الاقتصاد العالمي وحافة الهاوية
كورونا أو (Coved -19) ذلك الفايروس الذي دفع بالاقتصاد العالمي إلى غرفة الإنعاش، وأدخله في أزمة ستتجاوز بتأثيراتها الكارثية الأزمة المالية العالمية التي حدثت في العام 2008. بل تشير بعض التقارير الصادرة عن جهات مالية واقتصادية دولية[1] إلى أن الاقتصاد العالمي سيدخل في كساد يشبه الكساد الكبير الذي حدث في ثلاثينيات القرن الماضي، وذلك في ضوء أرقام البطالة وتراجع النشاط التجاري والصناعي نتيجة إغلاق أغلب أسواق دول العالم للحدّ من انتشار الوباء. إضافة إلى كون الأزمة الحالية هي أزمة مركبة صحية ومادية ومالية وضعت قيوداً طوعية أو قسرية على الحركة والإنتاج والتوزيع والنقل، الأمر الذي سيعقد طرق وأدوات الخروج منها.
لقد أطاح هذا الفايروس بالقطاعات الاقتصاديّة الرئيسة كافةً، مثل: قطاع النقل (الجوي والبري والبحري) والسفر والترفيه والضيافة والبتروكيماويات وحفر واستخراج النفط، وأغلق جميع المصانع والمنشآت. إضافة إلى تعثّر سلاسل العرض نتيجة إغلاق المصانع والمنشآت في أكبر الدول الصناعية. ولن يلبث هذا التأثير أن ينتقل لباقي القطاعات بسبب ضعف الطلب العالمي. كما أطاح بأسواق المال العالمية في ظل أزمة سيولة عالية تشهدها الاقتصاديات كافةً، إذ لم يسلم منها حتى المعادن الثمينة كالذهب والفضة والتي تعدّ الملاذ الآمن للمستثمرين في مثل تلك الحالات.
هذه الـتأثيرات الكارثية ستتسبب بتراجع معدل النمو الاقتصادي العالمي وفق التقديرات الصادرة عن المؤسسات المالية الدولية لأقل من 2% للعام الحالي، مع انخفاض القيمة المضافة في الاقتصاد العالمي بنحو تريليون دولار أميركي. كما سيفقد نحو 50 مليوناً لوظائفهم حول العالم. وتشير التقديرات أيضاً إلى أن الاقتصاد الأوروبي سيكون من أكبر المتضررين، فقد توقع بنك الاستثمار السويسري أن ينكمش بنسبة تصل إلى 4.5% وسيكون اقتصادا ألمانيا وإيطاليا على رأس تلك الاقتصاديات المتضررة. في حين يتوقع تقرير "كابيتال إيكونوميكس" أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو بنسبة 15% في الربع الثاني من هذا العام. وربما من المهمّ التذكير بأن الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي البالغ 14000 مليار دولار أي ما يقارب ثلثي الناتج المحلي الإجمالي لأكبر اقتصاد في العالم، الاقتصاد الأميركي، ما يعني أن عمق الركود في أوروبا كفيل بجرّ الاقتصاد العالمي كله معه.
كما يعتقد صندوق النقد الدولي وبنك "يو.بي.إس" أنه رغم التحفيز الشديد للاقتصاد من خلال الإجراءات النقدية والمالية، فإنه لا يمكن تجنب التأثيرات الجانبية السلبية للأزمة، حيث سترتفع البطالة وحالات الإفلاس خلال الأسابيع المقبلة، ما يضغط على استهلاك الأسر والاستثمار الثابت حتى بعد انتهاء الإغلاق وإن تم.
وفي السياق ذاته، أوضح صندوق النقد أن التأثير الاقتصادي سيكون حاداً، لكن كلما توقف الفايروس بشكل أسرع، كان التعافي أسرع وأقوى، وأن الاقتصادات المتقدمة عموماً في وضع أفضل للاستجابة للأزمة، لكن العديد من الأسواق الناشئة والبلدان منخفضة الدخل ستواجه تحديات كبيرة، كونها تتأثر بشدة بتدفقات رأس المال الخارجة. حيث قام المستثمرون بالفعل بسحب أكثر من 85 مليار دولار من الأسواق الناشئة منذ بداية الأزمة، وهو أكبر تدفق نقدي تم تسجيله على الإطلاق. كما أن 80 دولة طلبت مساعدة طارئة من صندوق النقد لمواجهة الفايروس. وقدرت اللجنة الدولية لغرب آسيا (الإسكوا)[2] أن الدول العربية ستخسر نحو 42 مليار دولار وسيفقد نحو 1.7 مليوناً لوظائفهم في الدول العربية.
