ما يقارب نصف السوريين في تركيا البالغ عددهم 3.5 مليون نسمة أطفال، ولا يبدو أن فترة بقائهم هنا مؤقتة أو معلومٌ أجلها. كيف تواجه الأمهات السوريات تحديات تربيتهم وتنشئتهم في هذا البلد الغريب؟ وما الذي ينتظر هؤلاء الأطفال حين يكبرون؟ أجوبة هذه الأسئلة هي ما تسعى إليه الصحافية المقيمة في إسطنبول «عائشة كاربات» في مادتها المنشورة حديثًا على موقع «ميدل إيست آي»، نورد هنا الترجمة الكاملة لحكايات الأمهات السوريات اللواتي قابلتّهن الصحافية، وحال الأطفال المعيشيّ والقانوني، فضلًا عن المستقبل الغامض الذي ينتظرهم.

 

ألمُ الحياة.. منذ البداية

لم تكن تباشير الحياة سهلةً بالنسبة لـ«شام». تتذكر والدتها كوثر محمد وقت الإنجاب: «كنت في المخاض، مستلقيةً على سرير المستشفى أتألم، لكن رفضت القابلات مساعدتي». تستخدم كوثر محمد التهجئة التركية لاسمها الأخير الآن، وتستذكر كيف قالت القابلات لها: «تفرّين من الحرب وتمارسين الجنس؟!» متابعةً: «نعتوني بألقابٍ لا أريد تكرارها. لقد تخلّوا عني. توسّلت إلى سيدة التنظيف لتساعدني فذهبت للبحث عن طبيب. عندما عادوا كنت قد ولدت الطفلة بالفعل».

هكذا جاءت شام إلى العالم، بعيدًا عن حلب، مسقط رأس والديها وإخوتها الثلاثة الأكبر سنًّا. ولدت شام في إسطنبول عام 2014، بعد عامين تقريبًا من فرار عائلتها من سوريا، وفقًا لكلام والدتها. سمّت كوثر ابنتها «شام» تيمّنًا بالعاصمة السورية دمشق -تسمّى شام باللغة العربية والتركية- مدينة ربما لا يراها السوريون المولودون في تركيا أبدًا.

     رفضت القابلات مساعدة كوثر أثناء المخاض، وسألنها باستهجان: كيف تفرّين من الحرب وتمارسين الجنس؟ ونعتنها بألقابٍ مسيئة ليدعنها تعاني ألميّ الغربة والولادة.

شام واحدةٌ من 385,431 طفلًا ولدوا لأبوين سوريين في تركيا بين أبريل (نيسان) 2011 ونوفمبر (تشرين الثاني) 2018، وفقًا للإحصاءات الرسمية، يماثل هذا الرقم تقريبًا العدد الإجمالي لسكان مدينة فلورنسا الإيطالية.

 

جوازاتُ سفرٍ قليلة وأخبار وهمية كثيرة

ولدت شام عديمة الجنسية، مثل الغالبية العظمى من الأطفال السوريين في تركيا. حصلت هي وأسرتها على الجنسية التركية منذ عامٍ ونصف، لكنها استثناء من القاعدة. فمن بين 3.5 مليون سوري في تركيا، جُنّس قرابة 59 ألفًا فقط -أقل من 2%- خلال السنوات السبع الأخيرة.

  وجود أطفال مثل شام «يمكن تفسيره بمثابة إشارةٍ إلى ميول (السوريين في تركيا) للبقاء بشكلٍ دائم» وفقًا لمؤسسة الأومبودسمان التركية، كما شددت على ذلك في تقريرها الأخير تحت عنوان «تقرير خاص بشأن السوريين في تركيا»، والذي جاء فيه أنه «إذا كان المجتمع السوري والمجتمع التركي غير مستعدين استعدادًا مناسبًا لإمكانية بقاء السوريين في تركيا بشكلٍ دائم، فإن الوضع سيؤدي إلى عددٍ من المشاكل الخطيرة»، محذرًا من أن سياسات الاندماج يمكن أن تزيد من «خطر» بقاء السوريين في البلاد، وأضاف أنه «مع ذلك، إذا كان لا يمكن تفادي العيش مع مجموعةٍ سكنية تبلغ 4% من سكان البلاد، سترتفع تكاليف تأجيل سياساتِ الاندماج لتجنب تشجيعهم على البقاء أكثر».

