“طبعة جديدة عمي”؟!.. يسأل أبو جعفر زبونه الذي تبقى له خمسون ليرة من ثمن سندويشة الفلافل، فتبدو ملامح الحيرة والإرباك على الزبون الجديد قبل أن ترتسم الابتسامة على وجهه مجدداً، حين يفهم أن المقصود “بالطبعة الجديدة” ليس إلا خمسة أقراص فلافل إضافية مع “السندويشة” التي اشتراها، حيث اعتاد بائع السندويش المشهور في منطقة المزة جبل أن يقدمها لزبائنه ساخنة مع رشة ملح وبهارات كبديل عند إرجاع المتبقي من فئة الخمسين ليرة، تلك العملة النقدية التي أصابها التلف والاهتراء، وأصبحت نادرة، وصعبة التوفر بشكل دائم بين أيدي الباعة وزبائنهم، ويبدو أن الطبعة الجديدة، والإصدار المبتكر الذي أصدره أبو جعفر كحل عملي ومتوفر دائماً عند الحاجة، نال قبول ورضى أغلبية زبائنه عندما يبتاعون مأكولاتهم من دكانه الصغير، وذلك حين لا تتوفر لديهم أو لديه فئة الخمسين ليرة، فيأخذون المتبقي لهم أقراص فلافل ساخنة، ويوضحون بسرور لأي زبون جديد لم يفهم معنى “الطبعة الجديدة”، المقصود منها، لينضم إلى قائمة المتعاملين بذلك الإصدار!.
حالات مماثلة
والملفت أن “الإصدار الجديد” من فئة الخمسين ليرة المذكور كمثال في الحالة السابقة ليس إلا نموذجاً عن حالات كثيرة مشابهة درجت اليوم في الأسواق المحلية بين المستهلكين والباعة عند عدم توفر “الفراطة” بين أيديهم، وخاصة الفئات النقدية القليلة من أرقام الخمسين، والمئة ليرة، وكذلك الحال بالنسبة “للفراطة” المعدنية التي تحولت إلى فئات عملة نادرة، ومطلوبة بكثرة لمرتادي الباصات، ووسائل النقل العام، وللمتعاملين مع باعة المواد الاستهلاكية في الأسواق، ويتحدث معظم باعة المحلات كيف أنهم يتغلبون على إشكالية نقص هذه الفئات، والأوراق النقدية بطرق مختلفة حين يعوضون الزبون من بضائعهم، فيكون الباقي مثلاً في محلات البقالة بحسب أصحاب تلك المحلات، قطعة بسكويت صغيرة، أو كيس ملح، أو “قداحة”، وأحياناً أخرى يكون الاعتذار سيد الموقف فيسمح الزبون، أو يسمح البائع، والعوض كما يقولون على الله، أما في الصيدليات فقصة “اللزقات” الطبية أقدم من موضوع الخمسينات البالية، ونقص “الفراطة”، ويتندر بعض الأشخاص الذين ملّوا هذه الطريقة في التعامل من الباعة، وبعض الصيادلة الذين يحتجون بنقص “الفراطة” حتى لو توفرت، ويطالبون بإيجاد حل لموضوع العملة القديمة، وتوفرها، وضرورة سحب التالف منها من التداول، وضخ كميات جديدة، ويتندر أحد المواطنين على تلك الطرق التي يتعاطى من خلالها بعض الباعة، ماذا لو كانت اللزقات الطبية بحوزتنا، وقمنا بدفعها نحن إكمالاً للمبلغ المطلوب للصيدلي، أو للبائع، هل كان سيأخذها؟!.