وفي الحقيقة يشكك الخبراء الاقتصاديون كافّةً والمؤسسات المالية الدولية في جدوى التحفيز المالي الذي أعلن عنه الكثيرُ من الدول (والذي قارب 5000 مليار دولار أمريكي) وذلك على اعتبار أن هذه الأزمة قطعت أوصال الدول، وأغلقت الأسواق والمصانع، ونشرت الذعر والخوف في العالم كونها أزمة صحية أكثر منها مالية، وأصبحت السلامة الشخصية للمواطنين على رأس أولويات الحكومات، ما يثير الشكوك حول جدوى خطط وبرامج التحفيز المالي، الأمر الذي سيضع الاقتصاد العالمي (في حال طالت الأزمة) على حافة الهاوية إن لم تدفعه للسقوط.
ثانياً- الاقتصاد السوري – التداعيات المحتملة
جاءت الأزمة الحالية الناجمة عن أزمة فايروس كورونا لتزيد الطين بِلَّةً بالنسبة للاقتصاد السوري، والذي يعاني أساساً من ضغوط اقتصادية كبيرة نتيجة للحرب التي دخلت عامها العاشر، إضافة للإجراءات القسرية أحادية الجانب التي فرضتها الدول الغربية على البلاد وآخرها قانون سيزر الأمريكي. الأمر الذي أوصل مؤشرات الاقتصاد الكلي إلى مستويات غير مسبوقة من التدهور. وبالتالي فمن المتوقع أن تزيد هذه الأزمة من الضغوط الاقتصادية وسيكون لها منعكسات خطيرة على المستوى المعيشي، وخاصة إن حدث تفشٍّ كبيرٌ للفايروس في البلاد أسوة بما يحدث في الكثير من بلاد العالم. إذ من غير المتوقع أن يكون القطاع الصحي قادراً على التعامل مع مثل هكذا أزمة، وستكون تداعياته ونتائجه الاقتصادية سلبية جداً على الوضع الحالي.
وإدراكاً من الحكومة السورية لهذه التداعيات الكبيرة لتفشي الفايروس، فقد قامت بالعديد من الإجراءات الاستباقية (والتي يعتقد الكثير من السوريين أنها مُبالغ بها مقارنة بعدد الإصابات المسجلة والمعلن عنها حتى الآن في البلاد) بدءاً بإغلاق الجامعات والمدارس، وتخفيض عدد العاملين في القطاع العام إلى الحدود الدنيا، ووصلت إلى فرض حظر جزئي على حركة المواطنين، ومن غير المستبعد أن يصل إلى الحظر الكلي للتجوال مدّة زمنية محددة في حال استدعت الضرورة ذلك.
كل هذه الإجراءات التي قامت بها الحكومة السورية ستلقي بأعباء وتكاليف اقتصادية واجتماعية ليست بالقليلة على المجتمع السوري. ولكن مقاربة الحكومة لهذا الموضوع تنطلق من أن هذه الأزمة هي أزمة أكبر من اقتصادية؛ بل هي أزمة وجودية تمس حياة الناس، وأن التكاليف التي سَتُدفع الآن هي أقل بكثير من التكاليف والخسائر التي سيُمنى بها الاقتصاد الوطني فيما لو حدث تفشٍّ واسع للفايروس. ولنا في دول أخرى كإيطاليا وإيران وإسبانيا وحتى الولايات المتحدة الأمريكية دروس وعبر مما يحدث فيها.
التداعيات المحتملة للأزمة على الاقتصاد السوري
من المتوقع أن يكون للأزمة الحالية المرتبطة بانتشار فايروس كورونا التداعيات الآتية على الاقتصاد السوري:
- زيادة العجز المالي في الموازنة العامة للدولة وذلك نتيجة لمجموعة من الأسباب وهي:
- تراجع الإيرادات الحكومية بسبب تراجع كلّ من الفائض المتحصل من مؤسسات القطاع العام الاقتصادي نتيجة لإغلاق الأسواق الخارجية والداخلية، وتراجع الرسوم الجمركية والإيرادات الضريبية، إذ ستكون الحكومة مضطرة لتخفيض حجم الرسوم والضرائب المفروضة على قطاع الأعمال نتيجة الإغلاق والظروف الاقتصادية الحادة التي يمر بها الاقتصاد الوطني والعالمي.
