يعاني المواطن السوري من ارتفاع متواصل في أسعار المواد بكل أنواعها مع عدم قدرة وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك والجهات ذات العلاقة على ضبط الأسعار والأسواق في ظل الارتفاع والانخفاض بسعر صرف الدولار ووجود عدة أسعار له.
كما يعاني المواطن من فقدان بعض المواد الأساسية كحليب الأطفال وغيره وقلة مواد أساسية أخرى. كالمحروقات ووجودها في السوق السوداء بأسعار مضاعفة عن أسعارها الرسمية.

هذا الواقع يعود – كما يرى الكثيرون – لعدة أسباب بعضها خارجي ومعظمها داخلي يتعلق بسوء الإجراءات النقدية وآلية الاستيراد والتصدير المتبعة وسوء الإدارة الاقتصادية وتراجع الإنتاج.. إلخ.

وفي ضوء ما تقدم سألنا بعض الاقتصاديين عن رأيهم بهذا الواقع والأسباب التي أدت وتؤدي إليه ومقترحاتهم لمعالجتها.
من إنتاجي إلى ريعي

الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق الدكتور حسن حزوري رأى أن الحكومة تتحمل القسم الأكبر من الواقع السيئ في الاقتصاد السوري. لكونها اعتمدت سياسات اقتصادية بشقيها المالي والنقدي أثبتت فشلها وساهمت بشكل كبير في تراجع الإنتاج المادي لمصلحة الإنتاج الخدمي والريعي، ما حوّل الاقتصاد السوري من اقتصاد إنتاجي عماده الزراعة والصناعة إلى اقتصاد ريعي لا قيمة مضافة حقيقية فيه. إذ يعتمد على الخدمات والاستيراد والتصدير فقط، إضافة إلى أن الحكومة تصر على دعم الاحتكار على حساب المنافسة الحقيقية في الكثير من المجالات. وتصر على الجباية الجائرة على حساب دعم الإنتاج، وتنفرد بصنع القرار الاقتصادي من دون تشاركية حقيقية مع أي جهة بحثية أو استشارية حيادية.
دعم الإنتاج

واقترح حزوري عدة حلول لمعالجة المشكلات التي تسببت بها الإجراءات الخاطئة، أولها إعادة النظر بالسياسة الاقتصادية والاستفادة من الأجواء الإيجابية المرتقبة من نتائج الانفراجات السياسية التي ستتجسد على الأرض. إضافة إلى دعم قطاعات الإنتاج الحقيقي من صناعة وزراعة وحرف وتأمين مستلزماتها الإنتاجية بأقل أسعار ممكنة. بعيداً عن الاحتكار والسمسرة، وإتاحة تكافؤ الفرص لجميع المستثمرين ليعملوا في ظل منافسة تامة وشريفة، وبعيدة عن الاحتكار والمحسوبيات لتستطيع هذه القطاعات العمل بكفاءة وزيادة الإنتاج لتضييق الفجوة بين العرض والطلب. وتأمين إنتاج محلي بديل عن الإنتاج المستورد. وأن تبنى سياسة التصدير على تصدير الفائض الحقيقي من الإنتاج الصناعي والزراعي.
تعويم مدار

أما فيما يتعلق بالسياسة النقدية والمصرفية التي كان هدفها الأساسي ضبط سعر الصرف والتضخم. فيرى حزوري أن الحكومة فشلت في كل الطرق التي اتبعتها في سبيل ذلك. نتيجة اعتمادها على إجراءات قسرية أكثر منها اقتصادية ولاسيما بعد صدور المرسومين 3 و4 لعام 2020 اللذين منعا التعامل بغير الليرة السورية، وترافقت مع سياسة تجفيف السيولة وقيدت حركة نقل الأموال بين المحافظات، هذه الإجراءات أضرت بالاقتصاد بمختلف فعالياته، لأنها أدت إلى إغلاق المئات من المنشآت الصناعية وإلى هجرة رؤوس الأموال، معتبراً أن الدليل على فشل هذه السياسة يتمثل بأن سعر صرف الليرة السورية في السوق الموازية أمام الدولار الأميركي كان لا يتجاوز 1000 ليرة، ليصل خلال ثلاث سنوات إلى أكثر من سبعة أضعاف، وترافق ذلك مع تخفيض السعر الرسمي لقيمة الليرة السورية من 3000 ليرة أمام الدولار الأميركي إلى 4500 ليرة، أي بنسبة تخفيض 50 بالمئة من أجل مقاربة السعر الرسمي إلى أسعار السوق الموازية، واصفاً هذا الإجراء بالتعويم المدار. والذي يعتبر أمراً إيجابياً لتضييق الفجوة بين السعر الرسمي والسعر الموازي، ولجذب جزء من الحوالات الخارجية التي ترد عبر الشركات الرسمية ولو بشكل قليل. مفضّلاً أن تكون هناك نشرة أسعار خاصة بشراء الحوالات الشخصية تكون قريبة من سعر الصرف الموازي أو تساويه.
إعادة النظر ببعض المراسيم

