ساعدتُ طيلة السنوات الأربع الماضية، في قيادة الاستجابة العالميّة لمناهضة صعود "داعش"، وهو جهدٌ نجحَ في تدمير "خلافة الدولة الإسلامية" في قلب الشَّرق الأوسط، وقد كانت هذه الخلافة بمثابة نقطة جذب للجهاديين الأجانب وقاعدة لشنِّ هجمات إرهابية في جميع أنحاء العالم. هذا، وبعملي كمبعوث خاص للرئيسين الأمريكيين باراك أوباما ودونالد ترامب، ساعدتُ أيضاً في تأسيس تحالف كان الأكبر من نوعه في التاريخ: يتألف من 75 دولة وأربع منظمات دولية، كان تعاونها قائماً بقيادة أمريكيّة وبتنسيقٍ بين الإدارات الأمريكية.

تم في الواقع، تطوير استراتيجية تدمير "خلافة داعش" في عهد أوباما، ونُفذت مع تعديلات طفيفة في ظل إدارة ترامب. رَكزت هذه الاستراتيجية على تمكين المقاتلين المحليين من استعادة مدنهم من "داعش"، ومن ثم تهيئة الظروف المناسبة لعودة النازحين.

منذ انطلاقها، افترضت هذه الاستراتيجية، أنَّ الولايات المتحدة ستبقى نشطة في المنطقة لمدّة بعد تدمير "الخلافة"، بما في ذلك على الأرض في شمال شرق سورية، حيث يضم التحالف اليوم نحو 2000 من القوات الخاصة الأمريكية و60 ألف مقاتل سوري معروفين باسم "قوات سوريا الديمقراطية". ولكن في أواخر كانون الأول/ديسمبر 2018، عطّل ترامب هذه الاستراتيجية.

بعد مكالمة هاتفية مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، أصدر ترامب أمراً مفاجئاً يقضي بسحب جميع القوات الأمريكية من سورية، على ما يبدو دون النظر في العواقب.

قام ترامب منذ ذلك الحين بتعديل هذه الخطة –وخفض عدد الجنود إلى 200 جندي أمريكي في شمال شرق سورية ومثله في التنف، وهي قاعدة معزولة في جنوب شرق البلاد. (تأمل الإدارة أيضاً، من دون جدوى، أن تحل قوات خاصة من قوات أعضاء التحالف الآخرين محل القوات الأمريكية المنسحبة)، ولكن يبدو أن هذه الخطة الجديدة أكثر خطورة: أن تتولى مجموعة صغيرة المهمة نفسها التي كانت تتولاها القوات الأمريكية المنتشرة في شمال شرق سورية التي تعادل عشرة أضعاف هذه المجموعة.

ما يزال الغموض يكتنف الانسحاب الأمريكيّ. ولكن مهما يكن عدد جنود الولايات المتحدة الباقي على الأرض، فمن غير المحتمل أن يعود ترامب عن قرار تخفيض العدد بشكل كبير.

تبقى المهمة الآن، تحديد ماذا سيأتي لاحقاً –ما الذي تستطيع الولايات المتحدة فعله لحماية مصالحها في سورية في حال خفضت حجم وجودها العسكري على مدى الشهور القادمة. إن أسوأ شيء يمكن أن تفعله واشنطن هو التظاهر بأن انسحابها –سواء أكان كاملاً أم جزئياً– لا يهم حقاً، أو أنه مجرد خطوة تكتيكية لا تتطلب أي تغيير في الأهداف العامة.

قدّمت الاستراتيجية التي فككها ترامب الفرصة الحقيقية الوحيدة للولايات المتحدة، لتحقيق العديد من الأهداف المتشابكة في سورية: منع عودة "داعش"، ومراقبة طموحات إيران وتركيا، والتفاوض على تسوية مناسبة مع روسيا بعد الحرب. مع مغادرة القوات الأمريكية لسورية، فإن معظم هذه الأهداف لن يكون ممكناً. ينبغي على واشنطن الآن الحدّ من تطلعاتها، والتركيز على حماية مصلحتين فقط في سورية: منع عودة "داعش"، ومنع إيران من ترسيخ وجود عسكري محصن لها هناك يمكن أن يهدد "إسرائيل". هذا، وبدون نفوذها على الأرض، سيتطلب الوصول إلى هذه النتائج تنازلات مؤلمة. لكن البديل، الذي تدّعي فيه الولايات المتحدة أن شيئاً لم يتغير، سيفشل في تحقيق هذه الأهداف المتواضعة، ويزيد من تقويض صدقيتها في العملية، والأسوأ من ذلك على المدى الطويل، ينبغي عليها تقبُّل الواقع المرير بعد مرور السنوات الأربع الماضية وتقبُّل فكرة تخليها عن الخيارات الأخرى.

 

 

هزيمة الخلافة

في أيلول/سبتمبر 2014، كان "داعش" متقدماً في مسيره، إذ سيطر التنظيم على نحو 40 ألف ميلٍ مربعٍ من الأراضي في العراق وسورية، وهي مساحة تقارب مساحة ولاية إنديانا التي يقطنها نحو ثمانية ملايين شخص. وبعوائدَ تخطت ما يزيد عن مليار دولار سنوياً، استخدم هذا التنظيم ما وصفها بـ "الخلافة" كقاعدة للتخطيط وتنفيذ الهجمات الإرهابية في أوروبا، وحثَّ المتعاطفين معه على فعل الشيء نفسه في الولايات المتحدة. قام "داعش" بقتل واغتصاب واستعباد من يُعدهم زنادقة أو كفّاراً: المسيحيين والأكراد والشيعة والأزيديين، وكذلك السنّة الذين اختلفوا مع إيديولوجيته في منطقة سيطرته. ورغم هذه الوحشية –أو بسببها جزئياً– جذب التنظيم أعداداً كبيرةً إليه.  بين عامي 2013 و2017، سافر أكثر من 40 ألف شخص من أكثر من 100 دولة إلى سورية للانضمام إليه ولغيره من الجماعات المتطرفة التي تقاتل في الحرب "الأهلية" السورية.

