  نسبة (M0/M1) من (57.5%) عام 2012 إلى (60.66%) عام 2016، وذلك بسبب التضخم، والارتفاع في المستوى العام للأسعار، الذي سيّل قسماً كبيراً من مدخرات السوريين. وتسبّب بقوةٍ في تراجعٍ كبيرٍ في حجم العرض النقدي الحقيقي[11].

إلا أن استمرار التراجع في حجم العرض النقدي الحقيقي في عام 2017، والنصف الأول من عام 2018، يطرح بدوره الكثير من علامات الاستفهام الكبرى، حول وضع السوق، ومصير السيولة النقدية من قبيل: أين ذهبت السيولة وكيف؟ لماذا جفـّت السوق بهذه السرعة والحدة، رغم الاستقرار النسبي والهدوء، الذي تحقق في المستوى العام للأسعار (بل الانخفاض أحياناً)؟ ما الحكمة في ذلك؟ هل ازداد حجم الاحتياطي من القطع الأجنبي؟ من الذي اشترى؟ وممن اشترى؟ ومن الذي باع، ولمن؟ كيف يمكن استعادة تلك الأموال، لتدخل في دورة النشاط الاقتصادي من جديد؟ تساؤلات كبيرة وهامة، والإجابات عليها تندرج في نطاق المهمة الكبرى، والمسؤولية التاريخية للإدارة النقدية والمالية، وبالتالي في صميم نشاطها ومهامها وعلى رأسها البنك المركزي؟

في إطار الرؤية البديلة لإخراج الاقتصاد السوري من المحنة الراهنة، سواء أكان ذلك لجهة ما يتعلق بتأمين الموارد المالية، وخلق مصادر التمويل، أم لجهة ما يتعلق بتمويل خطة إنعاش للاقتصاد السوري، تؤسس لاستقرار سياسي واقتصادي، نعتقد بأنه يمكن العمل على مستوى مدخلين هما:

المدخل الأول: مدخل اقتصادي مصرفي فني/تقني: وهذا المدخل تفصيلي، يندرج حصرياً في نطاق مهام واختصاص الإدارة النقدية، لكنه يتكامل بقوة مع عناصر المدخل العام، الذي سنستعرض مكوناته بعد قليل. ويتضمن هذا المدخل مجموعة من التدابير والإجراءات النقدية العاجلة، التي يمكن أن تساعد في تصميم خطة إنعاش وإنقاذ حقيقية للاقتصاد السوري منها:

  1. تغيير النقد السوري: وهي خطوة قد تبدو صادمة، وغير مقبولة للوهلة الأولى، ومُستهجنة من قبل البعض، وندرك بأن هذا المقترح سيواجه هجوماً عنيفاً من قبل جهات متعددة أبرزها:
  1. من يدخرون ويمسكون بكميات كبيرة من النقد السوري. وهنا قد يوجد جهات متعددة، تمسك بقوة بكميات كبيرة بالنقد السوري، لأهداف وغايات مختلفة، لا يتسع المقام للخوض في تفاصيل سلوكها ودوافعها.
  2. بعض المكونات والأطراف في السلطتين النقدية والمالية التي ستهوِّل من تكاليف هذه الخطوة، والمخاطر التي يمكن أن تترتب عليها.
  3. البعض ممن يعتقد بأنهم يملكون الخبرة وعلوم البداية والنهاية في الشؤون النقدية والمالية.

لكننا في جميع الأحوال نعتقد بأنها خطوة نوعية، تساعد إلى حدٍّ كبير في إفراغ الأقبية والمستودعات من مئات المليارات من الليرات السورية، التي خرجت من سوق التداول لأسباب كثيرة، والتي ستترتب عليها تداعيات ومنعكسات خطيرة في لحظة ما، تتوقف على طريقة التوظيف، ويبقى من المفيد الإشارة إلى أن تكاليف التغيير أقل بكثير من تكاليف عدم التغيير.

