"بائع الحكمة" هو اللقب الذي أُطلق على ابن محافظة طرطوس الذي حاول إعادة قصة الرجل العجوز الذي اشترى حكمةً بألف دينار أنقذت حياته في ما بعد من الموت. فالشاب الثلاثيني محمد جبر، أراد كسر الصورة النمطية التي تشكلت مؤخراً في المحافظة، بسبب الجرائم والسرقات المتكررة، من خلال مبادرة تحولت في ما بعد إلى مشروع تنموي ثقافي يقوم على مبدأ "إن كنت لا تمتلك المال اقرأ 15 صفحةً من أي كتاب، واحصل على مشروبك مجاناً. خذ كتاباً وضع بدلاً منه كتاباً آخر".
يقول جبر : "البداية كانت بمساندة صديقي في تجهيز الأدوات وطبع الحكم على الكؤوس وترتيب الكتب والمشروبات التي تضم القهوة والشاي والنسكافيه، بهدف جذب الشباب إلى القراءة من جديد بطريقة ممتعة، ولكسر النمطية السائدة حالياً حول طرطوس بأنها أصبحت غير آمنة وتتكرر فيها الجرائم، لذلك تم اختيار شارع الزهور كونه مفترقاً لأربع طرق رئيسية ويضج بطلاب الجامعة والمدارس وهذه الفئة الأساسية التي يجب أن يتم التركيز عليها وتشجيعها على القراءة".
تلقّى جبر الدعم من بعض وكالات الألبسة والأحذية المحلية التي قدمت قسائم مجانيةً للناس، وهو يسعى مع أصدقائه إلى تعميم الفكرة أكثر
تلقّى جبر الدعم من بعض وكالات الألبسة والأحذية المحلية التي قدمت قسائم مجانيةً للناس، وهو يسعى مع أصدقائه إلى تعميم الفكرة أكثر واستقطاب عدد من المحالّ التجارية، وهذا ما يُحفّزهم للتوسع في المبادرة إلى بقية المحافظات.
خلال السنوات الأخيرة، بات واضحاً حجم التراجع والتبدل الكبير في النوعية والمضمون الفكري والثقافي والمعرفي للكتب المطروحة في الأسواق، إذ يطغى على معظم المكتبات والبسطات حضور الكتب الدينية والترفيهية وكتب الأبراج، إلى جانب بعض الروايات الاستهلاكية الرائجة ذات العناوين المطروقة والتي لا تغني ولا تطور عقل القارئ، في سوريا، حسب ما يروي العديد من المثقفين والقرّاء. وبسبب الوضع الاقتصادي الذي أنتجته الحرب، أصبحت حركة شراء الكتب أقل من سنوات ما قبل الحرب، كما يقول صاحب المبادرة.
جدل كبير
جدل كثير دار في الأوساط السورية ليس بين شريحة الذين يتعاطون الثقافة فحسب، بل حتى بين من يقرأ ولا يقرأ، بعد أن تخلت مكتبات كثيرة عن عملها الأساسي في مختلف المدن السورية.
ففي العاصمة السورية دمشق، لم يكن سوقا الحلبوني والمسكية، ولا حتى الأرصفة المفروشة، مصدراً لاقتناء الكتب، بل كانت هناك مكتبات لها دور مميز في الحركة الثقافية، مثل مكتبة أطلس ودمشق والنوري ودار ومكتبة اليقظة التي كانت من أهم دور النشر في المنطقة العربية، ونوبل والشام وغيرها الكثير، ولكن مع التبدلات الكثيرة تحولت مكتبة ميسلون إلى مقهى، ومكتبة اليقظة إلى محل لبيع الأدوات الكهربائية، ومكتبة أطلس متجراً للملابس، ومكتبة العائلة إلى صيدلية وهكذا.
مكتبات أخرى خاصة في ريف العاصمة دمشق، وسّعَت أعمالها لتشمل تعبئة العطور، وبيع هدايا المناسبات إلى جانب تقديم خدمات تصوير الأوراق والمستندات التي تؤمّن لصاحبها دخلاً معقولاً مقارنةً ببيع الكتب.
 المبادرات الفردية للتشجيع على القراءة تعكس واقع سوريا اليوم خاصة ما بعد الحرب، وتقديم الشاي لقاء القراءة ليس بظاهرة، في وقت توسّع المكتبات أعمالها لتشمل  تعبئة العطور، وبيع هدايا المناسبات
ولا يقتصر الأمر على مكتبات العاصمة، فمدينة حلب أيضاً أغلقت مكتباتها؛ مكتبة الفجر كانت الأكثر استحواذاً على اهتمام محبي القراءة والمطالعة لرخص الكتب الروسية فيها حينذاك وتنوعها، ولكنها اليوم تحولت إلى مطعم حلويات، وكذلك مكتبة إستانبولي التي أصبحت محلاً لبيع الحقائب وهي التي كانت تزخر بأحدث الإصدارات الثقافية، فيما أغلقت مكتبة عفش المتخصصة في كتب التراث وقصص الأطفال، وكذلك مكتبة الأصمعي وعجان الحديد الشهيرتان.
