لا يهم عدد ليرات الأجر الذي يحوز عليه العامل، ما يهم تحديداً هو قدرة الأجر على تغطية احتياجاته المعيشية وضرورات الحياة الكريمة لأسرته، وبما أن الأجر يرتفع كرقم عددي و ينخفض بأضعاف مضاعفة كقيمة شرائية، فقد عجز عن أداء دوره وأصبح رقما حيادياً في معادلة (فلافل، مسبحة، خبز).جر الذي يقبضه بشكل مباشر ونقدي، ولكن هناك أجر آخر غير مباشر يحصل عليه العامل من الدولة عبر دعمها لمواد أساسية (الخبز، المحروقات، السكر، الكهرباء الدواء...الخ)، وكذلك من خلال تأمينها للتعليم المجاني والطبابة والنقل العام الشعبي، فماذا سيحصل ان تآكلت الاجور المباشرة وفقدت قيمتها، بالتوازي مع تراجع مستمر ومتتالي ومتسارع لدور الحكومة، فأجهزت على آخر ليرات (الأجر غير المباشر)، الدعم الحكومي؟ وأي تكيف وتدبير سيكون قادراً على منع الأسر العمالية من الانحدار أكثر وأكثر في هاوية الفقر المدقع؟ إن هذا ما حصل فعلاً وهذا ما هو مستمر في الحصول، فمن لم يمت مقتولاً أو محاصراً أو غريقا في بحر الهجرة، لا محال سيسقط جوعاً، فلم تعد مهارات التدبير والتوفير تجدي نفعاً، ولم تعد (المجدرة) المطبوخة بزيت القلي ولا الفلافل ولا (الفتَات) بالخبز اليابس، مواداً متوفرة للشغيلة وأسرهم، وبالمقابل فالحجج الحكومية جاهزة وحيتان الفساد يزدادون فساداً وثراءً وأرباب العمل المستفيدين من سياسات الحكومة الاقتصادية، لن يوفروا أي فرصة تزيد من أرباحهم .
ضرورة الادخار.. حرمان دائم
يجد العمال أنفسهم مضطرين لتبني وممارسة سياسة الادخار، ليستطيعوا تخطي محطات أساسية في مسيرة حياتهم الشاقة، مجبرين على التنازل عن أي مصروف خارج الضرورات القصوى، فارضين على أنفسهم سنوات لا تنتهي من الحرمان والعيش البسيط، فالفتى العامل ما إن يدخل لسوق العمل ويبدا بتقاضي أجره الأول، صغر أم كبر، حتى يبدأ بالادخار من أجره، كما تعلم من أسرته التي على الارجح عمالية، فالمحطة الأولى التي تنتظره، أي الخدمة الالزامية، تحتاج للكثير من المال الذي لن تستطيع عائلته تأمينها له، فراتب الجندية لن يغطي كامل مصروفه كما هو معروف فيصرف ما ادخره، وبعد انتهاءه من واجبه الوطني، يعود لعمله وقد ازداد عمراً وقوة، وبالتالي سيحصل على أجر أعلى، عندها يعود للادخار كونه أصبح شاباً وهو بحاجة لشراء منزل في ضاحية ما أو عشوائية أو مخالفة، وإن حالفه الحظ فسيبني شقته الخاصة فوق منزل والديه في أطراف المدن أو أريافها، فيضع كل ما استطاع ادخاره ليؤمن سقفاً يحميه ويجعله قادراً على طلب بنت الحلال لتبدأ مرحلة أخرى من الادخار الاجباري، فتكاليف الزواج لا ترحم (بدها هز كتاف)، وهكذا لا تنتهي مرحلة حتى يبدأ بأخرى، وصولا لادخار ثمن القبر الذي سيدفن فيه، فلا حل آخر أمامه سوى اقتطاع ما يستطيع من أجره و(تصميده)، دون المساس بالحد الأدنى لمعيشته، وتختلف صعوبة تحقيق ذلك باختلاف السياسات الاقتصادية المعمول بها، ففي مرحلة الثمانينيات كانت الصعوبة أقل من الفترة التي تلتها، لتشتد بشكل أكبر بعد اقرار السياسات الاقتصادية الليبرالية مطلع الألفية الحالية، و التي أجهزت على آخر أحلام الادخار، مستبدلة ذلك بالوقوع في كمين التقسيط والقروض، ولم تعد تجدي محاولات الادخار نفعاً ففي ظل تلك السياسات من يستطيع بأجره أن يؤمن الحد الأدنى من الضرورات (فأبو زيد خاله)، وما إن تفجرت الأزمة واستمرت الحكومة بسياسة إفقار أصحاب الأجور، من خلال اصرارها على نفس السياسات الاقتصادية الليبرالية، التي كانت هي بحد ذاتها من العوامل الاساسية لتفجر الأزمة، إن لم تكن العامل الأكبر، حتى شهد الوضع المعيشي للعامل تدهوراً متسارعاً، فالأجور فقدت من قيمتها الشرائية، والحكومة ترفع آخر ليرات الدعم عن المواد الأساسية، ورب العمل يقتنص ما يستطيع من تعب عماله وليراتهم الشحيحة، لتنتهي سياسة العامل المبنية على حرمان نفسه من أجل الادخار، وتبدا مرحلة البقاء على قيد الحياة، فمتوسط الأجور لا يطعم عائلة واحدة فلافل أو فول على مدار الشهر.
لقد كانت مقولة (دع الأغنياء يغتنون فهم قاطرة النمو)، التي أطلقتها الحكومة في عام 2005، هي الدلالة الواضحة لما ستصل إليه حال الطبقة العاملة، فلن يغتني الأغنياء إلا بسرقة عرق العمال والكادحين، الذين ينتجون الثروة، ولن تنتهي مأساة العمال إلا بإسقاط هذه المقولة وهذه السياسات، ولم يعد يملك العامل ما يستحق السرقة، إلا إذا أحبت الحكومة أخذ لقمة الخبز الحاف الأخيرة من فم العامل، فقرص الفلافل الأخير قد أخذه رب العمل.
سيريا ديلي نيوز
2015-10-21 20:29:32