في صيف عام 2014، كنتُ على الأرض في العراق، عندما سيطر "داعش" على مدينة الموصل، وبعدها اتجهتُ إلى بغداد. حتى عندما بدأت السفارة الأمريكية في إجلاء الموظفين استعداداً للأسوأ، كان الدبلوماسيون الأمريكيون يستعدون لمساعدة العراقيين على القتال. وفي الأشهر التالية، استطعنا تشكيل تحالفٍ واسعٍ من الحكومات لمواجهة "داعش". واعتمدت خطة التحالف على الجمع بين العمليات العسكرية ضد التنظيم ومبادرات إنسانية مبتكرة لتحقيق الاستقرار، من شأنها ضمان التمكين للنازحين بسبب " داعش" من أجل الحصول على مأوى والعودة إلى ديارهم بعد انتهاء القتال.

أوضح الدبلوماسيون الأمريكيون منذ البداية، أنَّ هذه الحملة مفتوحة لأجل غير مسمى، ولن تكون لبناء دول أو إعادة تشكيل الشرق الأوسط. كان الهدف هو تدمير "داعش" ومساعدة السكان المحليين على تنظيم شؤونهم الخاصة بعد هزيمته. لهذا، كانت الحملة ناجحة.

يُلاحظ على مر السنوات الأربع التالية، أنَّ التنظيم فَقَدَ تقريباً جميع الأراضي التي سيطر عليها ذات مرة. قُتل معظم قادته. في العراق، عاد أربعةُ ملايين مدني إلى المناطق التي استُردت من "داعش"، وهي نسبة عودة لا مثيل لها بعد أي صراع عنيف آخر حدث مؤخراً. في العام الماضي، أجرى العراق انتخابات وطنية وشكّلَ حكومة جديدة بقيادة قادة أكفياء موالين للغرب ركزوا بشكل متزايد على توحيد البلاد.

في سورية، استطاعت "قوات سوريا الديمقراطية" الاستيلاء على ملاذات "داعش" الإقليمية في شمال شرق البلاد، وساعدت برامج الاستقرار التي تقودها الولايات المتحدة السوريين على العودة إلى ديارهم. في الرقة، العاصمة السابقة لـ "الخلافة"، وبحلول نهاية عام 2018، عاد 150 ألف مدني من أصل السكان النازحين الذين يزيد عددهم عن 200 ألف.

باختصار، الحملة الأمريكية ضد "داعش" ليست –ولم تكن أبداً– "حرباً مفتوحةً" من النوع الذي انتقده ترامب في الخطاب الذي ألقاه في شباط/فبراير 2019. تم تصميم هذه الحملة منذ البداية بطريقة تبقي الولايات المتحدة خارج هذا النوع من التشابكات باهظة الثمن التي يدينها ترامب فعلياً. يقوم العراقيون والسوريون، وليس الأمريكيون، بمعظم الأعمال القتالية. ويسدد التحالف، وليس واشنطن فقط، الفاتورة. وعلى عكس غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003، تتمتع هذه الحملة بدعمٍ واسع النطاق محلياً ودولياً. وباقتراب نهاية عام 2018، كانت الحملة تقترب من نقطة انعطاف. كانت "الخلافة" على وشك الهزيمة، فانتقل التحالف إلى قتال التمرد السري لتنظيم "داعش".

رغم أن صانعي السياسة في الولايات المتحدة قد خططوا لهذا الانتقال، إلا أن النقاش حول المدة التي ينبغي على الولايات المتحدة إبقاء قواتها في سورية، كان يدور داخل الحكومة، فضلاً عن أهدافها النهائية.

ركز بعض المسؤولين الأمريكيين بعامّة، وفي البنتاغون بخاصّة، على إكمال المهمة الأصلية: هزيمة "داعش" بشكل نهائي. في سورية، كان هذا يعني تدمير "الخلافة" ثم البقاء مدّة محددة لمساعدة "قوات سوريا الديمقراطية" في تأمين أراضيها ومنع "داعش" من العودة.

يعتقد آخرون، تحديداً جون بولتون، مستشار الأمن القومي في إدارة ترامب، أن القوات الأمريكية يجب أن تبقى في سورية حتى تغادر جميع القوات الإيرانية وتُحل مشكلة الحرب في البلاد. وبالتالي، يتطلب هذا توسُّعاً كبيراً في المهمة، ويقتضي التزاماً مفتوحاً من قبل القوات الأمريكية، وهو أمر عارضه ترامب.

لم يناقش أي شخص في الحكومة الأمريكية جديّاً الانسحاب على المدى القريب، ناهيك عن فكرة أنَّ واشنطن تستطيع ببساطة إعلان النصر على "داعش" ثم مغادرة سورية. في 11 كانون الأول/ديسمبر 2018، وقفتُ على منصة وزارة الخارجية وشرحتُ سياسة الولايات المتحدة الرسمية آنذاك بشأن سورية: «سيكون من التهور ببساطة القول: حسناً، لقد هُزمت الخلافة، لذلك يمكننا فقط المغادرة الآن». وهو ما فعله ترامب تماماً بعد ثماني أيام، معلناً عبر تويتر «لقد انتصرنا على داعش وأنَّ أولادنا، وشاباتنا، ورجالنا – عائدون، وعائدون الآن».

ترك هذا الإعلان الحملة في حالة من الفوضى وحلفاء واشنطن في حالة من عدم التصديق. سارع المسؤولون الأمريكيون، بمن فيهم أنا، لشرح التغيير المفاجئ بالطبع لشركائنا. بعد أربع سنوات من المساعدة في قيادة التحالف، وجدتُ أنه من المستحيل تطبيق تعليماتي الجديدة بشكل فعال، فاستقلتُ في 22 كانون الأول/ديسمبر.

 

 

بداية النهاية

في الوقت الذي أعلن فيه ترامب سحب قواته، كانت "خلافة داعش" قد انحسرت في آخر مدنها القليلة، وكانت تشهد سورية أدنى مستوياتٍ من العنف منذ بداية الحرب "الأهلية" في عام 2011. كانت البلاد تسير نحو ما أسماه المسؤولون الأمريكيون نحو "النهاية المؤقتة للدولة [الوضع الحالي]"، إذ تنقسم مؤقتاً إلى ثلاث مناطق تخضع لنفوذ القوى العظمى.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

*نتحفظ على الخريطة بشكلها الوارد من المصدر، فالجولان المحتل ولواء اسكندرون أراضٍ سورية.