     إذا كان لا يمكن تفادي العيش مع مجموعةٍ سكنية تبلغ 4% من سكان البلاد، سترتفع تكاليف تأجيل سياساتِ الاندماج لتجنب تشجيعهم على البقاء أكثر. *تقرير مؤسسة الأومبودسمان التركية

تناول وزير الداخلية التركي «سليمان سويلو» أهمية احتضان الأطفال السوريين في خطابٍ له أمام البرلمان في نوفمبر (تشرين الثاني) قائلًا: «إذا قررت الدولة منح الجنسية لجميع هؤلاء الأطفال، عندما يعودون غدًا إلى بلادهم حاملين كل تجاربهم هنا وجواز سفرهم المعلّم بالهلال والنجمة (يقصد جواز السفر التركي)، يمكنهم حينها التحدث عن معنى الأخوة في هذا البلد، وهذه الجغرافيا».

إلى الوقت الحاضر، لم تسجل أي محاولةٍ من جانب الحكومة لمنح الجنسية إلى الأطفال السوريين المولودين في تركيا على نطاقٍ واسع.

قصصٌ مخيفة

ومع ذلك، لم يوقف هذا موجة الأخبار الكاذبة حول هذا الموضوع، وخاصة على وسائل الإعلام الاجتماعية. زعمت تغريدة على تويتر نُشرت في سبتمبر (أيلول) أنه في الأشهر الستة الماضية أنجب 225 ألف سوريّ في تركيا مع تعقيبٍ يفيد بأنه «يجب أن يتيقّظ الأتراك». تلقّت التغريدة آلاف الإعجابات وأكثر من 1300 إعادة تغريد. تشير الأرقام الرسمية إلى أن معدل المواليد يقربُ من 50 إلى 55 ألف مولود في السنة -أي أقل من ربع العدد المزعوم في التغريدة المحرّضة تلك.

انتشر خبرٌ كاذب مماثل بمشاركاتٍ فاقت 4 آلاف مرة على فيسبوك، وفقًا لمنظمة «تاييت» المختصة بتقصّي الحقائق في تركيا؛ لمنع انتشار المعلومات الكاذبة على الإنترنت، كما انتشر خبرٌ مخادع آخر لدرجة أن السلطات في مدينة «هاتاي» الحدودية التركية اضطرت إلى إصدارِ بيانٍ رسمي يدحض الإشاعة المدّعية توطين الأطفال السوريين المولودين في تركيا.

لماذا الأطفال السوريون عديمو الجنسية؟

ليست تركيا من بين البلدان المطبّقة لقانون «حق المواطنة بالولادة»، أي لا تمنح جنسيتها تلقائيًّا للأطفال المولودين في أراضيها. بدلًا من ذلك، تُمنح الجنسية التركية على أساس جنسية الوالدين، أو كما يعرف المصطلح بـ«حقّ الدم». ينص القانون التركي على أن «الطفل المولود في تركيا، لكن دون أن يحصل على جنسيةٍ من والدته أو والده الأجنبي، يكتسب الجنسية التركية بالولادة».

يمنح اللاجئون السوريون في تركيا وضع «الأجانب الخاضعين للحماية المؤقتة»، بعبارةٍ أخرى لا يعتبرون لاجئين رسميًّا. وكذلك يشدد السياسيون في كثير من الأحيان على وضعهم غير الرسمي؛ إذ يستخدمون معهم تعبير «الضيوف السوريين». وبالتالي، فإن الأطفال المولودين لأبوين سوريين هم مواطنون سوريون وفقًا لتركيا، وتؤكد بطاقات الهوية الصادرة لهم من تركيا أنهم سوريون.

بيد أن هنالك مشكلة: الدولة السورية ليست على دراية بمواطنيها حديثي الولادة، لأسبابٍ مختلفة.

اقتباس: هنالك 385,431 طفلًا مولودًا لأبوين سوريين في تركيا ما بين أبريل 2011، ونوفمبر 2018، وفقًا للإحصاءات الرسمية، يماثل هذا الرقم تقريبًا العدد الإجمالي لسكان مدينة فلورنسا الإيطالية.

