شهد الأسبوع الماضي تصاعداً حادّاً في أزمة المحروقات عنوانها البنزين... كما دخل الخلاف حول الدور المصري من عدمه في منم وصول المحروقات، الحكومة كعادتها استمرت بإطلاق تصريحات، حول قرب انتهاء الأزمة، وحول التعقيدات، والآجال الزمنية، دون أن يعير أحد اهتماماً جدياً لدقتها من عدمها، فالجميع اكتسب خبرة هامشية التصريحات الحكومية.
لكن سؤالاً يدور بين الجميع، حول عدم طرح حل واسع ونوعي، سياسي واقتصادي لمواجهة أزمة الطاقة، ومن ورائها العقوبات!

فروع مصرفية رسمية مستقلة
إذا ما فكرت بالعقوبات بشكل مُبَسَّط، فإن الأمريكيين يستطيعون ملاحقة النفط أو البضائع الواصلة إلى سورية، ومعاقبة المساهمين في إيصالها بطريقتين. الأولى: منظومة الدفع المصرفية، التي تنقل من حساب لآخر وبالدولار أو اليورو معطية البيانات المتعلقة بالعملية، ومنظومة التأمين كذلك الأمر التي ترتبط بعملية التأمين على الشحن والنقل... إضافة إلى سفن الشحن.
وعملياً تستطيع الولايات المتحدة عبر منظومة سويفت لبيانات أغلب المصارف العالمية، أن تلتقط غالباً حركة الدولار هذه، وتعاقب البنك المعني الذي جرى التحويل من خلاله، لتمتنع البنوك عن القيام بهذه المخاطرة، أو تقوم بعملية ابتزاز ليُطالب بتكاليف خدمات عالية مقابل المخاطر المرتفعة.
لذلك فلا يمكن تجاوز العقوبات جدياً، إلّا بمنظومة مصرفية مستقلة، والدفع خارج إطار المصارف التقليدية، وإنشاء حسابات رسمية غير معلنة في فروع بنوك رسمية، تستطيع أن تستقبل ليس فقط العمليات الحكومية، بل تبادلات القطاع الخاص. وهو الأمر الذي لم يتمّ، حتى مع الطرف الإيراني، والذي تحدث عنه قطاع الأعمال الإيراني، وتمنى إزالة صعوبات حلّه... وهو لم يتم حكماً مع الطرف الروسي.
وهذا هو الإجراء الأوّلي، وكما يقال «أضعف الإيمان»، لتستطيع الحكومة السورية، أن تتبادل مع الأطراف المستعدة بشكل رسمي، وخارج الرقابة الأمريكية على حركة الدولار والنظام المصرفي، وتقلل تكاليف المخاطر.
سفن الشحن السورية الرسمية
أمّا ثانياً: عملية التأمين والشحن، وهذه أيضاً وبالمنطق ذاته، تتطلب أن تتوفر شركات التأمين، والسفن المستعدة للعمل بشكل مستقل، وغير المرتبطة بمنظومة الرقابة المصرفية العالمية. أي: فروع تأمين وسفن شحن سورية مختصة وجاهزة لتجاوز العقوبات، ولا تفرض على الحكومة رسوم مخاطر عالية، كما مع سفن الشحن الخاصة التي شدد الأمريكيون العقوبات عليها، وأرسلوا إنذاراً لـ 80 سفينة شحن مرتبطة بنقل النفط إلى سورية.
إن سعر شراء أغلى سفن نقل النفط العالمية والجديدة، وبسعة 2.5 مليون برميل نفط، يقارب 100 مليون دولار، أي: 50 مليار ليرة... المبلغ الذي يشكل نسبة 16% فقط من مبيعات شركة محروقات في عام 2016. أمّا إذا تم الذهاب إلى خيارات شراء السفن الناقلة المسماة «بالشبح»، أي: الصغيرة، والتي استخدمتها إيران في أسطولها لتجاوز العقوبات، فإنّ أسعار الشراء المستعمل منها، تنخفض إلى ما دون 10 مليون دولار للناقلة، وسعر شقة فخمة في دمشق!
إن شراء سفن حكومية تعمل بشكل مستقل، يوفر المدفوعات الإضافية التي كانت تدفع لسفن شحن النفط الخاصة، بوكلائها المحليين، والتي كانت تصل إلى 220 دولار للطن من المشتقات، لينخفض السعر الإضافي إلى 60 دولار فقط على الطن! الأمر الذي قد يعني انخفاض العمولات بنسبة 72%. إن فرق العمولات هذا وحده كفيل بتغطية شراء سفن النقل... وكأن الغرض من عدم شراء هذه السفن، هو الحفاظ على عمولات كبار الفاسدين.
لا تجد هذه الخيارات أذناً صاغية لدى الجهات الحكومية، لأن منطق توسيع قدرات شركة محروقات، بل جهاز الدولة بمجمله، ليس منطقاً معتمداً في السياسة الاقتصادية السورية.
قرار سياسي- اقتصادي
إن ما يحتاج إليه تجاوز العقوبات، هو قرار سياسي- اقتصادي، بإنشاء آليات مصرفية مستقلة عن منظومة الدولار المصرفية، وببناء استقلالية في عملية التأمين والشحن، الأمر الذي يتطلب وضع مخصصات لزيادة قدرات جهاز الدولة، وتزويده بسفن نقل. العملية التي تعيد عائداً سياسياً واقتصادياً مباشراً، إذ تتيح التحرر من كلف المخاطر والتأمين المرتفعة التي يفرضها الوسطاء، والتي قال رئيس حكومة سابق، أنها ترفع التكلفة بنسبة 40%.
لكن ما الذي يقف في وجه هذا؟!... لماذا لا تبني الحكومة منظومة مصرفية رسمية مستقلة ومرتبطة بالحلفاء، وتؤمن مجموعة سفن نقل، لتأمين ليس فقط احتياجات الطاقة، بل احتياجات الغذاء الأساسية المستوردة التي تكلفتها السورية أعلى من أسعار التصدير العالمية بنسبة تتجاوز 50%؟ ولماذا يحاول البعض رمي هذه المسألة على الأطراف الإيرانية أو الروسية... وأية «عورة» يريد تغطيتها بتقاذف المسؤوليات هذه؟! إن المنطق السياسي يقول: إن الأطراف السياسية الحليفة، معنية سياسياً بقدرة سورية على الاستمرار والاستقرار، بل إنهم مجرّبون في القدرة على تجاوز العقوبات الغربية المفروضة عليهم! الأمر الذي يبقي العائق الأساسي هو في الأطراف المحلية، في القوى التي تعلم أن خطوات جدية ومن هذا النوع، تؤدي إلى خسائر كبرى لقوى المال الطفيلية التي تتغذى بالأزمات، والتي تستفيد من السطوة على جهاز الدولة، وتحد الخيارات الاقتصادية، لتنحصر بالاعتماد على وكلائها.

