رضي السوريون بالفساد «مكرهين»، وتعاملوا معه باستسلام شديد، ولا سيما ذلك المرتبط بالحرب والعنف. لكن يبدو أن الفساد «لم يرضَ» بالسوريين، إذ إن كل التوقعات والتقديرات البحثية تشير إلى أن معظم الثروات التي يراكمها الفساد سرعان ما تجد طريقها نحو الخارج باعتباره الخيار الأسلم على المدى البعيد
على أعتاب الأيام الأولى للأزمة، كان الاقتصادي الشيوعي قدري جميل يقدّر حجم الفساد في سوريا بما يراوح ما بين 20 إلى 40% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، أي ما يقرب من 800 مليار ليرة وفقاً للناتج المحلي الإجمالي في عام 2010، فيما كانت البيانات الإحصائية الرسمية تشير إلى اكتشاف فساد في مؤسسات الدولة بقيمة تصل إلى نحو 5 مليارات ليرة في عام واحد.
ومن المؤكد أن جميل، الذي تسلم لاحقاً منصب نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية، أعاد حساباته وتقديراته تلك في ضوء ما أفرزته الحرب من أوضاع ساعدت أكثر على انتشار الفساد والاستثمار في العنف، وليس أدل على ذلك من ظهور طبقة طفيلية أخذت تتصدر تدريجاً واجهة النشاط الاقتصادي الريعي في البلاد، وتشكل ثروات هائلة لا يزال مصيرها «الاستثماري» غامضاً. هل هي موجودة داخل البلاد؟ أم فضّلت البحث عن مجالات استثمار في دول أخرى؟
يفضل أثرياء الفساد عادة استثمار أموالهم بعيداً عن الأعين، إما باقتناء كميات من الذهب على شكل مصوغات أو سبائك أو ذهب خام، أو شراء عقارات وأراضٍ في مناطق مختلفة، والخيار الثالث يكمن في إخراجها من البلاد واستثمارها في دول أخرى بغية إخفاء مصدرها، وتحسباً من تطورات مفاجئة، ولا سيما في أوقات الحروب والنزاعات.
في الحالة السورية لا تتوافر مؤشرات إحصائية أو أدلة حسية تحسم أياً من القنوات اختار أثرياء الفساد ضخّ أموالهم من خلالها، إذ بحسب رئيس جمعية الصاغة في دمشق، غسان جزماتي، تراوح كميات الذهب المبيعة يومياً «ما بين 2.5 إلى 3 كيلوغرامات»، مشيراً لـ«الأخبار» إلى أنه «في ظل المخاوف من اقتناء الدولار، أصبح كثير من العائلات السورية تفضل اليوم استبدال مدخراتها المالية بليرات ذهبية»، الأمر الذي يؤكد أن توجه أثرياء الحرب لشراء الذهب النظامي كان محدوداً، إذ اقتصر أحياناً على بعض صغار فاسدي المرحلة. وعلى ذلك فإن المنافسة على ثروات الفساد المتراكمة بقيت محصورة بين خيارين: إما التوجه نحو العقارات وشراء الأراضي، أو إخراجها من البلاد واستثمارها في دول أخرى.
رأسمالية «المحاسيب»
في قطاع العقارات، ورغم ما تعرض من تدمير تقدّره البيانات غير الرسمية خلال سنوات الحرب بأكثر من مليوني مسكن، فإن حركة البيع والشراء فيه لم تتوقف، وإن كانت متباينة بين منطقة وأخرى تبعاً لقربها أو بعدها عن جبهات القتال، لا بل إن أسعار العقارات في كثير من المحافظات والمدن «الآمنة» شهدت ارتفاعات غير مسبوقة، متأثرة بسعر صرف الليرة وزيادة الطلب المتأتي من المواطنين النازحين عن منازلهم، وهذا يظهر بوضوح في جانب الإيجار، والمتأتي أيضاً من بعض شبكات الفساد والسمسرة بهدف ادخار أموالها في أصول عقارية أو المتاجرة بها.
تراوح كميات الذهب المبيعة يومياً «ما بين 2.5 إلى 3 كيلوغرامات»
وبحسب ما يؤكده «المركز السوري لبحوث السياسات» في تقريره «العنف والاغتراب»، «سبّب استمرار النزاع المسلّح في تدمير جزء كبير من الممتلكات العقارية، بما فيها المنازل والممتلكات التجارية. وقد أجبر هذا الأمر العديد من العائلات على استئجار المنازل في مناطق آمنة نسبياً، حيث ارتفعت تكاليف الإيجار ارتفاعاً كبيراً، حيث إن الطلب يفوق العرض كثيراً. إضافة إلى ذلك، لجأ الأشخاص المنضوون ضمن إطار رأسمالية المحاسيب، إلى شراء الأراضي والمباني المدمّرة بأسعار زهيدة، بالتنسيق مع قوى التسلّط المنخرطة في النزاع المسلّح، مستغلّين حاجة الناس إلى مواصلة حياتهم، إذ عادة ما يُعاد بيع هذه الاستثمارات بسرعة وبأسعار أعلى. ويشكّل هذا النوع من التكسب من الحرب نمطاً تتلاقى فيه مصالح هؤلاء الأشخاص المنضوين ضمن إطار رأسمالية المحاسيب مع مصالح من يعملون ضد الشعب السوري».