أمّ أمير التي طلبت عدم الكشف عن اسمها الكامل هي أمٌّ لأربعة أطفال، أطلعت «ميدل إيست آي» على كتيّبٍ رسميّ صغير، صادرٍ عن الحكومة السورية، تحافظ عليه بغلافٍ بلاستيكي، وتعامله بالرعاية التي يوليها المرء لوثائقه وممتلكاته الثمينة. تعد هذه الوثيقة مهمّة في سوريا، ويظهر فيها بياناتها وبيانات زوجها وأولادها الثلاثة الأول. لكن أصغر أطفالها أمير – البالغ من العمر 4 سنوات- المولود في تركيا بعد شهرين فقط من فرار الأسرة من سوريا، غير مسجّل في الوثيقة تلك. توضّح أم أمير: «يطلبون في القنصلية مبالغَ كبيرة لا قدرة لنا عليها».

عندما سُجّلت العائلة بعد وصولها إلى تركيا، مُنحت أم أمير وزوجها وأطفالها «رقمًا عائليًّا». تستخدم الأرقام هذه في كلّ الوثائق السورية الصادرة من تركيا، وهي متطابقة بالنسبة لأفراد العائلات. ومع ذلك، فقد أعطيَ أمير رقمًا عائليًا مختلفًا عن باقي أفراد عائلته، ما تسبّب بالقلق لوالدته، وعن ذلك تعقّب: «أردنا تصحيحه، لكن السلطات التركية طلبت منا وثائق لا يمكننا توفيرها».

واجهت أم ملحم مشكلةً مماثلة، فلقد حاولت تسجيل ابنها في شهادة العائلة الصادرة عن السلطات التركية، إذ تزوجت بزوجها في تركيا، وتقدمت بطلبٍ إلى السلطات التركية بشأن ذلك لكن قيل لها إن ذلك غير ممكن لأنها ليست تركيّة.


صعوباتٌ في المدارس

على الرغم من المشاكل التي تواجههن في اجتياز البيروقراطية التركية المعقدة والمتغيرة على الدوام، والتي صُممت لتدير أكثر من 3.5 مليون لاجئ سوري في البلاد، لكن أمهات ملحم وأمير وشام اتفقن جميعهن على أنه بمجرد دخول الأطفال في النظام يُعاملون بشكلٍ جيد. الخدمات الصحية للأطفال مجانية، وبرامج التلقيح مضبوطةٌ عن كثب. إلا أن أمهات الأطفال المولودين في سوريا لديهم مخاوفُ أخرى: كيف سينجح أطفالهم في التأقلم ضمن المجتمع التركي؟

 


مرحلة التعليم التمهيدية قبل المدرسة ليست إلزامية في تركيا. تبدأ المدرسة في سنّ السادسة، وهي إلزامية لمدة 12 سنة، ولا تضع الجنسية بعين الاعتبار. حتى الأطفال الذين ليس لديهم أي أوراقٍ رسمية لهم الحق في الالتحاق بالمدرسة بموجب القانون التركي. لكن من الناحية العملية، ليس هذا هو الحال دومًا.

كان أشقاء شام الأكبر يدخلون ويخرجون من المدرسة على مر السنين، لكنهم يتلقون التعليم الآن جميعهم. ومع ذلك، انسحبت أختا أمير وأخوه من المدرسة. وكما توضح والدتهم فإنهم «لم يستطيعوا فهم المعلّم»، مشدّدة على جسامة حاجز اللغة.

التحق كلّ من أمير وشام برياضِ أطفالٍ سورية، وأكدت أمهاتهما على رغبتهما في تعليم أطفالهما اللغة العربية أولًا، لقلقهما من أن ذلك سيمتنع عن التحقيق في حال التحاق أطفالهما بمدارس تمهيدية تركية. تقول والدة شام: «نسي أطفالي الأكبر سنًّا الكثير من الكلمات العربية. من المهم ألا ينسوا لغتهم».

 

لدى رغد حذيفة وجهة نظر مماثلة، وهي تفكر في التعليم المنزلي لابنها ملحم في المستقبل، ولكنها في الوقت نفسه تحاول تعليمه اللغة التركية أيضًا، وتحادثه باللغة هذه بمساعدة أختِها التي تدرس اللغة التركية في الكلية، معقبةً: «أريد لابني أن يتعلم اللغة العربية مني، وأن يتعلم اللغة التركية من أختي، ليتعلم كلتا اللغتين بشكلٍ جيد».

 

تعمل كوثر محمد في جمعيّة تتصدى لعمالة الأطفال السوريين، وتعرف الكثير عن أحوال الأطفال السوريين في تركيا، موضحة أنهم يُستبعدون أحيانًا في الفصول الدراسية، ويجبرون على الجلوس وحدهم؛ لأن زملاءهم في الصف لا يريدون التفاعل معهم. توضح كوثر: «يتعلم [الأطفال الأتراك] من آبائهم، ليس لدى الأطفال بأنفسهم مواقف متحيزة».