أول وأكبر منطقة تقع تحت سيطرة الدولة السورية. تضم هذه المنطقة نحو ثلثي أراضي البلاد، وربما 70% من سكانها، ومعظم مدنها الرئيسة، مثل دمشق وحلب، مدعومةً عسكرياً ومالياً بشكلٍ كبير من قبل قوة عظمى واحدة، روسيا، وقوة إقليمية واحدة، إيران.

المنطقة الثانية هي جيب لـ "المعارضة" في شمال غرب سورية. تسيطر "هيئة تحرير الشام" التابعة لتنظيم "القاعدة" على معظم هذه المنطقة، بينما تسيطر مجموعات "المعارضة" المدعومة من تركيا على البقية. يحمي الجيش التركي خط وقف إطلاق النار، الذي تفاوضت عليه أنقرة مع إيران وروسيا، وهو يفصل الطرف الغربي للمنطقة التركية عن المناطق التي يسيطر عليها "النظام" السوري.

المنطقة الثالثة تقع تحت سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" التي تدعمها واشنطن وحلفاؤها. تشكل هذه المنطقة التي كانت ذات يوم قلب "خلافة داعش"، نحو ثلث الأراضي السورية، مع احتياطيات كبيرة من الطاقة، وثروة زراعية كبيرة، ويبلغ عدد سكانها نحو أربعة ملايين نسمة. تمتلك كل من فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة قوات خاصة على الأرض في هذه المنطقة، ويساعد التحالف في حماية مجالها الجويّ، ويسهم في تأمين برامج تثبيت الاستقرار. تسيطر الولايات المتحدة وحلفاؤها من "المعارضة" السورية على التنف التي كانت في السابق حامية لـ "داعش".

هذا، ومع تراجع العنف في سورية على مدار عام 2018، ثَبَتت الحدود بين هذه المناطق، فأصبحت طاولة دبلوماسية القوى العظمى جاهزة للجلوس من أجل التفاوض. مع وجود قوى على الأرض ونفوذ على ثلث البلاد، كانت الولايات المتحدة في وضع يسمح لها بلعب دور مهمٍ في رسم سورية ما بعد الحرب.

 

 

دبلوماسية القوى العظمى

كانت الأولوية الرئيسة للدبلوماسيين الأمريكيين هي التوصل إلى تسوية مع القوة العظمى الأخرى الوحيدة في سورية، روسيا، حول الترتيب النهائي على الأرض في منطقة النفوذ الأمريكية. كانت واشنطن تجري محادثات ثنائية مع موسكو حول سورية منذ بداية التدخل العسكري الروسي، في عام 2015.

في البداية، كان الهدف من هذه المحادثات هو منع الاشتباكات العرضية بين القوات الأمريكية والروسية. لكن بمرور الوقت، أصبحت هذه المحادثات منصة واشنطن لرسم حدود واضحة تحدد المناطق التي ستكون خارج نطاق سيطرة القوات الروسية والسورية والميليشيات التي تدعمها إيران.

لقد نجح ذلك لأنه كان لدى الولايات المتحدة الرغبة والقدرة على فرض هذه الحدود: في أيار/مايو 2017، قصفت الطائرات الأمريكية الميليشيات المدعومة من إيران أثناء اقترابها من موقع أمريكي بالقرب من التنف؛ وفي الشهر التالي، أسقطت الطائرات الأمريكية طائرة مقاتلة سورية أثناء عبورها إلى المنطقة الشمالية الشرقية بالقرب من موقع أمريكي. وفي شباط/فبراير 2018، دمّرت القوات الأمريكية مجموعة من المرتزقة الروس الذين كانوا يحاولون الاستيلاء على حقل نفطي تحتله "قوات سوريا الديمقراطية" والقوات الأمريكية.

هذا، وبحلول خريف عام 2018، كانت الولايات المتحدة تستعد لمفاوضات مكثفة مع روسيا على مسارين متتاليين. على المسار الأول، كانت تحاول واشنطن تشجيع الروس على إجبار "النظام" السوري على التعاون في محادثات السلام التي تدعمها الأمم المتحدة والمعروفة باسم "عملية جنيف".

بدأت هذه العملية منذ عام 2012، وكنتُ متشكّكاً في أنها ستؤدي إلى نتائج. لكن للمرة الأولى منذ سنوات، تضافرت عدة تطورات مواتية –الحدّ من العنف في جميع أنحاء سورية، ووجود الولايات المتحدة على الأرض، وتعزيز القناة الدبلوماسية الأمريكية الروسية– لإعطاء العملية فرصة على الأقل لتحقيق بعض النجاح.

وفي حال لم تسفر عملية جنيف عن تقدم، أعدّ الدبلوماسيون الأمريكيون مساراً ثانياً للتفاوض مباشرة مع الروس للتوسط في صفقة بين "قوات سوريا الديمقراطية" و"النظام" السوريّ، كان من شأنها أن توفر عودة خدمات الدولة السورية بشكلٍ جزئي، مثل المدارس والمستشفيات، إلى المناطق الخاضعة لسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" –الأمر الذي لا يوجد مفر منه، ما لم تكن الولايات المتحدة وحلفاؤها راغبين بإنشاء دولة صغيرة في شمال شرق سورية– مع منح الحقوق السياسية لسكان المنطقة. أشار المسؤولون الأمريكيون إلى هذه النتيجة على أنها «عودة الدولة، وليس عودة "النظام"». وأي اتفاق من شأنه أن يسمح للولايات المتحدة بالوصول إلى المجال الجوي والمنشآت العسكرية الصغيرة في هذا المجال من أجل الحفاظ على الضغط على "داعش" ومنع عودته. مثل هذا الترتيب، كان سيلبي تطلعات السوريين الذين قاتلوا إلى جانب التحالف ويضمن سلامتهم بشكلٍ دائم، وسيعيد خدمات الدولة الأساسية إلى الشمال الشرقي، ويساعد السكان المحليين، ويقلل من خطر حدوث تمرد ضد "قوات سوريا الديمقراطية" والقوات الأمريكية.

