ازدهرت في سورية حضارات ما قبل التاريخ وحضارات ماري و أوغاريت و إيبلا وقطْنا وغيرها من المدن والممالك والمواقع السورية التي تنتمي إلى كافة العصور التاريخية، والتي تأتي كل يوم بجديد، وأضحت سورية بذلك محط أنظار علماء التاريخ والآثار واللغويات لما أبدته الأرض السورية من معطيات غيّرت الكثير من معتقدات البشر حول تاريخ الحضارات الإنسانية في كل العصور التــاريخيـــــة التي عرفتها البشرية، ذلك أن الأرض السورية قد احتضنت شواهد غاية في الأهمية عن كل عصر جعلتها محطة التقاء الباحثين من أنحاء المعمورة لدراسة هذه الحقيقة السورية الفريدة التي لخّصها العلماء بأكثر من عبارة، فكانت بمثابة الدعوات لزيارة سورية كبلد يحقق شروط الرغبات العلمية والسياحية، ورغبات الدعم المختلفة في مجال التراث...

والموضوع الملحّ الآن هو حماية جلّ المناطق الأثرية والمتاحف والقطع الأثرية السورية من عمليات التدمير والتخريب والنهب التي تلحق بها جراء استهدافها الممنهج من قبل العصابات الإرهابية الصهيونية ودونما إجراءات حماية فعلية من قبل منظمة اليونسكو التي لم تلح –على الأقل- على تطبيق اتفاقية "لاهاي" (14/5/1954) المتعلقة بحماية الممتلكات الثقافية في حالة الحرب، أو تطبيق اتفاقيتها هي –أي اليونسكو-في 16/11/1972 والتي أُقرّت في 13/8/1975 والمتعلقة بحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي.

وفي خطوة إعلامية أعلنت المديرية العامة للآثار والمتاحف خلال الأزمة طلب المساعدة من المنظمات الثقافية الدولية مثل منظمة  اليونسكو و  الإيكروم ، الإيكوموس ، الإيكوم (المجلس الدولي للمتاحف/فرنسا) التي لم يقم أي منها بفعل شيء ينقذ آثارنا، وما شهدناه كان بخصوص تنظيم دورات تدريبية و(إسعافية!) مموّلة، وذلك في دمشق وبيروت  بهدف (تدريب كوادر وطنية على أساليب وتقنيات حماية التراث الثقافي في حالات الخطر، وتخصيص تلك الكوادر -المنتقاة بمكيال شخصي- بمبالغ لقاء تدرّبها!).وذلك لم يأت بنتائج تُذكر على صعيد حماية الآثار السورية نظراً لكون الآثار السورية ضمن أجندة سياسية لتلك الجهات الأجنبية، كون معظمها من الدول المشاركة في العدوان على سورية قبل الأزمة وخلالها... ومنظمة اليونسكو التي يفترض أنها ضد احتلال المواقع الأثرية وتخريبها، لم تبدِ أية ردود فعل غير كلامية ضد العصابات الإرهابية، كما لم توجه اليونسكو أي إنذار إلى الدول الداعمة للإرهاب الموجّه ضد سورية وتراثها، فتم الاعتداء على مدن ومواقع أثرية سورية عدة وتدمير بعضها تدميراً كاملاً، وسرقة ونهب وتهريب آلاف القطع الأثرية إلى خارج الحدود بهدف إفراغ سورية من عناصر حضارتها القديمة، ومحاولة رسم خارطتها الأثرية بما يتناسب مع مخطط عدواني تقسيمي للبلاد...الأمر الذي بات يتطلّب تدخلاً جادّاً من قبل الدول الصديقة الشقيقة الحليفة لسورية وعلى رأسها روسيا، فلدى روسيا قدرات هائلة في علم الآثار وفيها جامعات ومعاهد ومدارس أثرية مشهود لها في العالم، ولعل أكاديمية الشرق القديم في موسكو وفي سان بطرسبورغ (لينينغراد) ومتحف الأرميتاج خير مثال على ذلك، وتُسجّل لتلك المدرسة الروسية (السوفييتية) في العقود السابقة أهم الدراسات الخاصة بتاريخ الشرق القديم وآثاره، وتاريخ العصور القديمة والوسطى والحديثة والمعاصرة...هذا فضلاً عن النزاهة التي تتمتع بها المدرسة الروسية، وبُعدها عن "الإيديولوجيات" الخطيرة التي تميّز عمل المدارس الغربية في تعاطيها مع موضوع الآثار السورية.