تخشى حذيفة من أن يتعرض ابنها للتمييز عند ذهابه إلى المدرسة – ليس فقط من زملائه في الفصل، بل من المعلمين قليلي الصبر أيضا- وأضافت أنه في حال حصول أسرتها على الجنسية التركية، يمكنها حينها تغيير لقبها إلى اسمٍ تركي؛ لتقليل احتمالية تسلط الزملاء على أطفالها ومضايقتهم.

ردّدت أم أمير مخاوف الأمهات الأخريات قائلة: «حتى لو وُلد في تركيا، وحتى لو حصل على الجنسية، سوف يصفونه بأنه سوري ويمارسون التمييز ضده». مضيفةً أنه حتى لو أصبح أمير مواطنًا – وهو ما شكّكت في احتماليته- فإنها ما تزال تبتغي العودة إلى سوريا؛ لأن الحياة كانت أسهل هناك، بيد أنها أشارت إلى كونها الوحيدة في عائلتها التي تشعر بهذه الطريقة، إذ يريد الآخرون البقاء.


جسرٌ بين ثقافتين

تعتقد الأمهات الثلاث التي التقى بهنّ موقع «ميدل إيست آي» أن أطفالهنّ سيصبحون جسورًا بين المجتمعين التركيّ والسوري. تقول حذيفة: «سأكون متحمسةً أكثر للاندماج في المجتمع التركي، عندما يبدأ ملحم بتكوين صداقاتٍ تركية. وسأتواصل حينها مع أولياء أمور أصدقائه»، مضيفةً أنها ستشجّع ابنها على الاختلاط وإقامة العلاقات داخل المجتمع التركي.

 

عندما سئلنَ عن مدى قبولهن لفكرة زواج أطفالهم من أتراك، أجابت حذيفة ومحمد بالموافقة والقبول بشرطِ أن يكون الشخص التركي جيدًا، فيما كان لدى أم أمير بعض المخاوف.

تساءلت أم أمير: «هل ستسمح أسرةٌ تركية لابنتهم بالزواج من سوري؟» قبل أن تضيف مداعبةً: «حسنًا، سيكون صعبًا عليّ التصرفّ مثل حماة حقيقية».

مؤسسة أمبودسمان التركية التي تنبّأت ببقاء الأطفال السوريين المشابهين في حالتهم لشام وملحم، أوضحت وجوب تعلم اللغة التركية على السوريين من جميع الأعمار، وضرورة توفير الخدمات باللغة العربية على الإنترنت من قبل مؤسسات الدولة، بالإضافة إلى أهمية إنشاء وزارةٍ تتعامل حصريًّا مع السياسات المتعلقة بـ«الضيوف السوريين».

يفيد تقرير المنظمة بأنه: «بُنيت سياسات تركيا المتعلقة بالسوريين بشكلٍ طبيعي على مفهوم عدم الثبات منذ البداية. منتجات هذا المنهج تتمثل بمصطلحات حالة الحماية المؤقتة، ومراكز الإقامة المؤقتة، وبطاقات الهوية المؤقتة، ومراكز التدريب المؤقتة. إلا أن الأزمة لم تنتهِ بسرعة، ولم يبق السوريون في تركيا لفترة قصيرة، ولم يكن عدد اللاجئين منخفضًا. في هذا السياق، من الضروري مواجهة الحقائق ووضع سياساتٍ للديمومة؛ لأن إمكانية ديمومتها أضحت أقوى من إمكانية كونها مؤقتة. يسمّى هذا بسياسة الاندماج».


عندما سُئلت الأمهات كيف ينبغي لأطفالهنّ أن يعرّفوا عن أنفسهم عندما يكبروا، بدت الأمهات الثلاث على توافقٍ في هذه المسألة. قالت كوثر محمد عن ابنتها شام «تركية» دون تردد، فيما أجابت حذيفة والدة ملحم بعد تفكيرٍ لبضعِ ثوانٍ: «تركيّ بجذورٍ سورية».

أجابت والدة أمير بـ«لا أعرف»، وبعد التفكير لبعض الوقت قالت: «تركيّ، لأني أعتقد أن هذا ما هو عليه».

 كاتب: Ayse Karabat
مصدر: Born in Turkey: Syrian children face uncertain future in new homeland

 

 

 

سيريا ديلي نيوز


التعليقات