وفي الإطار ذاته، اقترح حزوري أن يتم العمل على إصلاح النظام المصرفي ليصبح أكثر مصداقية وشفافية ومنحه المرونة الكافية ليكون عامل جذب للاستثمارات. وليمارس دوره الطبيعي في توظيف الأموال في مشروعات تنموية حقيقية، مستفيداً من الكتلة النقدية الكبيرة غير الموظفة مالياً، ولتكون أرباحه الحقيقية ناتجة عن عمليات توظيف الأموال وليس عن عمليات ريعية كالعمولات وغيرها. إضافة إلى العمل على إعادة النظر بالمرسومين 3 و4 لعام 2020، وإعادة افتتاح جميع شركات الصرافة وربط عملياتها إلكترونياً مع المصرف المركزي كجهة رقابية، أسوة بالربط المالي بين المكلفين ضريبياً ووزارة المالية.
استثمار أملاك الدولة

وأكد حزوري ضرورة إعادة النظر بالسياسة المالية، بما يحقق استثماراً أمثل لأملاك الدولة ومشروعاتها من جهة وعدالة في التحصيل الضريبي من جهة أخرى، يترافق مع كفاءة في الإنفاق العام ما يعني إنفاق كل ليرة في المكان المخصص لها بحيث تحقق أكبر عائد، ويتطلب ذلك الانتقال إلى الضريبة الموحدة على كل مصادر الدخل بعيداً عن الضرائب المتعددة الحالية، وأن تعتمد السياسة المالية على مبدأ الرعاية على حساب الجباية، إضافة إلى ضرورة مراعاة الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعانيها كل الفعاليات الاقتصادية من منتجين أو مستهلكين.

ولفت إلى أن الربط الإلكتروني الذي تقوم به وزارة المالية يعد خطوة إيجابية من حيث المبدأ لمعرفة حجم المبيعات ورقم الأعمال وبالتالي الوصول إلى تحديد الأرباح الإجمالية والصافية وتحديد حجم الضريبة الواجبة تجاه الجهات المالية، لكن التحصيل الضريبي على أرض الواقع فيه سلبيات عديدة، منها: وجود الكثير من التكاليف المستورة وغير المنظورة، كنفقات النقل المفروضة من ناحية كيفية إثباتها، وأيضاً شراء مواد مسعرة مركزياً من السوق السوداء كنفقات القوى المحركة من مازوت وبنزين نتيجة عدم قدرة الحكومة على الإيفاء بالتزاماتها. إضافة إلى وجود حقائق على الأرض لا يمكن تجاهلها كوجود رشاوى أو إكراميات تدفع لقاء إنجاز الكثير من المعاملات في مؤسسات الدولة، أو لعناصر جهات رقابية متعددة، ناهيك عن ضعف البنية التحتية للاتصالات وانقطاع الشبكة أو ضعفها التي تؤخر إنجاز المعاملات.
القطع يتسرب للخارج

الدكتور ذو الفقار عبود من كلية الاقتصاد في جامعة طرطوس يقول: إن هناك أسباباً عدّة سياسية واقتصادية لعبتْ دوراً كبيراً في تأزم الوضع الاقتصادي نذكر منها تأثر سعر صرف الليرة السورية بالأوضاع في دول الجوار وتحديداً لبنان والعراق. فمنذ بداية الحرب على سورية بقيتْ بعض المنافذ مفتوحة يتنفّس منها الاقتصاد السوري، وعندما اضطربت أوضاع لبنان وتبعه العراق تأزّمتْ الأوضاع الأمنية. وتخلخلتْ الركائز الاقتصادية في كلا البلدين، وأصبح اقتصادهما على حافة الانهيار، وأدّى ذلك إلى تأثر الليرة السورية بضعف الاقتصاد في العراق ولبنان، ما أثر بدوره في التبادل التجاري مع سورية، إضافة إلى سيطرة الاحتلال الأميركي والميليشيات الانفصالية على المناطق الغنية بالنفط والغاز.

تضاف إلى ذلك سياسات مصرف سورية المركزي، فنتيجة الفجوة بين سعر صرف العملات الأجنبية في السوق الموازية والسوق الرسمية صار هناك تسرب كبير بالقطع الأجنبي خارج المنظومة الاقتصادية. فقام تجّار كثر بنقل بعض أموالهم واستثماراتهم إلى لبنان ومصر والأردن.