علاوة على ذلك، بدأت روسيا تقبل أن الوجود الأمريكي في شمال شرق سورية سيبقى حتى هزيمة "داعش" النهائية –وهي عبارة ظهرت في بيان مشترك من ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أواخر عام 2017. أدركت موسكو أن الاستقرار ما بعد الحرب يتطلب تسويات بين دمشق و"قوات سوريا الديمقراطية". هذا، وبحلول نهاية عام 2018، بدأت معالم الخطوط العريضة غير المكتملة ولكن المقبولة لهذه التسويات في التبلور.

 

 

حصر إيران

كانت الاستراتيجية الأمريكية تجاه طهران تنطوي على خصومةٍ أكثر، إذ إنَّ الوجود العسكري الإيراني في منطقة نفوذ "النظام" السوري مهم؛ إذا تم ترسيخه، فسيشكل تهديداً كبيراً لـ "إسرائيل" والأردن، وهما حليفان حيويان للولايات المتحدة. تُخفي طهران أيضاً طموحات توسعية في سورية: سعت قواتها بالوكالة إلى التسلل إلى المنطقة الأمريكية في الشمال الشرقي، وكذلك إلى المنطقة المحيطة بحامية التنف التي تقع على طريق رئيسِ بين دمشق والبصرة، في جنوب العراق. تم ردعها فقط بسبب وجود القوات الأمريكية والتهديد/أو، في حالة التنف، باستخدام القوة.

لم يكن إعلان بولتون أنَّ القوات الأمريكية ستبقى في سورية حتى يغادر جميع الإيرانيين واقعيّاً. حتى مع وجود أسباب كثيرة –لم يكن ترامب مستعداً للالتزام بها– لم تستطع الولايات المتحدة أن تأمل إمكانية طرد الإيرانيين بالكامل من سورية. تعود شراكة إيران العسكرية مع سورية إلى أوائل الثمانينيات. ترى طهران البلد كواحد من أهم حلفائها وهي مستعدة لدفع ثمن باهظ للحفاظ على موطِئ قدم لها هناك. تخدم قرقعة التهديد بالحرب إضعاف صدقيّة الولايات المتحدة وتشتيتها بعيداً عن أهداف أكثر واقعية: احتواء الوجود الإيراني في سورية، وردع تهديداتها لـ "إسرائيل"، واستخدام الدبلوماسية لدق إسفين بين طهران وموسكو.

في ربيع عام 2018، صرح بوتين علناً أنَّ روسيا تريد أن ترى كل القوات العسكرية الأجنبية (بمعنى القوات الإيرانية والتركية والقوات الأمريكية) تغادر سورية بعد نهاية الحرب "الأهلية". بدأ الدبلوماسيون الأمريكيون في استغلال هذا التصريح، مطالبين روسيا بإثبات قدرتها على إخراج الإيرانيين من المناطق الرئيسة في البلاد، مثل المنطقة المتاخمة لـ "إسرائيل" والأردن. كجزء من هذه المفاوضات، ادّعى الروس أنه يمكنهم إبقاء الوحدات المدعومة من إيران على بعد 50 ميلاً على الأقل من مرتفعات الجولان، ووافقوا على السماح لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بمراقبة المنطقة المنزوعة السلاح هناك. وقالت واشنطن إذا استطاع الروس تحقيق ذلك بما يرضي الإسرائيليين، فقد تكون على استعداد لمناقشة انسحاب جزئي من بعض المناطق التي تسيطر عليها.

قامت الولايات المتحدة بتنسيق نهجها مع "إسرائيل" التي بدأت في عام 2017 بشنِّ غارات جوية على الأصول العسكرية الإيرانية في سورية، إذ عدّتها تهديداً لأمنها. لم يكن لدى واشنطن تفويض قانوني لاستهداف القوات الإيرانية داخل سورية إلا في حالات الدفاع عن النفس، لكن تملك "إسرائيل" كل الحق في تقويض قدرة إيران على استخدام الأراضي السورية كقواعد لأنظمتها الصاروخية وغيرها من التكنولوجيا الهجومية. أعطى المزيج من القوة الإسرائيلية والدبلوماسية الأمريكية والوجود العسكري الأمريكي واشنطن ورقة مساومة قوية مع الروس. ينظر بوتين إلى علاقة روسيا بـ "إسرائيل" بصفتها علاقة أساسية لاستراتيجيته في الشرق الأوسط. لم تقم الولايات المتحدة أبداً بإزالة كل إيراني من سورية. لكن بالعمل مع الإسرائيليين والاستفادة من نفوذها في سورية، كان بإمكانها تأمين قدْر من التعاون الروسي لردع التوسع الإيراني.

 

 

أحلام العثمانيين

كان الوجود الأمريكي في سورية مهماً أيضاً؛ ذلك من أجل إدارة العلاقات مع تركيا التي شكلت منذ بداية الحملة ضد "داعش" شريكاً جدلياً في عامي 2014 و2015، إذ طلب أوباما مراراً من أردوغان إغلاق الحدود التركية مع سورية التي يعبر مقاتلو "داعش" والمواد من خلالها بحرية. لم يتخذ أردوغان أي إجراء. في أواخر عام 2014، عارضت تركيا جهود التحالف المناهض لتنظيم "داعش" لإنقاذ مدينة عين العرب "كوباني" ذات الأغلبية الكردية، في شمال سورية، من هجوم كبير لـ "داعش" هدّد بالانتهاء بمذبحة مدنية. بعد ستة أشهر، رفضت تركيا طلبات التحالف لإغلاق المعابر الحدودية في البلدات التي أصبحت مراكز لوجستية لـ "داعش"، مثل تل أبيض –حتى بعد أن أخبر دبلوماسيون أمريكيون الأتراك أنهم إذا لم يسيطروا على حدودهم، فإنَّ هزيمة "داعش" ستكون مستحيلة.