- زيادة الإنفاق العام الحكومي وخاصة على قطاعي الصحة والخدمات الحكومية، الأمر الذي سيؤثر سلباً في باقي القطاعات الإنتاجية الأخرى، وخاصة في ظل محدودية الموارد المتاحة لمواجهة الأزمة، وصعوبة المناقلة بين بنود الموازنة كون معظم الإنفاق الحكومي هو إنفاقٌ جارٍ (رواتب وأجور).
- زيادة حجم الدَّين العام نتيجة اضطرار وزارة المالية لتمويل العجز المتزايد من خارج الموازنة (تمويل بالعجز) وغالباً سيأتي من المصرف المركزي أو من القطاع المصرفي من خلال إصدار سندات خزينة.
- زيادة الضغوط التضخمية بشكل كبير ومتسارع، نتيجة لتراجع سعر صرف الليرة السورية بسبب تمويل المصرف المركزي لقائمة طويلة من المستوردات الطارئة واللازمة للتصدي للأزمة الحالية. إضافة إلى ضخ كتلة نقدية كبيرة في الأسواق (التمويل بالعجز). وأخيراً زيادة الطلب على القطع الأجنبي نتيجة لتفضيل قسم كبير من المستثمرين للملاذات الآمنة في مثل هكذا حالات وخاصة الدولار الأمريكي والذهب.
- حدوث نوع من الخوف في الأسواق (Panic) ينعكس على حركة سحوبات نقدية كبيرة من القطاع المصرفي بسبب تفضيل المستثمرين للكاش على الأصول المالية الأخرى كافةً.
- تراجع الأسواق المالية المحلية نتيجة قيام أصحاب المحافظ المالية الكبيرة بعمليات بيع واسعة للأسهم، وجر باقي المستثمرين إلى السلوك نفسه وهو ما يعرف بسلوك القطيع. الأمر الذي قد يؤدي إلى هروب قسم كبير من هذه الرساميل وتوجهها نحو القطع الأجنبي والذهب.
- تراجع حجم الصادرات المحلية بشكل دراماتيكي نتيجة لإغلاق الأسواق الخارجية، والتي هي بالأساس محدودة نتيجة للعقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد. وسيترافق ذلك بزيادة كبيرة في حجم المستوردات لتلبية الطلب الكبير لبعض السلع المتعلقة بطبيعة الأزمة (أدوية ومستلزمات طبية ومحروقات) أو نتيجة لقيام شريحة واسعة من المواطنين بتخزين كميات كبيرة من السلع، الأمر الذي ستكون له تأثيرات سلبيّة في الميزان التجاري السوري والذي يعاني بالأساس من عجز هيكلي كبير.
- تراجع حجم الحوالات المالية الواردة من الخارج (وإن كان بشكل مؤقت) وذلك لأسباب خارجية (أي من مَصدر الحوالة) نتيجة لإغلاق كثير من الدول لقطاعاتها المالية. الأمر الذي سيفرض المزيد من الضغوط المعيشيّة على شريحة واسعة من المواطنين والتي تعتمد في معيشتها على الحوالات الواردة من أقارب لها في الخارج. كما سيحرم البلد من مصدر هام من مصادر القطع الأجنبي.
- زيادة عمليات التهريب إلى دول الجوار نتيجة النقص الكبير في بعض السلع المرتبطة بطبيعة الأزمة (كمامات وكحول طبي وأدوية......إلخ) وخاصة إلى لبنان، وهو ما يحدث حالياً وبشكل فاضح. الأمر الذي سيزيد من ارتفاع الأسعار بشكل كبير.
- زيادة معدلات البطالة في البلاد والتي حالياً تتجاوز الـ 50%، وخاصة إذا طالت عملية الإغلاق الجزئي أو الكلي للأسواق، ودخول الاقتصاد في حالة من الركود الشديد. الأمر الذي سيضطر أصحاب المنشآت إلى التخلي عن قسم كبير من العمالة لديهم.
- النقص الخطير في بعض السلع المستوردة نتيجة لإغلاق الأسواق وعمليات الشحن الضرورية لاستمرار العملية الإنتاجية وعلى رأسها المشتقات النفطية والحبوب والأدوية.
ثالثاً- إدارة الأزمة – إجراءات وحلول
- من الضروري إقرار الحكومة لحزمة من الإجراءات التحفيزية للاقتصاد، إذ لا بد من توجيه الدعم لبعض القطاعات المتضررة بشدة جراء الأزمة كشركات الطيران وشركات الشحن البحري والبري ونقل الركاب. إضافة إلى دراسة خفض الضرائب على الرواتب لتعزيز القدرة الشرائية للمواطنين، والتي وصلت إلى معدلات خطيرة من التدهور بحيث أصبحت تهدد أمنهم الغذائي.