  1. إعداد خطة تمويل وسياسة إقراض مرتبطة بغايات محددة، تركز بصورة جوهرية على عملية تحفيز الإنتاج، الذي يغذي العرض الكلي، ما سيؤدي بدوره إلى تخفيض المستوى العام للأسعار، وبالتالي تقليل مدى الحاجة للنقد، تأسيساً على النظرية التي تقول إن العرض يخلق أو ينتج الطلب[12]، وهذا يتطلب وجود خطة حكومية متكاملة، لتفكيك بنية الاحتكار المتحكم بالسوق السورية.
  2. تنشيط حركة دوران النقد، وهذا يتطلب تنشيط عملية التبادل (كمية/حجم المبادلات)، عن طريق تسهيل المبادلات، والحد من العقبات البيروقراطية، وضمان هامش ربح أو عائد، يحفز على الاستثمار والتوظيف، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي. وهذه خطة يمكن أن تقلل من حجم العرض النقدي المطلوب لتنشيط الاقتصاد السوري.
  3. تخفيض سعر الفائدة على الودائع الادخارية، الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة العرض النقدي السائل وشبه السائل (Mo)، على حساب (M1) و (M2)، ما سيسهم في تحريك عجلة الإنفاق الاستهلاكي الذي يعد أحد أهم المكونات التحفيزية على مستوى الطلب الكلي، التي يمكن الرهان عليها لزيادة معدل دوران النقد هذا من جانب، كما يسهم في تخفيض تكلفة رأس المال، ما يحفز على الاستثمار من جانبٍ آخر.
  4.  التوجه نحو تنفيذ سياسة اقتصادية نقدية توسعية، لكن بخطوات وبجرعات تجريبية صغيرة، ونسب محدودة جداً، لأن السوق يمكن أن تنطوي على عناصر مفاجئة، غير مأخوذة بالحسبان، بسبب حالة الملابسات والغموض التي تحيط بمسألة انخفاض العرض النقدي. وهذ يمكن أن يساعد في تحريك الطلب الكلي، الذي سيكون له أثرٌ تحريضي لجهة ما يتعلق بتقصير دورة النقدية، وبالتالي تنشيط الاقتصاد وتحفيز الإنتاج.
  5. تعزيز ثقة الناس بالنظام المصرفي ونواياه الحقيقية، وذلك من خلال تعزيز مناخ الشفافية والوضوح والنزاهة.
  6. تطهير الأجهزة المصرفية من العناصر الفاسدة وضعاف النفوس ونفوذ جماعات الضغط والمصالح.

المدخل الثاني: مدخل مؤسساتي/سياساتي عام: وهذا المدخل يندرج في نطاق المشروع الخلاصي للدولة السورية، وإعادة الهيكلة الكلية للاقتصاد، وليس من اختصاص الإدارة النقدية ولا المالية، ويتضمن مجموعة من الإجراءات والتدابير النوعية، التي تضع إدارات مختلف مؤسسات الدولة، بما فيها الإدارة النقدية والمالية في المسار الصحيح، وتساعد في الوقت ذاته أيضاً، على تأمين مصادر تمويل ترفد الخزينة العامة للدولة السورية بموارد مالية كبيرة، تساعد في تحفيز الاقتصاد السوري، وتنشيط الدورة الاقتصادية والانطلاق في عملية إعادة الإعمار والبناء. منها:

  1. تنفيذ حملة نوعية (حقيقية) كبرى على أجهزة الفساد والفاسدين، ورجال المافيا الاقتصادية، وتفكيك بناها واستئصال جذورها، وذلك بواسطة خطة استراتيجية، تنطلق من رفع الغطاء، وكشف الحقائق، والوقائع المرتبطة بملفات الفساد الكبرى، في قطاعات النفط والغاز والتعليم والمالية والجمارك والاقتصاد ومختلف القطاعات، والإطاحة برموزها والشبكات المرتبطة بها، ومحاكمتهم بصورة علنية، ومصادرة أموالهم عن طريق وقائع جلسات علنية، تحت أضواء الكاميرات والفضائيات، بصورة يمكن أن تساعد في ترميم وتصليب جسر العلاقة المهتز بين المواطن والدولة، جراء الفوضى وغياب المحاسبة طوال سنوات الحرب وقبلها.
  2. أما وقد استعادت الدولة سلطتها على معظم أراضي الجمهورية العربية السورية، فقد بات لزاماً على الدولة، التوجه بقوة نحو حسم الخيارات المتعلقة بهوية الدولة الاقتصادية، ما يعني ضرورة التوجه نحو تنفيذ حزمة إجراءات إصلاحية صادمة وقوية، تتجاوز حدود فكرة أن الإصلاح الإداري هو المدخل الصحيح لمكافحة الفساد، وهو المدخل للإصلاح الاقتصادي، وبالتالي المدخل لبناء سورية الحديثة.
  3. الإقرار بأن الإصلاح في سورية عملية مركبة، تقتضي من الناحية الموضوعية السير بمسارات متلازمة سياسية واقتصادية واجتماعية، تبدأ من إصلاح المرجعيات والأطر التي تضطلع بدور مركزي في صنع القرار ورسم السياسة العامة للدولة في مختلف مجالات الحياة.
  4. التخلي عن بعض الخيارات التي راهنت عليها الدولة السورية سابقاً في إدارة الشأن العام سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، والإقرار بأنها كانت عقيمة ووصلت إلى جدار مسدود، بل أسست لأزمة بنيوية خلقت أرضية قابلة للانفجار بصورة دائمة ومستمرة، وأنه لا يمكن الرهان عليها مستقبلاً، كي لا يتكرر المشهد بصورة لا تبقي ولا تذر[13].
  5. إطلاق برنامج تحرير اقتصادي وخصخصة واسع النطاق، في جميع القطاعات، يطال مختلف الشركات والمؤسسات، التي لا يمكنها العمل بمعايير الحوكمة ونظم التشغيل والأداء العالمية. وهذا يتطلب تقييم جدواها الاقتصادية والمالية، ومن ثم تصنيفها ضمن ثلاث زمر هي: (يمكن أن تستمر لأنها ذات جدوى، لا يمكن أن تستمر دون مساعدة ودعم تمويلي، لا يمكن أن تستمر لأنها خاسرة وخارج السياق)، وعليه يتم الإبقاء على المؤسسات والشركات الاقتصادية الإنتاجية والخدمية، التي لها جدوى اقتصادية ومالية فقط.  يُستثنى من ذلك قطاعات التربية والتعليم العالي والصحة في سورية، لأن نشاط القطاعات المذكورة، يرتبط بحقوق تنموية إنسانية أساسية[14] لشرائح ومكونات اجتماعية غير متمكنة بغالبيتها من الناحية المالية والاقتصادية. لكن ما يجب أن يؤخذ بالحسبان أن واقع قطاعات التربية والصحة والتعليم مرفوض، بسبب الفساد والهدر وانخفاض نوعية الخدمة، ما يعني أنه يحتاج إلى إعادة نظر وإصلاح جذرية، تساعد القطاعات المذكورة في التحرر من نفوذ ضعاف النفوس وهيمنة شبكات الفساد والمحسوبية والمحاصصة والإدارات الهزيلة، في الوقت الذي نحن أحوج ما نكون فيه أيضاً لتطبيقٍ متشددٍ للقوانين والأنظمة ومعايير الاعتمادية والحوكمة المعتمدة عالمياً على نشاط القطاع الخاص في التربية والصحة والتعليم.
  6. إعادة النظر بواقع قطاع نظام الضمان والرعاية الاجتماعية والتأمين في سورية، وتحويله إلى قطاع حقيقي عن طريق حوكمته، وإخضاعه لمعايير الجودة والاعتمادية الدولية.
  7. إخضاع مؤسسات القطاع الخاص والأنشطة التي يقوم بها، لمعايير الحوكمة العالمية، والتشدد في تطبيق القوانين والأنظمة المرعية التي تضبط إيقاع عمل مؤسسات وشركات وفعاليات القطاع الخاص.
  8. إجراء إصلاح نوعي جريء للنظام الضريبي، يتناوله في العمق، يساعد في تغيير مضمونه من نظام جباية للأموال إلى نظام ضريبي توزيعي وتنموي، محكوم بغايات وأهداف الخطط والبرامج الاقتصادية والاجتماعية التنموية.
  9. منح الصلاحيات الكافية لمجلس النقد والتسليف، والتأكيد على أهمية استقلالية المصرف المركزي، وامتلاكه الهامش والمرونة الكافية في تنفيذ السياسات التي تنسجم مع طبيعة المهام والأهداف.
  10. تفكيك بنية الاحتكار، وخلق بيئة اقتصادية تنافسية حقيقية، تساعد في تحقيق الإنصاف، ومبدأ تكافؤ الفرص للجميع.