في مواجهة تعنُّت تركيا، بدأت الولايات المتحدة في شراكة أوثق مع المقاتلين الأكراد السوريين المعروفين باسم "وحدات حماية الشعب" (YPG)، الذين دافعوا عن "كوباني". وجهت "وحدات حماية الشعب" الضربة الأولى لـ "داعش" في سورية، وسرعان ما أثبتت مهارة في تجنيد عشرات الآلاف من العرب في ما أصبحت لاحقاً "قوات سوريا الديمقراطية".

اعترضت تركيا على دعم الولايات المتحدة لـ "قوات سوريا الديمقراطية". وزعمت أنقرة أن العنصر الكردي للجماعة خاضع لسيطرة حزب العمال الكردستاني(PKK) ، وهي جماعة كردية انفصالية تشنّ حرباً متكررة ضد تركيا منذ ما يقرب من أربعة عقود. (صنفت الولايات المتحدة حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية في عام 1997).

رغم أنَّ واشنطن لم تجد أبداً أيَّ حالات لأفراد من "وحدات حماية الشعب" يعبرون الحدود للقتال في تركيا، ولا دليلاً على أن حزب العمال الكردستاني كان يتمتع بالسيطرة التشغيلية على "قوات سوريا الديمقراطية"، ولا حتى أن الأسلحة التي زودتها بها الولايات المتحدة كانت تشق طريقها إلى تركيا، إلا أنّ صناع السياسة الأمريكيين بذلوا قصارى جهدهم لمعالجة مخاوف أنقرة. حصرت الولايات المتحدة مساعداتها العسكرية في "قوات سوريا الديمقراطية". ونتيجة لذلك، دخل مقاتلو المجموعة في قتال دون دروع واقية أو خوذات، وفقط بمعدات محدودة لكشف الألغام.

 (في إحدى زياراتي إلى الرقة، علمتُ أن مقاتلي "قوات سوريا الديمقراطية" قاموا بشراء قطعان من الأغنام للكشف عن ألغام "داعش" وتفجيرها). طوال أشهر، حاولت الولايات المتحدة استرضاء أردوغان بتأخير عمليات "قسد" الملحة مثل حملة طرد "داعش" من بلدة منبج السورية التي كان يستخدمها التنظيم كمركز للتخطيط وتنفيذ الهجمات في أوروبا. حتى أنَّ واشنطن أرسلت أفضل الاستراتيجيين العسكريين إلى أنقرة، حيث طرحوا خطة لتحرير الرقة بمساعدة مقاتلين من "المعارضة" السورية المدعومة من تركيا. في النهاية، أصبح من الواضح أن خطة مشتركة مع تركيا ستتطلب ما يصل إلى 20 ألف جندي أمريكي على الأرض. رفض كلّ من أوباما وترامب هذا الخيار، وفي أيار/مايو 2017، قرر ترامب تسليح "وحدات حماية الشعب" بشكل مباشر لضمان تمكنها من استعادة الرقة من "داعش".

تمكن الدبلوماسيون الأمريكيون من معالجة التوترات الحاصلة مع تركيا بفضل الوجود العسكريّ الأمريكيّ في سورية. إذا قالت تركيا إن هناك مشكلة على الحدود، فإن القوات الأمريكية يمكن أن تضمن بقاء الحدود هادئة ومستقرة. (كما دعت الولايات المتحدة المسؤولين الأتراك مراراً وتكراراً إلى المجيء إلى شمال شرق سورية ورؤية الوضع بأنفسهم، وهو ما رفضوا القيام به عمداً).

عندما هدّدت تركيا بمهاجمة الأكراد عبر الحدود، كما فعلت في كثير من الأحيان، ذكّرت واشنطن أنقرة بأن القوات الأمريكية موجودة على الأرض هناك أيضاً. وأكدت الولايات المتحدة لأردوغان أنها ستردع أي تهديد واضح لتركيا من سورية. طالما كانت القوات الأمريكية موجودة، لم يكن هناك أي سبب لتدخل الجيش التركي، وكانت أنقرة تعلم أن تعريض حياة الأميركيين للخطر ستترتب عليه عواقب وخيمة بشأن علاقاتها مع واشنطن.

غير أن انسحاب القوات الأمريكية يزيل هذا الرادع. هناك خطر الآن من أن تقوم تركيا بالتوغل في شمال شرق سورية على غرار ذلك الهجوم الذي نفذته في كانون الثاني/يناير 2018 على عفرين، وهي منطقة كردية في شمال غرب سورية لا تحميها القوات الأمريكية. هناك هاجم الجيش التركي، بالتعاون مع حلفائه الإسلامويين في "المعارضة" السورية، "وحدات حماية الشعب"، وشرد أكثر من 150ألف كردي (ما يقرب من نصف سكان عفرين)، وأعاد تسكين العرب والتركمان النازحين من أماكن سورية أخرى في عفرين.

لم تكن هذه العملية رداً على أي تهديد حقيقي، وإنما نتجت عن طموح أردوغان لتوسيع حدود تركيا التي يشعر أنها رُسمت بموجب معاهدة لوزان لعام 1923بشكل غير عادل. لقد جلستُ في لقاءات مع أردوغان وسمعته يصف ما يقرب من 400 ميل المنطقة بين حلب والموصل بأنها "منطقة أمنية تركية"، وقد دعمت أفعاله كلماته هذه. في عام 2016، نشرت تركيا قواتها العسكرية شمال الموصل دون إذن من الحكومة العراقية أو أي شخص آخر؛ تم توقف عمليات النشر الإضافية فقط بسبب وجود مشاة البحرية الأمريكية. يرغب أردوغان الآن في تكرار عملية عفرين في الشمال الشرقي. وهذا يشمل إرسال قوات تركية بعمق 20 ميلاً في سورية، وإزالة "وحدات حماية الشعب" (والكثير من السكان المدنيين الأكراد)، وإنشاء ما تسمّى "منطقة آمنة".