وحسب استطلاعات آراء بعض المختصين في الآثار، فإن الاعتماد على القدرات والإمكانيات العلمية الروسية في مجال علم الآثار وحمايتها وترميمها لاحقاً، يحظى بثقة أولئك الباحثين، ومنهم د.إبراهيم خلايلي المختص بتاريخ الشرق القديم وآثاره والذي أبدى أسفه لانعدام فرص عمل المدرسة الروسية الأثرية في مواقعنا الأثرية سابقاً أمام حشود البعثات الغربية (مئات البعثات الأثرية الغربية مقابل بعثة روسية واحدة فقط كانت تعمل في تل خزنة بمدينة الحسكة)، الأمر الذي ترك الحبل على الغارب لبعض الحشود المذكورة في احتكار العمل بمواقعنا الأثرية والتصرّف بالمعطيات دونما نزاهة علمية، بينما –يتابع د.خلايلي- أن المدرسة الروسية –السوفييتية سابقاً- تتمتع بالنزاهة والعلمية والغنى المعرفيّ، ولا يمكن للباحث في تاريخ الشرق القديم إلا وأن يعود إلى دراسات العلماء الروس، فهم من الأوائل في العالم في مجال الدراسات الجيولوجية والجيومورفولوجية والأنثروبولوجية والتاريخية والأثرية، ونذكر هنا أبحاث كل من "توارييف" و"غولايف" و"كلوتشكوف" وآخرين، حيث لا يستطيع الباحث –على سبيل المثال- استيعاب نشأة المدن الأولى في بلاد الرافدين وسورية القديمة دون العودة إلى دراسات وأبحاث العلماء الروس المذكورين الذين يسجّل لهم علم الآثار دوراً بالغ الأهمية في دراسات المدن والمدنيات التي انتشرت على ضفاف الفرات ودجلة والخابور...هذا فضلاً عن خبرة الروس في إعادة بناء المدن التراثية والترميم...

ومنذ بداية الفترة السوفييتية مطلع القرن العشرين، فقد توجهت الحركة الاستشراقية السوفييتية إلى تراث العرب الفكري بمختلف أشكاله على أساس مادي تاريخي من حيث المنهج...

وكانت الصلات بين العرب والروس قد بدأت منذ العصر العباسي الأول، وتبعتها صلات أخرى عن طريق الحجاج الروس إلى بيت المقدس والذين دوّنوا مشاهداتهم في رحلات الحج...

وفي إطار استشارتنا للباحثين بخصوص الإمكانيات الروسية في مجال حماية الآثار وتوثيقها، أكّد لنا الخبير المعلوماتي الأستاذ "فيكن عباجيان" –مؤسس برامج التوثيق المعلوماتي التي تمت عرقلتها في الآثار والمتاحف سابقاً- أكّد ضرورة الاستفادة من الخبرات الروسية في هذا المجال، تلك الخبرات التي لا يمكن الحديث عنها باختصار، وهي قبل أن تكون خبرة إنما هي ميزة يتمتع بها الروس منذ زمن طويل، وإذا عدنا إلى محاولة غزو "نابوليون بونابرت" لروسيا، فإننا نرى الروس –وبكل إخلاص وحميمية وتعلّق بتراثهم- قد لجأوا إلى حماية أهم قطع تراثهم بإخفائها تحت مياه البحيرات حفاظاً عليها من أضرار محتملة نتيجة الغزو الخارجي، هذا فضلاً عن دور متحف الأرميتاج –الذي يضم بين أجنحته جناحاً لفنون الشرق القديم- حيث أن تجربته في التوثيق الأثري إبان الحرب العالمية الثانية، إنما هي تجربة يجب أن تدرس بتعمّق، وبالتأكيد فما وصلت إليه الآن مدرسة التوثيق الروسية هو جدير بالاطلاع والاستفادة منه لحماية آثارنا ومعطياتنا في هذا الوقت.

وختاماً، فإن الضربات الجوية الروسية المباركة ضد الإرهاب في سورية إنما بدأت من حيث انتهى أعداء سورية من وضع لمساتهم الشيطانية الأخيرة على مخطط تفتيت سورية انطلاقاً من الشمال والشمال الشرقي السوري، تلك المنطقة التي فصم عراها وعوامل وحدتها التاريخية أعداء سورية من بعض علماء الآثار الغربيين، فبات تصعيد التصدي لهم ولطروحاتهم الخطيرة أمراً لا مناص منه إلى جانب التصدي للإرهاب في الوقت الذي صادق فيه بعض مسؤولي الآثار والمتاحف على ما حذفه الغرب من حضارتنا!

سيريا ديلي نيوز-سليمان أمين


التعليقات