مشاكل بالجملة
وإذا كانت مشكلة الخمسينات القديمة، وتصريفها، وإيجاد بدائلها، أو التعامل مع المهترئ منها، قد وجدت بعض الحلول وطرق المعالجة في المحلات، والأسواق الاستهلاكية، لكنها في المقابل تتسبب بمشاكل بالجملة بين المتعاملين بهذه الفئات في وسائل النقل العامة، ويذكر الكثير ممن قابلناهم قصصاً مختلفة، بعضها لا يخلو من الطرافة، لكن مجملها ينتهي بمشاجرة أو مشكلة بين الراكب والسائق، ويتحدث عماد أحد مرتادي وسائل النقل العام كيف أن أحد السائقين أعاد له ذات مرة نصف خمسين ليرة، وحين أرجعها إليه مجدداً تنكر أن يكون هو مصدرها، وحدثت بينهما مشاجرة توقفت بفضل بعض الركاب، كذلك يتحدث علي مواطن آخر كيف يتذمر بعض السائقين في وجهه حين لا تتوفر “الفراطة” بحوزته، ويعطيهم عملة نقدية من فئة الألف أو الألفين، في المقابل يتحدث بعض السائقين عن معاناتهم المستمرة مع هذه الفئات القديمة، وتوفيرها، ويشرح أحد سائقي الميكروباص على خط “برامكة- معضمية” كيف يبدأ يومه كل صباح بالبحث بين المحلات، والبقاليات لتوفير تلك الأجزاء و”الفرايط” لتجنب المشاكل مع الركاب، ويتحدث عن المزاجية التي يتصرف بها البعض حين يعيد لهم خمسينات مهترئة فيرفضون أخذها، ويتساءل: ماذا أفعل إن كانت كل العملة الموجودة في التداول مهترئة وقديمة؟! ولعل قلائل فقط مثل سائق آخر التقيناه (أبو عدنان) يمضون نهاية يومهم في محاولة إصلاح التالف والممزق من تلك الأوراق بواسطة لاصق شفاف يحفظ ما تبقى من هيبة تلك الخمسينات المهترئة التي باتت تتطلب المداراة في الحيازة والاقتناء.
وعود قديمة
وأمام طروحات سابقة، ووعود قديمة مضى عليها أكثر من عام من المصرف المركزي بطرح كميات مفيدة من فئتي الخمسين والمئة ليرة، والعملات المعدنية الأخرى في الأسواق، لم نر أو نلمس أي تغيير في واقع التداول النقدي المحلي لهذه الفئات، وبتأكيد الأمثلة السابقة، ومع الحديث من جهة أخرى عن مشروع بدائل تقنية جديدة عوضاً عن النقد الورقي من خلال بطاقات الكترونية قابلة للشحن في إطار نشر ثقافة الدفع الالكتروني، والتخفيف من استخدام النقد الورقي، أو المعدني بين يدي المواطنين، بعد الاهتراء الذي حصل لبعض فئاتها، لا يبدو أن هذه الفكرة أيضاً قد نضجت خاصة في ظل ظروف الحرب، في المقابل راجت شائعات كثيرة عن نية المركزي استبدال فئات الخمسين الورقية بأخرى معدنية، تؤكد واقع التضخم الحاصل عبر السنوات السابقة، وتشي باختفاء أجزاء أخرى من العملة مثل الخمس ليرات التي أصبحت قليلة العرض والطلب جداً، الأمر الذي بحثنا عن تفسير له من قبل المهتمين في الشأن الاقتصادي النقدي!.
سياسة نقدية
من المؤكد أن كمية النقود المعروضة في السوق، وفئاتها تحددها السياسة النقدية في أي بلد أو دولة، وبالتالي فإن أية فئة من العملة من حيث طرحها أو استبدالها يتم أخذها من المصرف المركزي بعين الاعتبار لتحقيق مبدأ التوازن في العرض والطلب، والتحكم بنسب التضخم، يؤكد الدكتور زكوان قريط الخبير الاقتصادي والمدرّس في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق هذه الحقيقة عندما يبدأ حديثه عن الفئات الورقية المهترئة الموجودة قيد التداول، ويقول: بالتأكيد هناك تغطية أو طرح لكتلة موازية بدل فئة الخمسين ليرة، وعلى الأرجح أن تكون مغطاة من فئة الألفين ليرة التي تم طرحها منذ فترة، والمعلوم أن طرح أية كمية كبيرة من النقود يؤدي لزيادة نسبة التضخم، وبالتالي فمن باب كبح جماح هذا التضخم يمكن أن تكون هذه السياسة، وهي سحب هذه الأوراق النقدية المهترئة بشكل غير مباشر، وضخ فئات نقدية بديلة قد تكون من فئة أخرى، وهو ما تؤكده قلة هذه الفئات كالخمسين ليرة و”الفراطة” في التداول هذه الأيام.