إن تطبيق الإجراءات والتدابير السابقة المُشار إليها في المدخلين السابقين، يمكن أن يساعد في تحقيق وفر مالي كبير للدولة السورية، عن طريق الموارد الذاتية المُتاحة، هي في أمس الحاجة إليه، لأنه يقلل إلى حدٍّ كبيرٍ من حاجتها لمصادر التمويل الاستثنائية الداخلية والخارجية، المكلفة بلا شك سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

 

 

خلاصة

إن بناء الدولة السليم والمستدام، يتطلب مراجعة وتقييم للخيارات والرهانات، كمدخل لإعداد برامج وسياسات اقتصادية وغير اقتصادية جريئة ونوعية، كما يتطلب تشريعات حيادية وموضوعية، وقرارات عقلانية كبرى، يسنّها رجال دولة حقيقيون، يمتلكون الحس السليم، والفكر المبدع، والرؤى الثاقبة والقلوب الشجاعة، والتواضع. يتم اختيارهم على أساس القدرة والكفاءة والنزاهة. فالمسألة لم تعد تحتمل الاحتواء، ولا الاسترضاء، ولا الاستيعاب، تحديداً بعد حمام الدم، الذي بدأ منذ ما يقارب ثماني سنوات، والذي حصد مئات ألوف المواطنين السوريين، وتسبب في تشريد ولجوء الملايين.

مربع نص: مفاعيل عدم الرضا والاحتجاج الصامت، قد تكون مردوداته السلبية أخطر بكثير، وقد تتسبب في إنتاج دورات عنف متكررة بأشكال مختلفة، لا يمكن استيعاب نتائجها.إن سياسة عدم الاعتراف بالأسباب الجوهرية والمضمون الحقيقي للمحنة السورية الكبرى، التي يعدّ الفساد إلى جانب الإرهاب الدموي والفكري الحاقد، أحد أهم أسبابها، كل ذلك يشكل الغطاء/الظل الظليل، والملاذ الأمن للقوى الفاسدة، والتربة الخصبة لانتعاش ضعاف النفوس، ونمو المرتزقة والأغبياء، وتكاثر المستنصبون، الذين لا يمتلكون الفهم والدراية والكفاءة، ويختبئون وراء الشعارات والمزايدات والغموض والنفاق والمداهنة، والولاءات والبرامج الخلّبية الاستعراضية. إن هؤلاء جميعاً، لا يمكن أن يكون لهم أي دور إلا في ظل بيئة فاسدة، ومناخ مفسد، وهم الخطر على حاضر الوطن ومستقبله.

ويجب أن نعلم أن المشهد يمكن أن يتكرر، بصورة أعنف وأخطر، وخلال فترة زمنية قصيرة جداً، مالم تكن هناك شجاعة وحسم من قبل الدولة السورية في التعاطي مع الملفات الجوهرية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية (البنيوية) الكبرى، بصورة واضحة وشفافة، فالحقائق بينة، والناس تفهم الواقع كما هو، وتفهم الوقائع كما هي، ويجب أن نكون على علمٍ ودراية، بأن السكوت قد لا يكون دائماً علامة رضا، فمفاعيل عدم الرضا والاحتجاج الصامت، قد تكون مردوداته السلبية أخطر بكثير، وقد تتسبب في إنتاج دورات عنف متكررة بأشكال مختلفة، لا يمكن استيعاب نتائجها ولا احتواء مفاعيلها.