إن التصعيد السياسي الأمريكي عبر العقوبات، يهدف إلى تضييق الخناق الاقتصادي، ولكنه يعتمد إلى حدٍ كبير، على ممانعة قوى الفساد الكبير لأية خطوات جدية في مواجهة العقوبات. ولكن هذه العملية لا يمكن أن تستمر طويلاً، وسيفرض الواقع السياسي على هؤلاء، أن يخضعوا للتوجّه شرقاً بشكل فعلي، سيفرض عليهم أن تفتح طرق السكك الحديدية، والربط مع العراق وإيران، وسيفرض أن تفتح البوابات المصرفية مع الأطراف الحليفة، وأن تسير السفن من البحر الأسود وعبر مضيق الدردنيل إلى سورية، ليتم تجاوز قناة السويس التي يضطر النظام المصري للرضوخ للطلبات الأمريكية بالسماح ومنع المرور. إذا لم تجرِ هذه التغيرات الجدية، في إدارة العقوبات والمرحلة، فإن فشل سورية كدولة، وإيقاد الفوضى سيكون مدخله اقتصادياً، وعماده المصالح النفعية وضيق الأفق لقوى الفساد الكبير المحلية، التي تحكم سلوك جهاز الدولة. ولكن هذا الفشل أمر صعب، ولن تسمح به توازنات القوى الدولية الجديدة، والصراع السياسي الدولي، المتجلي في سعي الأمريكيين لاستدامة الأزمة السورية وتعقيد حلها، وإصرار الأطراف الدولية والإقليمية الصاعدة على حل هذه الأزمة، ووصولها إلى التسوية السياسية...

عشتار محمود

قاسيون

سيريا ديلي نيوز


التعليقات