صحيح، أن أزمة سكن خانقة صارت أشبه بغمامة سميكة فوق المشهد الإسمنتي على مساحة البلاد، إلا أن هذه "الغمامة" تخفي "انتعاشا" من النوع التجاري إلى الدرجة التي يتحول فيها التراب إلى ذهب، بحسب المثل الشائع، بالنسبة لجميع أولئك الممارسين في كار العقارات وحتى الداخلين من جديد إليه، فيما عدا المشتري طبعا، الذي سيدفع جميع التكاليف من بابها إلى محرابها.

ورغم كثرة المنغصات التي تلف قطاع العقارات، إلا أنه اليوم ولإلحاح الحاجة بات القطاع أشبه بطاقة رزق تبدأ من عند أول بلوكة توضع في البناء وحتى مفتاح الباب، حتى أن من يملك رأسمال يتيح له أن يقبر الفقر، ويحول التراب إلى ذهب فيما لو عرف شيفرة وضع الليرة بمكانها.

طفرة المخالفات قبل الأزمة التي تمر بها سورية، لم تكن مناطق العشوائيات والأبنية المخالفة المشادة على أراض مستملكة لصالح الدولة، أو تلك المقيدة كـ "زراعي"، تلاقي هذا الحماس في الإقبال على الطلب كما هو اليوم، ولذلك، تبدو الطفرة في العرض والطلب ظاهرة بشكل بارز، لاسيما لجهة ازدياد العاملين في هذا القطاع. وأصبحت مناطق المخالفات الأكثر خصوبة لإنتاج شقق جديدة لم تكن في الحسبان سابقا، والمعني بهذا الكلام هو التشييد السريع في أي مكان متاح، وتحويل "الفراغ" إلى شقة حسب الطلب، أو شقة معروضة حسب الكسوة. وبذلك، تضاعفت أسعار الشقق السكنية في المناطق العشوائية بشكل هائل، حتى أن أحد الزبائن أكد لعاجل أنه عجز عن إيجاد مسكن لائق بسعر 1800000 ليرة، بل أن هذا السعر بعيد جدا عن الواقع علما أن الطلب الذي نزل به إلى سوق العقارات في المناطق العشوائية، لا يعدو سوى الحصول على "أربعة حيطان" مقسمة إلى غرفة وصالون مع المنتفعات الصحية. لكل ساعة ملائكتها تتنافس المناطق العشوائية في تقديم عروضها لزبائن الشقق السكنية، وتبدو جرمانا بريف دمشق الأولى لناحية تقديم العروض المغرية لجهة نوعية الإكساء، موضوع التحقيق، وحالة التنظيم السكني بالرغم من أن أغلبها هي أبنية مخالفة، تسجل ضمن قيود الكاتب بالعدل أو الفراغ بإقرار محكمة.

وتقدم جرمانا عروضا تبدأ من 4.5 مليون ليرة على الأغلب، وتلامس في كثير منها عتبات الـ 12 مليون وصولا إلى 15 مليون وكل ذلك ضمن قيود المخالفات، بحسب طبيعة الإكساء الذي يكون فاخرا للغاية والمعروف بين "Super Delux" و "HiLux"، وأصبحت هنالك صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي للترويج لمثل تلك العروض. لكن الإكساء الفاخر الموجود في جرمانا لا يمكن العثور عليه في مناطق أخرى، تلاقي إلحاح أكبر من جهة الطلب، كما في المزة 86، التي يعتمد الغلاء في أسعار الشقق هناك على الموقع الذي يروج له شيوخ كار الدلالة بأنه "وسط العاصمة".

وفي هذه المنطقة، فإن مبلغ 5 مليون بالكاد يستطيع شراء منزل لائق لكن بكسوة جيدة وليست "Super" بحجة صعوبة إدخال مواد البناء ومن هنا افتتح بازار الإكساء مجده، ووجد من قام بالإكساء على الأسعار القديمة طاقة فرج يستطيع من خلالها جني أرباح عالية. مفارقات سعرية و"طلاسم" لفك المنع وبالحديث عن هذا البازار، تتفاوت أسعار مواد البناء بشكل غير مسبوق بين المنطقتين العشوائيتين ذات الكثافة السكنية الأعلى بالمقارنة مع باقي المناطق.