- العمل على إعادة النظر بسياسة الإنفاق الحكومي، وتوجيهها نحو القطاعات الأكثر إلحاحاً والعمل على تأمين الأدوية والمستلزمات الطبية اللازمة لمجابهة الأزمة. إضافة إلى تأجيل سداد الضرائب المستحقة على المكلفين.
- دعم الصناعة الوطنية من خلال تخفيض أسعار حوامل الطاقة (فيول - كهرباء - غاز) على الصناعيين وصغار المنتجين (وخاصة بعد تراجع أسعار النفط عالمياً) لتحسين تنافسية السلع المصنّعة محلياً وتخفيض أسعارها بهدف فتح أسواق جديدة داخلياً وخارجياً.
- اتخاذ السلطة النقدية لمجموعة من الإجراءات لدعم القطاع المصرفي من خلال تأجيل سداد القروض المستحقة على المقترضين (الأمر الذي حدث فعلاً) وتأمين السيولة اللازمة لمقابلة السحوبات الطارئة بهدف طمأنة الأسواق. إضافة إلى وضع خطط لتأمين السيولة عن طريق الصرافات الآلية في حال تطورت الأمور أبعد من ذلك.
- الإسراع في استكمال البنية التحتية اللازمة لإطلاق مشروع الدفع الإلكتروني للتخفيف من استخدام الأوراق النقدية (البنكنوت) نظراً لمخاطرها الصحية، ولتطوير وتعزيز التسوق الإلكتروني.
- العمل على ضبط عمليات الاستيراد وخاصة للسلع الكمالية، الأمر الذي يستنزف خزينة مصرف سورية المركزي ويؤثر سلباً في سعر صرف الليرة السورية، واختصار القائمة بالسلع الضرورية لمجابهة الأزمة، وتسهيل عمليات استيراد السلع الضرورية من خلال رفع العقبات والتعقيدات البيروقراطية بشكل مؤقت، والعمل على دعم المخزون الاستراتيجي من الأدوية والمواد الغذائية والمحروقات.
- ضرب المهربين وتجار الأزمات بيد من حديد وخاصة عبر المعابر غير الشرعية على الحدود اللبنانية والعراقية التي أصبحت تشكّل معابر لاستنزاف الاقتصاد الوطني.
- اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة كافةً لتعزيز قدرة الطبقة الهشة في المجتمع السوري على تأمين المستلزمات المعيشية الضرورية من خلال تقديم مساعدات نقدية أو مادية لهم.
- لا بد أن يسهم كلّ من القطاع الخاص والقطاع الأهلي والمغتربين السوريين في الجهود المبذولة لتوفير جزء من المستلزمات الطبية أو لإنشاء مراكز خدمات ورعاية صحية، من خلال جمع التبرعات والهبات كجزء من المسؤولية الاجتماعية حيال المجتمع والدولة.
- تركيز الجهود الرسمية وغير الرسمية على المطالبة بفكّ أو رفع الحصار والإجراءات القسرية المفروضة على البلاد، وخاصة القطاع الطبي والصحي والقطاعات ذات الصلة بالتهديد "الفايروسي" الراهن[3].
- مخاطبة المؤسسات المالية العربية والدولية (كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وصندوق النقد العربي... إلخ) لتقديم مساعدات عاجلة للبلاد من بوابة الاحتياجات الطبية والإنسانية.
- الطلب من الحلفاء والشركاء الدوليين مثل الصين وروسيا وإيران، وأي مساهمين محتملين، لدعم جهود سورية في مواجهة خطر الفايروس.[4]
[1] تقرير صندوق الاستثمار السويسري، والتقارير الصادرة عن صندوق النقد الدولي.
[2] لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، فيروس كورونا التكلفة الاقتصادية على المنطقة العربية، 2020، https://www.unescwa.org/sites/www.unescwa.org/files/ar-escwa-covid-19-economic-cost-arab-region.pdf
[3] "السياسات الحياتية/الحيوية: سورية وحدث كورونا، من التهديد إلى الفرصة"، ورقة سياسات، مركز دمشق للأبحاث والدراسات، 22 آذار/مارس 2020، https://bit.ly/2WWfBFY
[4] المرجع السابق.
مركز دمشق للأبحاث والدراسات
مِداد
سيريا ديلي نيوز
2020-04-01 04:57:25