أعطى الوجود العسكري الأمريكي الوقت للدبلوماسيين الأمريكيين لتأمين ترتيب طويل الأجل قد يرضي تركيا بشكل معقول؛ بينما يردع طموحات أردوغان الكبرى ويحمي "قوات سوريا الديمقراطية" ومقاتليها الأكراد. إن الانسحاب قبل إجراء مثل هذا الترتيب ينطوي على خطر حدوث كارثة –غزو تركي من شأنه أن يؤدي إلى نزوح مدني واسع النطاق، وكسر "قوات سوريا الديمقراطية"، وخلق فراغ تزدهر فيه الجماعات المتطرفة مثل "داعش".

 

 

طريق العرب إلى دمشق

كان الوجود العسكري الأمريكي في سورية مهماً أيضاً لإدارة علاقات واشنطن مع الدول العربية. أدى شبح ثلاث قوى إمبريالية سابقة –إيران وروسيا وتركيا– التي تحدد مصير سورية، وهي دولة عربية ذات أغلبية عربية، إلى توليد رد فعل عربي بشكل غير مفاجئ، وبخاصّة من قبل مصر والأردن والسعودية والإمارات العربية المتحدة. وبوجود الكثير من "المعارضة" السورية الآن التي يسيطر علها الإسلامويون، أو من تقلص ليصبح وكيلاً لتركيا، بدأت هذه الدول جهودها لإعادة دمشق إلى الكنف العربيّ.

عارضت الولايات المتحدة مساعي حلفائها العرب لتطبيع العلاقات مع دمشق، واضعةً في حسبانها أن هذا سوف يقلل من الضغط على الرئيس السوري بشار الأسد للمشاركة في عملية جنيف. ما دامت القوات الأمريكية على الأرض في سورية وتقود حملة ناجحة ضد "داعش"، يمكن للدبلوماسيين الأمريكيين التحدث بقوة عندما يطلبون من شركائهم العرب الامتناع عن إعادة التعاون مع الأسد: لقد وفر الوجود الأمريكي رادعاً ضد التوسع الإيراني والتركي الذي تخشاه الدول العربية.

في كانون الأول/ديسمبر 2018، أكدت واشنطن لحلفائها العرب أن القوات الأمريكية ستبقى على الأرض في سورية لمدّة طويلة من الزمن. ساعد هذا التأكيد في تأمين استثمارات كبيرة من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لدعم جهود تحقيق الاستقرار المدني في المناطق التي كانت تحت سيطرة "داعش"، بما في ذلك مدينة الرقة.

غير أن انسحاب ترامب الموعود قد قلب هذا الوضع. ستكافح الولايات المتحدة الآن لإقناع حلفائها العرب بأنها لاعب ملتزم في سورية. وبما أن إيران وتركيا تحثان الخطى في تنفيذ أجنداتهما في سورية التي تباعدت بحدة عن أجندات الدول العربية، فسيكون من الصعب على الدبلوماسيين الأمريكيين أن يطلبوا من شركائهم العرب عدم متابعة مصالحهم الخاصة، بما في ذلك العمل مع "النظام" السوري.

 (يمكن أن تهدد واشنطن بفرض عقوبات على الدول العربية، لكن عند استخدامها ضد الأصدقاء، فإن هذه التهديدات ليست إلا علامة ضعف). لم يكن مفاجئاً أن تعيد الإمارات فتح سفارتها في دمشق بعد مدة وجيزة من إعلان ترامب الانسحاب الأمريكي. من المتوقع أن تحذو الدول العربية الأخرى حذوها.

 

 

حقائق صعبة

لقد مكّن نشر القوات الأمريكية في سورية الولايات المتحدة من الوقوف كـ ندٍ لروسيا، واحتواء إيران، وكبح جماح تركيا، وجعل الدول العربية متماشية معها، والأهم من ذلك، منع عودة "داعش". طلب ترامب الأولي لسحب القوات الأمريكية بالكامل سيجرده من كل هذه المزايا. كما أنَّ تعديله الأخير الذي يسمح ببقاء 200 جندي في الشمال الشرقي و200 آخرين في التنف على أمل أن تسد قوات التحالف الأخرى الفراغ ما يشكل التوازن في النهاية، قد يجعل الأمور أسوأ.

لم تُبطل خطة ترامب الجديدة أمر الانسحاب الأصلي. ستقوم الولايات المتحدة في الأشهر المقبلة، بتخفيض مستويات قواتها في سورية بشكل كبير دون معرفة ما إذا كان التحالف سيرسل بدائل، ما يجعل التخطيط صعباً، ويزيد من الخطر المحدق بتلك القوات المتبقية. علاوة على ذلك، من غير المحتمل أن يتم نشر قوات التحالف الأخرى بأعداد كافية.

في العراق، يملك التحالف 22 شريكاً عسكرياً. في سورية، يملك فقط ثلاثة: فرنسا، المملكة المتحدة، والولايات المتحدة. تنتشر القوات الفرنسية والبريطانية بأعداد صغيرة، ولن تتم زيادتها إن وجدت، بفضل الضغوط السياسية الداخلية في كلا البلدين.

من الواضح أنه سيتم توسيع مهمة الـ 200 جندي أمريكي في الشمال الشرقي، لتشمل ليس فقط هزيمة "داعش"، ولكن أيضاً الحفاظ على منطقة آمنة في المنطقة الحدودية التركية والدفاع عن المنطقة الأمريكية ضد الإيرانيين، وأي تسلل روسي أو سوري. وهذه مهمة أكبر بكثير من أن تتمكن قوة صغيرة قوامها (200 جندي) من إنجازها؛ كانت صعبة حتى بالنسبة لعدد يبلغ 2000 جندي: إن تكليف مثل هذه القوة الصغيرة بمتابعة هذه المهمة التوسعية ينطوي على مخاطر كبيرة يمكن تجنبها بالحفاظ على الوجود الأمريكي عند مستواه الحالي.

إنَّ أفضل ما يمكن أن يفعله ترامب هو عكس أمر الانسحاب. لكن إذا لم يفعل، فلا يمكن للولايات المتحدة أن تتظاهر بأن ترك عدد قليل من القوات في سورية، يجنبها الحاجة إلى إعادة التفكير في استراتيجيتها. يجب على واشنطن قبول بعض الحقائق الصعبة.