وأضاف عبود: إن الكثير من تجار دمشق وبيروت بشكل رئيسي ومع تدهور الليرة اللبنانية قاموا بسحب القطع الأجنبي في سورية لدعم تجارتهم في بيروت. ما أدى إلى زيادة الطلب على العملة الصعبة في دمشق، فأدى ذلك إلى ضرب الاقتصاد السوري. وبالمقابل مع قيام الاضطرابات في لبنان، قام تجار لبنانيون بسحب الدولار من الأسواق السورية لدعم اقتصاد لبنان المتدهور فأدى إلى النتيجة نفسها.

سبب آخر يضيفه عبود، وهو أن سياسة الدعم الاجتماعي في سورية تطول البالغين فقط ولا تلحظ الأطفال الرضع الذين تبلغ نسبتهم من مجموع السوريين حوالي (22 بالمئة). فلماذا لا تدعم الحكومة حليب الأطفال الذي هو الغذاء الرئيسي لهذه الشريحة من السوريين أو على الأقل تنشئ معملاً للحليب المجفف بما يخفض من فاتورة الاستيراد بالقطع الأجنبي؟

وأشار عبود إلى أن هذه أهم العوامل التي ساعدت في تفاقم الأزمة الاقتصادية وانخفاض سعر صرف الليرة السورية. وهناك عوامل أخرى كالفساد وعدم إيجاد الحلول الاقتصادية المناسبة. واتباع سياسة ضريبية كمية. إضافة إلى انعدام ثقة التجار بتحسن الوضع الاقتصادي ما يدفعهم لتهريب أموالهم خارج البلاد.

وختم بالقول بأن حاجة سورية اليوم إلى الأمن الاقتصادي الذي يجعل من تدفق التجارة والاستثمار أمراً ضرورياً. إضافة إلى نزاهة المسؤولين، وإنهاء الحرب وعودة المهجّرين ورؤوس الأموال. وفتح الحدود للتجارة، كل هذه العوامل كفيلة بإنعاش الاقتصاد في سورية.
توحيد سعر الصرف

من جهته، أوضح عضو مجلس الأعمال السوري- الروسي د. إياد محمود حسن أن الاقتصاد بحاجة لخطوات جدية مؤثرة ومدروسة تبنى على إمكانيات واقع حقيقي وقوانين من شأنها بناء اقتصاد وطني عام لا اقتصادت فردية خاصة. أما بالنسبة لاستقراره فلن يستقر ما دام هنالك فارق بين سعر الصرف بالمركزي وسعر الصرف المتداول على حد وصفهم. أما رفد البنك بالعملة الصعبة فيجب أن يبدأ من انفتاح البنك المركزي وتعديل قوانينه وسياساته التي قيدت البنك وفسحت المجال لانتعاش شركات الصرافة الخاصة.

وأضاف: ملايين الدولارات ستصب في البنك المركزي يومياً في حال تم توحيد سعر الصرف الذي يحتاج إلى خطوة هي الحلقة المفقودة التي لن يستقر الاقتصاد الوطني ولن تُضبط الأسعار إلا من خلالها. فكل الإجراءات المتخذة حالياً ومستقبلاً من وزارة التموين وغيرها من الوزارات والجهات لضبط الأسعار ستبوء بالفشل في ظل تخبط سعر الصرف وتحكّم بعض التجار المستوردين والمعتمدين من وزارة الاقتصاد الذين يساهمون في تخبط سعر الصرف من خلال مستورداتهم المقوننة بموجب إجازات وبوالص وفواتير مقوننة ومدروسة بامتياز على طلب أصحابها فسعر الصرف بالمركزي 4500 وسعر الصرف المتداول بالسوق السوداء القذرة 6000وأكثر وسعر الصرف الذي يسعر المستورد مستورداته عليه 10 آلاف.

وأكد حسن أن الانفراجات قادمة بلا أدنى شك لكنها لن تكون متسارعة كما ينتظر المجتمع وهنا على الحكومة العمل على تعديل بعض القوانين واتخاذ الإجراءات المناسبة وبكل المجالات استعداداً لتلك الانفراجات التي لا يتم الاستعداد للاستفادة منها بشكل ممنهج ومؤطر حيث من شأنها أن تتحول إلى أزمات على المدى البعيد وبالتالي الاستفادة من أخطاء الماضي ودروسه هو السبيل والنهج الأمثل لعمل الحكومة في المرحلة القادمة.

سيرياديلي نيوز


التعليقات