إن المسألة الاقتصادية والاجتماعية في سورية تحتاج إلى عقلانية وعلاج متوازن، وتعاطي خلاق ومبدع، يتحلى بروح عالية من المسؤولية، والشعور بالانتماء والولاء للدولة السورية. ما يعني ضرورة العمل بسرعة وقوة، لتفكيك بنية الفساد ومحاسبة الفاسدين.

إن غالبية السوريين يعرفون ويفهمون كيف يتحقق الإصلاح الذي لم يعد لغزاً، وما هي شروطه، وما هي التحديات التي تواجهه، وكيف يمكن تذليلها وتجاوزها. ويؤمنون إلى حدٍّ كبيرٍ، أن الفساد أساس المشكلة في سورية، وأن الفاسدين، هم جزءٌ من المشكلة الكبرى، بل أحد أهم أسبابها، وأسباب استمرار الحرب والدم والدمار فيها. ولذا فإن ما هو مطلوب الآن، هو التقاط الفرصة، واستثمار اللحظة التاريخية، لإجراء إصلاحٍ بنيوي نوعي وجريء، يستأصل بنى الفساد، يفكك كيانيته بصورة جذرية، يقطع الطريق على الفاسدين والمرتزقة، ولا يسمح لهم بالوضوء والتطهُّر بدماء الشهداء الأحرار، أو خطف الانتصارات الكبرى للجيش العربي السوري والقوات المسلحة، واستثمارها لتجديد دورة الفساد، وإحكام قبضته من جديد.

 

 


[1] اعتمد الاقتصاد السوري طيلة العقود الأربعة الماضية نظام الإدارة عن طريق القرارات والأوامر الإدارية الرامية لتنفيذ أهداف خطط نقدية ومالية محددة مسبقاً، وهذا ينطبق على مختلف القطاعات والأنشطة الاقتصادية، وقد استمر ذلك حتى عام 2005، حيث بدأ التوجه نحو اقتصاد السوق.

[2]  بلغ عدد المصارف الخاصة في سورية حتى اللحظة (14) مصرفاً.

[3] الإجراءات والخطوات المذكورة لا تندرج في إطار السياسة النقدية، بل تعد إجراءات إدارية وتنظيمية تساعد في تبسيط الإجراءات وتسريع وتائر العمل.

[4] تم صرف احتياطي من القطع الأجنبي يزيد عن (18) مليار دولار أمريكي خلال ثلاث سنوات، بطرق وأساليب يكتنفها الكثير من الغموض واللبس،(توزيع مئات الملايين من الدولارات دون أي مبرر ولأهدافٍ غير مفهومة، و تنفيذ جلسات مزاد بيع القطع الأجنبي والمضاربة عليه....وغير ذلك)، ما دفع الحكومة لاحقاً للتوجه نحو الاعتماد على مصادر تمويل استثنائية أخرى، تسببت إلى جانب الحرب والدمار في  تفاقم حجم الدين العام لحدودٍ قاربت حدود (6) تريليون ليرة سورية، سيسددها الشعب السوري طوال عقودٍ قادمة من الزمن على حساب التنمية ونوعية الحياة، وإمكانية إشباع الحاجات في الحاضر وفي مستقبل. وفي هذا الإطار تشير الكثير من البيانات والمعطيات إلى ارتفاع كبير في نسب الفقر ومعدلات الحرمان وتسرب الأطفال من المدارس والالتحاق بسوق العمل لتأمين العيش.