الحقيقة الأولى هي أن الأسد باقٍ ولن يذهب إلى أي مكان، ولا توجد فرصة لإسقاطه من قبل الولايات المتحدة أو أي شخص آخر في هذه المرحلة المتأخرة. لا تحتاج واشنطن إلى قبول حكم الأسد أو العمل مع نظامه، لكن لم يعد عليها أن تستنزف صدقيتها وهيبتها عن طريق الإصرار على أنه يجب أن يذهب –أو أنه يجب عليه إصلاح نظامه الخاص انطلاقاً من عملية جنيف. ورغم أن الولايات المتحدة تستطيع الاستمرار في الضغط على دمشق بواسطة فرض العقوبات، إلا أن الألم الاقتصادي الذي يمكن أن تسببه ضئيلٌ مقارنة بما عانى منه "النظام" بالفعل. منذ عام 2011، شهدت سورية أشد انهيار في الناتج المحلي الإجمالي لأي دولة منذ ذلك الذي عانت منه ألمانيا واليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية. يجب أن تستخدم واشنطن العقوبات المستهدفة لتحقيق أهداف محدودة أكثر، مثل ضمان عودة اللاجئين السوريين من الأردن ولبنان، وأن يُسمح للأمم المتحدة بالعمل في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك المناطق التي تسيطر عليها "قوات سوريا الديمقراطية" في الشمال الشرقي. إن استخدام العقوبات لتحقيق أهداف غير قابلة للتحقيق، مثل إزاحة الأسد، لن تخلق سوى أسواق سوداء تفيد المتطرفين وتزيد من معاناة السوريين العاديين.

الحقيقة الثانية: هي أن الدول العربية سوف تنضم الآن إلى دمشق. إن مقاومة واشنطن لهذا الاتجاه لن تؤدي إلا إلى إحباط الدول العربية وتشجيعها على ممارسة دبلوماسيتها خلف ظهر واشنطن. سيكون النهج الأفضل هو أن تعمل الولايات المتحدة مع شركائها العرب لصياغة أجندة واقعية للتعامل مع دمشق –ويكون ذلك، تمثيلاً لا حصراً، بتشجيع الدول العربية على التجديد المشروط لعلاقاتها مع سورية على أسس بناء الثقة مع "نظام" الأسد، مثل العفو العام عن الذكور في سن الخدمة العسكرية الذين فروا من البلاد أو انضموا إلى جماعات "المعارضة" ويريدون الآن العودة إلى الأراضي التي يسيطر عليها "النظام". إن الانفتاح العربي المحدود والمشروط على دمشق قد يبدأ في إضعاف احتكار إيران وروسيا للنفوذ في سورية.

تركيا حليفاً وليست شريكاً

يجب على الولايات المتحدة أن تقبل أيضاً أن تركيا، حليفتها في الناتو، ليست شريكاً فعالاً.

لا يزال الدبلوماسيون الأمريكيون يأملون في أن يتمكنوا –على أساس العمل مع تركيا بشأن سورية– من وقف انجراف أنقرة نحو الاستبدادية والسياسة الخارجية التي تعمل ضد المصالح الأمريكية. غير أنهم لا يستطيعون. كانت تركيا حليفاً جدلياً جداً قبل أي خلاف بشأن سورية. على مدار العقد الماضي، ساعدت أنقرة إيران على تجنب العقوبات الأمريكية، واحتجزت المواطنين الأمريكيين كرهائن، واستخدمت الهجرة كوسيلة لابتزاز أوروبا.

بدأت تركيا في الآونة الأخيرة، بشراء أنظمة روسية مضادة للطائرات رغم اعتراضات الناتو ودعمت بشكلٍ فعلي –إلى جانب الصين وإيران وروسيا– نظام الرئيس نيكولاس مادورو الاستبدادي في فنزويلا. تريد تركيا دعماً أمريكياً لمشروع توسيع أراضيها بعمق 20 ميلًا في شمال شرق سورية، حتى في الوقت الذي ترفض فيه فعل أي شيء بخصوص ترسيخ وجود "القاعدة" في شمال غرب سورية. لا ينبغي أن يكون لواشنطن دورٌ في هذه الأجندة المريبة. يجب أن توضح لأنقرة أن الهجوم التركي على "قوات سوريا الديمقراطية" –حتى بعد الانسحاب الأمريكي– سوف يحمل عواقب وخيمة على العلاقات الأمريكية التركية.

أخيراً، يجب على الولايات المتحدة أن تدرك أن روسيا هي الآن القوة الرئيسة الوسيطة في سورية. ليس لواشنطن علاقات مع دمشق أو طهران، لذلك سيتعين عليها العمل مع موسكو لإنجاز أي شيء. لدى روسيا والولايات المتحدة بعض المصالح المتداخلة في سورية: إذ تريد كلتاهما من الدولة أن تحافظ على سلامتها الإقليمية وتحرم "داعش" و"القاعدة" من الملاذ الآمن، ولكل منهما علاقات وثيقة مع "إسرائيل". لا يمكن حل الأزمة السورية دون العلاقات المباشرة بين موسكو وواشنطن، ويجب على الولايات المتحدة عزل المشكلة السورية عن الجوانب الأخرى لعلاقتها المضطربة والعدائية مع روسيا.

 

 

العودة إلى الواقع

يمكن على أساس النظر إلى هذه الحقائق الصعبة، استشراف فشل الولايات المتحدة إذا استمرت في السعي لتحقيق أهداف كبرى في سورية. بدلاً من ذلك، يجب على واشنطن إعادة رسم أهدافها حسب وسائلها المحدودة مؤخراً. يجب أن تركز الآن على مصلحتين: حرمان إيران من وجود عسكري لها محصن في سورية قد يهدد "إسرائيل"؛ ومنع عودة "داعش".

إنَّ حرمان إيران من وجود عسكري محصّن هو هدف أكثر تواضعاً من الأهداف التي ذكرها بولتون ووزير الخارجية مايك بومبيو. قبل أن يصدر ترامب أوامره بالانسحاب، أعلن بولتون أن القوات الأمريكية ستبقى في سورية «طالما استمر التهديد الإيراني في جميع أنحاء الشرق الأوسط». وفي حديثه مع جمهور في القاهرة في يناير الماضي، أعلن بومبيو أن الولايات المتحدة ستبقى «لتطرد آخر جندي إيراني» من سورية –هذا ما قاله بعد مدة وجيزة من صدور أوامر ترامب بمغادرة كل الجنود الأميركيين البلاد. لم تكن هذه أهدافاً واقعية قبل قرار الانسحاب من ترامب، بل بدت جوفاء بعده.