لكن هناك من يرى أن ما يستقبله قطاع العقارات من أموال فساد الحرب يبقى قليلاً مقارنة بالحجم الهائل لهذه الأموال. ففي إجابته عن سؤال «الأخبار»، يفضل وزير الصناعة السابق والأستاذ في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، الدكتور حسين القاضي، تحليل الموضوع بمنطق، فيشير إلى أن «الاستثمار لا وطن له، وهو دون شك يبحث عن بيئة تمكنه من الحصول على أعلى ربح ممكن بأقل مخاطرة، وهذا بغض النظر عن مصدر الأموال، وكيفية تجاوزها لجدران الرقابة وغسيل الأموال». ويضيف أنه «بناءً على ذلك، فإن الاستثمار في سوريا يواجه حالياً مخاطر أمنية، تتمثل في تعرض الأصول العينية كالمباني والإنشاءات لخطر التدمير، وتعرض المنتجات للخطر أثناء عمليات الإنتاج، والأكثر خطورة يحدث أثناء عمليات نقل الإنتاج السلعي من مكان الإنتاج إلى مكان الاستهلاك، وهذا بدوره أسهم في تراجع كميات الإنتاج المحلي وزيادة الطلب على الاستيراد، لتكون النتيجة إضعاف القوة الشرائية للعملة المحلية ورفع أسعار الصرف للعملات الصعبة، وبالتالي رفع أسعار السلع الاستهلاكية، وجعل تكاليف البقاء على الحياة أكثر صعوبة»، ليخلص القاضي في مقاربته إلى القول «إن الأموال المتراكمة من طريق الفساد أو غيره ستبحث عن طريق للتخلص من العملة المحلية واستبدال عملات أكثر أماناً كالدولار الأميركي، وبذلك تخرج من التداول المحلي، وسرعان ما تبحث عن فرص أخرى في الخارج».
وهذه هي النتيجة نفسها التي يخرج بها الاستشاري الدكتور سعد بساطة، إذ يشير إلى أنه «خلال السنوات الخمس السابقة تكونت مليارات لا يحصيها إلا الخالق، تراكمت بفعل رفع الأسعار عشوائياً، وابتزاز المواطن للحصول على احتياجاته الضرورية، إضافة إلى الصفقات المشبوهة بين تجار باعوا ضمائرهم لبعض المسؤولين الفاسدين، الذين يودون الحصول عـلى شفطة أخيرة من مكاسب مشبوهة، قبل أن تعود الدولة إلى ممارسة دورها التوعوي والرقابي».
هؤلاء الأثرياء، الذين هم ببساطة أخطر على الدولة من حملة السلاح والفكر الإرهابي، «يحتفظون بالحد الأدنى من أرباحهم في البلاد لتأمين دورة رأس المال، وشراء ما يمكن الحصول عليه ضمن ظروف الحرق والدمار بأبخس الأسعـار، لكنهم من باب الاحتياط، يقومون بتحويلات مالية (فوق الطاولة ومن تحتها) للخارج أول بأول، عسى ان تتيح لهم ملاذاً آمناً فيما لو فكرت الدولة يوماً ما بالمحاسبة، والاستعلام من أين تكوّنت تلك الثروات الملوّثة».
يوسّع الباحث هاني الخوري دائرة الخيارات التي يلجأ إليها أصحاب الثروات الجديدة، فمن «العمل التجاري إلى ارتياد الملاهي، إلى شراء العقارات، فالاستيلاء على اسطول سيارات إلى تهريب الأموال، والعمل على تكديسها بالبنوك أو تحويلها إلى سبائك ذهبية أو سيولة بالعملات الاجنبية، ولا سيما الدولار واليورو، ويبدو فعلاً أن أصحاب هذه الثروات مبدعون بتنميتها بطرق غير قانونية، لكنهم لا يعرفون كثيراً كيف يبيضونها أو يحولونها للتنمية في مجالات شرعية»، متسائلاً: «لكن ما هي مصادر هذه الثروات؟ وهل يمكن ان تكون بمثل هذا الحجم؟».
وما يدعم فرضية خروج ثروات الفساد المتشكلة خلال سنوات الحرب، أن البيانات الإحصائية الرسمية المتعلقة بالاستثمارات العربية البينية لا ترصد سوى أرقام قليلة جداً من الاستثمارات التي خرجت من سوريا وتوجهت نحو دول عربية، فيما الواقع يؤكد أن هناك دولاً عربية وأجنبية كثيرة استقبلت مئات الملايين من دولارات السوريين، جزء منها ظهر في المصارف والخدمات المالية، وجزء آخر توجه نحو العقارات والأنشطة الريعية غير الإنتاجية. يطرح الباحث الخوري سؤالاً يتعلق بمستقبل أصحاب هذه الأموال وموقف المجتمع منهم، فيقول: «هل سنفاجئ بجيل جديد من أصحاب الثروة، خصوصاً اذا ما نظرنا إلى مجموعات مسلحة نالت تمويلاً كبيراً من الخارج، وجرى تداول أموالها بطرق مختلفة وبنقص القدرة الشرائية لليرة صارت هذه الثروات ذات قيمة أكبر وجاءت بغير تعب تماماً، لكنها يمكن أن تشكل مادة خام لشراء العقارات بعد الأزمة أو تمويل التنمية القادمة، وما هي الأخلاقيات التي سيجسدها أصحاب هذه الثروات الوسخة في المجتمع، أم أن المال يجعل صاحبه مقبولاً في المجتمع، ما دام يدفع ويمول الناس واحتياجاتهم، أو يتصدق من هذا المال الحرام أو يظهر قدرته على البذخ».
الأخبار اللبنانية - زياد غصن
سيريا ديلي نيوز
2015-11-04 06:03:09