وتبدو في جرمانا أسعار مواد البناء أرخص بسبب تضاؤل تكاليف النقل طالما أن المعامل متواجدة في المنطقة، وبحسب أحد المهندسين من متعهدي مشاريع عقارية، فقد فإن كيس الإسمنت يبلغ سعره في أغلب المناطق حوالي 1500 ليرة، فيما يبلغ سعره في المزة 86 - 2500 ليرة. أما حجر البلوك، فتباع القطعة بـ 70 ليرة من المعمل بعد أن كان سعرها 6 ليرة قبل الأزمة، وتصل إلى المنطقة المطلوبة بسعر يتراوح بين 90 – 100 ليرة، فيما تباع في الـ 86 بـ 250 ليرة، نعم هذه المضاعفات في الأسعار قائمة حاليا على أرض الواقع. أما كيس الرمل، فيباع في المزة بـ 500 ليرة، بينما في غير مناطق لا يتجاوز سعره الـ 225 ليرة

وبات من المعلوم، أن التفاوت السعري هذا ليس سببه تكاليف النقل، بل تكلفة طريقة وأسلوب إدخال هذه المواد لإن البناء ممنوع في العشوائيات، وطالما أن الممنوع مرغوب، فهذه ثغرة لتحويل الممنوع إلى ممكن. وفيما يصنف حديد البناء و البحص والبلوك والرمل من الممنوعات بشكل متشدد، أصبحت هذه المواد الحجة الأكبر في رفع سعر المنزل أو الشقة إلى مستويات خيالية، خصوصا أن طريقة أدخالها بـ "طلاسم" فك المنع أصبحت الموضوع الأكثر تداولا على طاولة البازار عند التفاوض على سعر البيع. ولا صفر ع الشمال لا تلاحظ المفارقات السعرية في مواد البناء وحسب، بل أنها تظهر في أجرة اليد العاملة حتى، فالعامل الذي يتقاضى مثلا 400 ليرة في جرمانا أو التضامن مثلا على المتر الواحد من مساحة الشقة المطلوب إكسائها، لا يقبل نفس السعر في الـ 86، والحجة جاهزة "هناك غير هناك!". ولذلك، فقد يسجل سعر إكساء المتر المربع في المزة أسعار تبدأ من 50 ليرة للكسوة العادية والجيدة، فيما تصل "Super Delux" إلى 150 ألف ليرة للمتر المربع.

بينما لا توجد تلك الأسعار في منطقة التضامن مثلا، والتي يمكن تجهيز كسوة "Super" فيها بتكلفة 25 ألف ليرة إلى 30 ألف ليرة ويتقارب هذا السعر مع جرمانا التي تزيد بفوارق غير متسعة كثيرا. من فوق الأساطيح وفيما يبقى الزبون هو الأكثر معاناة، إلا أن ما يواسيه حقا هو أن العقار لا يخسر، والعرف الشائع في السوق هو أن البائع خسران والمشتري هو الرابح ولو بشكل مؤجل، لأن الأسعار لا تزال في تصاعد. لكن "العترة على من يريد السترة"، والذي يحاول تأمين مسكن لائق بمبلغ تمكن من "تجميعه" ليصطدم بالمنغصات التي تتجلى معظمها، في العوائق والمنع من البناء والتشييد دون إيجاد طرق بديلة كحلول للإسكان، لتصبح القوانين بمثابة حافز، لاختراع وإبداع "طلاسم" تمرير المواد "من تحت لتحت" أو عبر طرق تمر من فوق الأساطيح بعد الاستعانة ببساط ريح البرطيل، ما يزيد من فوضى البناء في العشوائيات، ويبقى حلم السكن في المناطق المنظمة حكرا على من كان "عظمه من ذهب" سواء أكان "شري أم كري"، أي شراء أو إيجار.

سيريا ديلي نيوز


التعليقات