إنَّ ما تستطيع الولايات المتحدة فعله وما ينبغي لها أن تفعله بدلاً من ذلك هو تقديم دعم دبلوماسي لـ "إسرائيل"، حيث يحرم جيشها إيران من القدرة على استخدام سورية كقاعدة انطلاق لشن هجمات صاروخية على "إسرائيل". هذا هدف تتقاسمه مع روسيا التي تحرص على الحفاظ على علاقات جيدة مع الحكومة الإسرائيلية، وتريد منع سورية من أن تصبح ساحة معركة بين "إسرائيل" وإيران. يمكن أن يكون هدف إحباط الترسُّخ العسكري الإيراني في سورية بمثابة أساس للدبلوماسية الثلاثية بين "إسرائيل" وروسيا والولايات المتحدة. إذا اتبعتها الولايات المتحدة بذكاء، فقد تبدأ هذه الدبلوماسية أيضاً في دق إسفين بين روسيا وإيران بشأن سورية.

سيكون من الأصعب على الولايات المتحدة منع عودة "داعش". تسيطر "قوات سوريا الديمقراطية" الآن على أراضي "الخلافة" السابقة، لكن مواردها ضئيلة. إنها تواجه عدائية تركيا من الشمال، وخصومة إيران و"النظام" السوري من الجنوب، وقلق الملايين من سكان المنطقة التي تسيطر عليها. تحتفظ "قوات سوريا الديمقراطية" أيضاً بآلاف من سجناء "داعش" القساة، بما في ذلك أكثر من 1000 من المقاتلين الأجانب الذين إذا تم إطلاق سراحهم، فقد يصبحون نواة لإحياء "داعش". تعمل القوات العسكرية الأمريكية، بوجود مواقع سيطرتها شمال شرق سورية وقدراتها الفريدة في مجال الاستخبارات واللوجستيات، كداعم أساس لـ "قوات سوريا الديمقراطية" وتسمح لها بالعمل كقوة متماسكة.

إذا انسحبت الولايات المتحدة –أو قللت من وجودها العسكريّ إلى الحجم الحالي– فإنَّ قدرتها على دعم "قوات سوريا الديمقراطية" سوف تتلاشى، تاركة المجموعة أكثر عرضة للخطر القادم من خارج أراضيها. سيزيد أيضاً تخفيض الدعم الأمريكي من خطر أن تبدأ المكونات الإثنية والإقليمية المتعددة في "قوات سوريا الديمقراطية" في الانهيار أو إيجاد حلفاء جدد –إيران و"النظام" بالنسبة للبعض، تركيا بالنسبة للآخرين. ورغم إضعاف تنظيم "داعش"، إلا أنه لا يزال فاعلاً منضبطاً لا يرحم. سوف يتحرك بسرعة لملء أي فراغ يحدث في شمال شرق سورية.

عندما تغادر الولايات المتحدة، ستحتاج "قوات سوريا الديمقراطية" إلى راعٍ جديد يمكنه مساعدتها في الحفاظ على قدرتها على السيطرة على شمال شرق سورية وحمايته من إيران وتركيا. لسوء الحظ، فإن المرشح الوحيد القابل للعب هذا الدور هو روسيا. يمكن لموسكو أن تقدم لـ "قوات سوريا الديمقراطية" قدراً من الدعم العسكري والدبلوماسي ومساعدتها على التوصل إلى اتفاق مع "النظام" الذي سيدمج "قوات سوريا الديمقراطية" في الجيش السوريّ ويضمن الحقوق السياسية للسكان في شمال شرق سورية.

وقد عرضت "قوات سوريا الديمقراطية" بالفعل أن تصبح فرعاً للجيش السوريّ في مقابل بعض الاعتراف السياسي بالمجالس المحلية. مثل هذه النتيجة غير مرضية. ولكن من المحتمل أن يكون هذا هو السبيل الوحيد للحفاظ على الاستقرار في الشمال الشرقي وتحجيم "داعش". مثل هذا الترتيب لن يكون غير مسبوق: أعيد تنظيم جماعات "المعارضة" السابقة المناهضة لـ "لنظام" تحت قيادة الفيلق الخامس الروسيّ، تعمل الآن في جنوب سورية. بالنسبة لهؤلاء المقاتلين والدول العربية التي ساندتهم، كان هذا خياراً أفضل من الهزيمة العسكرية أو الخضوع لإيران. (سورية هي أرض الخيارات السيئة). لا يزال بإمكان الولايات المتحدة المساعدة في صياغة صفقة على هذا المنوال، لكن ينبغي لها أن تفعل ذلك قريباً، لأن تأثيرها سيتضاءل في غضون الأشهر المقبلة فقط.

أصبحت هذه الأهداف متواضعة بعد مراجعتها. إنها تعكس الحقيقة التي لا مفر منها وهي أن ترامب أضاع القيادة الأمريكية في لحظة حاسمة من الحملة، لصالح إيران وروسيا وتركيا. سيتعين على صانعي السياسة الأميركيين قبول أن نفوذ الولايات المتحدة في سورية في طريقه إلى التقلص، وأن يعيدوا النظر في أهدافهم وفقاً لذلك. أفضل طريقة لإنقاذ الموقف هي أن يعيد القادة الأمريكيون تنظيم غاياتهم وطرقهم ووسائلهم مع التركيز على ما يهم واشنطن حقاً –منع سورية من أن تصبح نقطة انطلاق لشن هجمات ضد الولايات المتحدة أو حلفائها. هذا هدف مهم وقابل للتحقيق، وإنكاره هو العقبة الرئيسة أمام تحقيقه.

 

بريت ماكغورك

ترجمة: لينا جبور

مركز دمشق للأبحاث والدراسات

مِداد

سيريا ديلي نيوز


التعليقات