عبثاً، يحاول وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية همام الجزائري، تفسير التراجع الحاد والعميق في قيمة الليرة، وتهاوي أسعار صرفها، أمام العملات الأجنبية. فما ذكره في لقائه مع الإعلاميين، في 2 أيلول الجاري، ينطبق عليه المأثور الشعبي (وفسّر الماء بعد الجهد بالماء)، إذ إنه للمرة الثانية في غضون ستة أشهر يقدم تفسيراً لوضع أسعار الصرف، غير علمي، وبعيد عن الموضوعية، وفيه الكثير من عدم المصداقية لدرجة محاكاته الغيب، وافتقاده لما يمثله الجزائري من موقع للمسؤولية بصفته وزيراً، فضلاً عن كونه مدرساً في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق من المفترض أن يفسر الظاهرة بما تتطلبه من صرامة علمية، وجدية أكاديمية، وموقف موضوعي لا يحتمل التأويل.

 يرى وزير الاقتصاد أن هجرة السوريين، الذين يكلف الواحد منهم نحو سبعة آلاف دولار، سبب في تدهور أسعار الصرف، وزيادة الطلب على القطع الأجنبي، مقدراً قيمة هذا الطلب في الفترة الماضية بنحو 420 مليون دولار.وكان الوزير ذاته فسر بشكل مخالف للمنطق، وبما لايقبله عقل، في شباط الماضي، وفي لقاء مع الزميلة (الثورة)، أسباب مشكلة سعر الصرف باستيراد القطاع الخاص للمازوت، فيما المبلغ الكلي آنذاك لم يتعد 15 مليون دولار.

هذا الموقف، يثير لدينا التساؤل حول: ما المدرسة الأكاديمية التي استند إليها وزير الاقتصاد في تفسيره للمشكلة؟ وكيف يزج بقضية إنسانية من الدرجة الأولى وهي هجرة الهاربين من نيران القتل وغياب الخدمات، والساعين لمستقبل أفضل، في قضية نقدية بحتة؟ وهل الوزير الجزائري يُعلِّم طلابه في جامعة دمشق هذه النظرية الجديدة في علم النقد؟ حقاً، إنها براءة اختراع جديدة، وفتح علمي مثير للدهشة، أن يرمي وزير كرة الثلج المتدحرجة، في ملعب من لا ذنب لهم، ويضع بذمتهم مسؤولية لا علاقة لهم بها، ويحمّلهم عبئاً ثقيلاً جداً في وقت لا طاقة لهم لحمل شيء آخر، نظراً لأزمتهم المعقدة والمركبة، ووضعهم الإنساني الذي يثير الشفقة. ها هي ذي المصيبة بعينها، أن تتفتق عبقرية وزير الاقتصاد، ويمرّر من حيث يدري ويشاء، كلاماً لا يمكن القبول به، وموقفاً يثير السخرية، ويكون محط تندّر. إذ بدلاً من أن يعتذر الجزائري من هذه الشريحة التي تهاجر، ويتساءل عن أسباب فقدان البلاد لكوادرها وطاقاتها البشرية، وعجز الحكومة الواضح عن تقديم الخدمات الرئيسية لمواطنيها الأبرياء، أو أن يقر بالفشل في إيجاد برامج اجتماعية تحمي الناس من تغول الفقر والعوز، ذهب بعيداً في اللعب على أوتار تحميل المسؤولية للمجهول، ولناس غادروا بعد فقدانهم الأمل، وقناعتهم المطلقة بأن الغرب الامبريالي، والذي يستغل قوة العمل، و يكشر عن أنيابه لحوك المؤامرات الاقتصادية، وامتصاص دماء الشعوب المضطهدة، هو الملاذ الآمن لهم، ولديه الفرص الأفضل لمستقبل بعيد عن العنف والاقصاء والتهميش.

قطعاً، لم يغادر السوريون بملء إرادتهم، فهناك جملة من الأسباب الموضوعية ـ الآنفة الذكر ـ دفعت بهم إلى ركوب الخطر، والمجازفة بأرواحهم، للوصول إلى شاطىء آمن، وأرض لا قتل ولا عنف مسلحاً فيها.  ألا يعلم وزير الاقتصاد، أن قانون العرض والطلب يصلح لقياس كل ظاهرة؟ ألا يدري أن الخسارة الهائلة للناس تتمثل في بيعها ممتلكاتها بأسعار بخسة، وتركها لوطنها، وهي خسارة أعلى بكثير مما تحدث عنه في مجال أثر هؤلاء في تحريك أسعار الصرف؟ ومتى كان سعر الصرف يحركه مغادر من الرمال المتحركة؟

لانجافي الحقيقة، بقولنا، إن ضعف إدارة الملف النقدي، وتوقف الإنتاج، يتصدر أسباب التراجع الكبير في أسعار الصرف، وتدني قيمة الليرة.ها هو ذا الواقع الذي تحاول الحكومة الهروب منه، وغرس قناعة أخرى، بعيدة عن المنطق، تتعلق بزيادة الطلب على القطع الأجنبي، تارة من التجار والمضاربين، وتارة أخرى استناداً إلى غريزة القطيع المعروفة في هذا المجال، وتارة ثالثة بالهوامير ومواقع التواصل الاجتماعي المتهمة بأنها تضع أسعاراً وهمية لليرة مقابل القطع الأجنبي، فيما مصرف سورية المركزي يلهث خلف هذه الأسعار. فعقب 54 شهراً متتالياً من الحرب الطاحنة في البلاد، وما لحق بالاقتصاد من دمار، وتخريب، ونهب وسلب، وتوقف عجلة الإنتاج، وفقدان الموارد، من الطبيعي أن تتصدر الآثار السلبية لمجمل هذه الحالة الواقع، وأن تزيد الضغوط على الليرة، وترتفع معدلات التضخم إلى ثلاث خانات، وتسجل البطالة أرقاماً غير مسبوقة، وكذا الفقر والجوع والعوز. فلا يوجد مؤشرات اقتصادية إيجابية، يمكن الحديث عنها، ولا توجد إرادة حكومية لتحسين الواقع الصعب، أو بث الأمل في المستقبل المظلم في عيون الناس. فالمشكلة الحقيقية الآن، ليست في السعر الحقيقي لليرة أمام العملات الأجنبية، بل في محاولات تحديد سعر غير منطقي، لا يمكن الدفاع عنه بالأدوات الاقتصادية والنقدية المتفق عليها، ليبرز من جديد دور التسعير غير الحقيقي، والذي لايعبر عن قيمة الليرة الفعلية، بدليل وجود هامش بين سعري الصرف النظامي والآخر في السوق السوداء.

وفي عود على بدء، من المجدي الدفاع عن الليرة، ومن الضروري التساؤل عن التحصينات التي بنتها الحكومة والفريق الاقتصادي لحماية الليرة؟ أما سماع آراء تفسر سعر الصرف، من الذين لم يتخلوا حتى الآن عن شرب السيجار الفاخر، وركوب الليكزس، وارتداء الياقات البيضاء، والجلوس في مكاتب وثيرة، بينما الواقع بتعقيداته، وعمق أزمته، ومخاطرها، غائبة عنهم، هي محاولة بائسة لحجب الشمس بغربال، وفي أفضل الأحوال رؤية الجزء الظاهر من جبل الجليد المغمور تحت المياه.

 

سيريا ديلي نيوز - جريدة النور

التعليقات