لا عملات معدنية
ويستبعد الدكتور قريط أن يتم استبدال العملة الورقية من فئة الخمسين ليرة بعملة معدنية مماثلة بالقيمة نفسها لارتفاع تكاليف السك كما يقول، ويوضح أن هذا الأمر يعود أولاً وأخيراً لسياسة المصرف المركزي، لكنه بكل تأكيد سيأخذ بعين الاعتبار موازنة المصاريف، والمعلوم أن كلفة طباعة العملية النقدية أو سكها مرتفع جداً، بخلاف الفئات الورقية التي تكون طباعتها أقل كلفة، فمثلاً كلفة طباعة الخمسين ليرة أو الخمس وعشرين ليرة، قد تساويها تماماً كتكلفة طباعة وسك، لكن تعديل التكاليف والأجور يكون من خلال الفئات الأعلى، فالفئات الأعلى تغطي تكلفة العملة الأقل من ناحية تقنية في الورشات، ولكن رغم ارتفاع أجور السك أو الطباعة فنحن بحاجة لهذه الفئات، ومضطرون كي تكون موجودة، إلى أن تخرج بشكل طبيعي بسبب التضخم، وهو ما سيحدث عاجلاً أو آجلاً، كما حدث مع فئتي الليرة والليرتين، فهذه الفئات لم تعد موجودة، واليوم نجد أن أقرب الفئات المرشّحة للاختفاء هي الخمس ليرات، ثم العشر، والخمس والعشرون، وتأتي الخمسون في المرحلة الرابعة، وهنا يمكن أن نشير إلى أن هذه الفئة يمكن أن تستبدل، لكن ليس بالكمية نفسها، وتتم الموازنة مع العملة الأعلى مثل فئة المئة أو المئتين وهكذا، وهنا تكون خطة المركزي بسحبها من السوق بحجة أنها مهترئة لكن دون أن تستبدل، ويختم قريط في كل الأحوال أكثر الأشياء أهمية في المرحلة الراهنة أن نحافظ على كتلة نقود ثابتة، ونتجنب التضخم عبر مختلف الحلول الممكنة لحين التعافي الاقتصادي بعد الحرب، وعودة دوران العجلة الاقتصادية مجدداً.
مظهر حضاري
وختاماً فالتعامل بالأجزاء والعملات الورقية يرتبط أيضاً بنواح اجتماعية مختلفة تتعلق بالتربية، والمستوى أو الحالة الاجتماعية، وهو ما يؤكده مختصون بعلم الاجتماع، فالشخصية الخجولة مثلاً تجد أنه من العيب أو من غير اللائق المطالبة بالأجزاء، كذلك من هم في مستوى اجتماعي واقتصادي جيد، أو يرغبون بالظهور بمظهر حضاري يرفضون مثلاً أخذ العملة المهترئة، وهناك أيضاً موضوع الوعي بالحقوق حتى بأبسط الأجزاء من العملة، لكن الأهم دائماً هو الحفاظ على هذه النقود، والتعامل معها بطرق حضارية على المستويين الشعبي والرسمي، كونها جزءاً من المظهر الحضاري الذي يمثّل جميع أطياف المجتمع.
سيريا ديلي نيوز
2018-05-10 19:48:36