وفي دير الزور، أغلقت مكتبات النهضة والسليمية والشوحان ودار الفكر أبوابها، وتحولت إلى محال تجارية في ظل غياب القراء وعدم الإقبال على الشراء، وكذا الأمر في بقية المدن السورية. كذلك، لاقت مكتبات مدينة اللاذقية المصير نفسه، وأشهرها مكتبة الخيّام بالإضافة إلى مكتبة ونادي "الرسم المجاني" لأطفال اللاذقية، والذي أسسه فنان الكاريكاتور عصام حسن.
الكتاب ليس أولويةً
يقول الكاتب والناقد السوري بسام جميدة: "لم تستطع الحرب وحدها أن تنهي شغف السوريين بالقراءة، ففي السنوات الأولى للأزمة كانت المطابع تدور وتطبع الكتب وبسطات الكتب على الأرصفة هي الأكثر بيعاً نظراً إلى رخص الكثير من الكتب، فيما كانت المكتبات نوعاً ما تواجه خطر الإغلاق لأسباب كثيرة لا تتعلق كلها بشغف القراءة، ولكن ما حصل في السنوات الخمس الأخيرة، أن تحولاً كبيراً طرأ على اهتمامات الناس بسبب الضائقة الاقتصادية، وأن تخيّر أحدهم بين شراء كتاب أو ربطة خبز لبيته، فبالتأكيد سيختار الأخيرة".
 في دمشق، لم يكن سوقا الحلبوني والمسكية، ولا حتى الأرصفة المفروشة، مصدراً لاقتناء الكتب، بل كانت هناك مكتبات لها دور مميز
يضيف جميدة : "لا يمكن عدّ هذا فاجعةً، فارتدادات الحرب كبيرة وتحفر عميقاً في المواطن السوري الذي لم تعد القراءة واحدةً من أولوياته أمام الأزمة الطاحنة والجوع، ففي ظل الظروف الاقتصادية الحالية أصبح شراء الكتاب إلى حد ما صعباً، خاصةً أن معظم رواد المقهى هم من ذوي الدخل المحدود وطلاب الجامعات، كما أن الكتاب لا يُعدّ من الأولويات مقارنةً مع حاجات الإنسان الأساسية من مأكل ومشرب وطبابة في ظل الظروف الاقتصادية القاسية".
برأيه، إن أسباب إغلاق المكتبات كثيرة، ومنها وأهمها الجدوى الاقتصادية لوجود مكتبة أمام أي مهنة أخرى قد يشغلها المكان، ولعل توافر الكتاب الإلكتروني وبالمجان على المنصات الرقمية سرق الكثير من القراء، ناهيك عن غلاء الكتب الورقية، حتى أن غالبية الأدباء لا يطبعون سوى مئة كتاب أو مئتين، وهذا بحد ذاته يدلل على واقع القراءة والكتاب، والكاتب والمكتبات".
ثقافة جديدة
إغلاق المكتبات أبوابها، ليس حالةً طارئةً، فالأمر بدأ تدريجياً، منذ عقدين على الأقل، بمواكبة شيوع الثقافة الجديدة التي استبدلت الكتاب، إذ يرى عامر تنبكجي، وهو صاحب مكتبة أديب تنبكجي، أن "توافر الكتب الإلكترونية على شبكة الإنترنت ساهم في عزوف القرّاء عن شراء الكتب من المكتبات، إذ ارتفعت التكلفة الخاصة بالورق والحبر فباتت أسعار الكتب غير منطقية من وجهة نظر القرّاء".
ويشير تنبكجي في تصريحه ، إلى ارتفاع الضرائب والإيجارات بشكل لا يتناسب مع المردود المحقَّق من عوائد المكتبة، كما أصبح تأمين الكتب من دول الجوار كلبنان والأردن والعراق ومصر صعباً، وفي المقابل يصل ثمن الكتاب إلى أكثر من 30 ألف ليرة مع الحسم، وهو ما يعادل أجر موظف لمدة أسبوع لهذه الشرائح، لذلك يفضل معظمهم شراء حاجات أكثر ضرورةً لحياتهم اليومية.
حسومات من دون فائدة
مقابل ركود حركة بيع الكتب في المكتبات الخاصة، فإن إصدارات اتحاد الكتاب ووزارة الثقافة تعاني من عدم الإقبال ذاته، فمنشورات الاتحاد تتكدس معظمها في المستودعات، وكذلك عدد كبير من منشورات الوزارة، ولمعالجة هذا الوضع فإن وزارة الثقافة تقيم معارض في مختلف المحافظات السورية، وتقدّم حسوماتٍ كبيرةً، ولا يتجاوز سعر الكتاب الواحد 500 إلى 1500 ليرة سورية.
وقدّرت مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر والتوزيع، الرسمية في سوريا، ارتفاع تكلفة الورق والطباعة خلال العامين الأخيرين بنحو 500%على الأقل، عدا عن زيادة أجور النقل واليد العاملة بنسبة تزيد عن 100%، وقبل الحرب كانت تدخل نحو ألف مطبوعة يومياً إلى سوريا، واليوم لا يتجاوز عدد المطبوعات العشرة.

سيريا ديلي نيوز- نور ملحم


التعليقات