[5] حدد مجلس النقد والتسليف بالقرار رقم 698/م ن/ب4/2010، سعر الفائدة على الودائع التي تزيد مدتها عن عام بين (5.5% حد أدنى و 7.5 % حد أعلى +/ــ 2%). بالقرار رقم 728 / م ن/ ب4 تاريخ 28/12/2010 أصبحت (5% حد أدنى و 7% حد أعلى + / ــ 2%). ثم أصبحت بموجب القرار رقم 795/ م ن/ ب4/ تاريخ 14/12/2011 (9% حد أدنى ــ11% حد أعلى) على ودائع التوفير لأكثر من سنة. ثم عُدِّلت بالقرار رقم 818/ م ن /ب41 / 15/2/2012 لتصبح بين (10% حد أدنىــ 11% حد أعلى). وبالقرار رقم 1266/ م ن/ب4/ تاريخ 31/5/2015 تمّ تعديل الحد الأدنى والأعلى لسعر الفائدة على الودائع لأكثر من سنة لتصبح بين (10% حد أدنى و 20% حد أعلى) مع تخفيض الهامش إلى (+/ــ 1%) فقط. المصدر: موقع مصرف سورية المركزي

[6] قام (11) مصرف خاص من المصارف الخاصة السورية، التي يبلغ عددها (14)، مؤخراً بتوظيف نحو (658) مليار ليرة سورية (1.5) مليار دولار في المصارف اللبنانية، جريدة الوطن السورية، العدد 2884، تاريخ 23/4/2018. وكذلك الأمر في المصارف العامة التي تكدس لديها حجم كبير من الودائع المصرفية.

[7] لقد نظرت الإدارة النقدية والمالية بعين واحدة فقط، إذ كان الهاجس الأكبر، والهدف الاستراتيجي الأوحد بالنسبة إليها هو تثبيت سعر الصرف، وزيادة قدرة الدولة على التحكم بسوق القطع، وبالتالي تأمين الفرصة والظروف التي ساعدت في تغذية الاحتياطي الاستراتيجي من القطع الأجنبي.

 

[8] كي يكون سعر الفائدة حقيقياً، يجب أن يكون معدل الفائدة الإسمي أكبر من معدل التضخم، لكن السؤال الأبرز هو كم يجب أن يكون أكبر منه؟ وكم يجب أن يتجاوزه، بحيث لا يكون له مردود سلبي على التنمية والنمو؟ تلك هي مهمة المصرف المركزي.

[9] تشير بعض التقديرات إلى ارتفاع نسبة اجمالي ديون المصرف المركزي على القطاع العام إلى الناتج المحلي الاجمالي من (22.9%) عام 2011 إلى (242.24%) عام 2016 ما يعني أنها تضاعفت بمقدار (10) مرات، وهي ديون ناجمة تزايد الحاجة لتمويل مؤسسات القطاع العام بالأموال جراء توقف معظمها كلياً أو جزئياً جراء الحرب على سورية. في الوقت الذي تضاعف فيه حجم الأوراق النقدية المصدرة بمقدار (1.98) مرة، وبمعدل نمو (98.4%) خلال الفترة ذاتها (2011-2016).

 

[10] كنان ياغي، "الآثار الاقتصادية لإصدار أذون وسندات الخزينة"، مركز دمشق للدراسات والأبحاث (مداد)، 3 آب/أغسطس 2017. https://goo.gl/AQHXVR

[11] يرتبط حجم العرض النقدي الحقيقي بعلاقة طردية مع حجم العرض النقدي الإسمي، بافتراض ثبات معدل التضخم. ولذا فقد تراجع العرض النقدي الحقيقي بصورة كبيرة جراء الارتفاع في معدل التضخم بصورة كبيرة جداً خلال سنوات الحرب.

[12] إن نجاح هذه النظرية أو المقاربة، يتطلب توافر شروط معينة، يندرج في مقدمتها وجود سوق نقدية ومالية مفتوحة.

[13] لقد عاد الوضع في العراق لأسوأ مما كان عليه سابقاً، بسبب استمرار المنهج والمنطق السابق نفسه، كالفساد وغياب منطق الدولة وعدم احترام القانون ومبدأ تكافؤ الفرص، والإنصاف، واستمرار الرهان على الخارج وتغليب الخاص على العام...

[14] حق الالتحاق بالمدارس والتعلم والطبابة والاستشفاء، هي حقوق تندرج في نطاق الحقوق التنموية الإنسانية الأساسية، التي جاءت في قائمة الأهداف الستة عشر الأساسية لأجندة الألفية الثالثة للأمم المتحدة

سيريا ديلي نيوز


التعليقات