حول الفساد بعض الدوائر الحكومية كالسجل المدني في مدينة حلب إلى مصيدة لابتزاز المواطنين، مفسحاً المجال أمام السماسرة وبعض موظفيها لتقاضي الرشوة، لقاء الخدمات المقدمة للمواطنين، لتبلغ أرقاماً مخيفةً، وهنا الحديث ليس عن شكوى مواطن هنا أو هناك، فقد أصبحت واقعاً يعلمه الشارع الحلبي، ويعرف دهاليزه والقائمين عليه ومفاتيح تلك الأبواب التي تقرع عند الحاجة إليها لمثل هذه المسائل.
فحالة العطالة الظاهرية التي تبدو عليها مكاتب السجل المدني أمام أي مواطن تفسح المجال أمام السماسرة لإغلاق الأبواب، وسدها أمام أي مواطن، ومن ثم فتحها إن كان «الزبون دِفّيعاً» ما جعله فساداً وقحاً فجاً لا يلقى أدنى ردع أو مساءلة، مما يطرح سؤالاً مهماً عن الشبكة الداخلية للمؤسسات، والتي تفتح فجأة أمام السماسرة، فالأمر لا يحتاج لشهود أو متهمين أو أدلة فكل شيء علني وفي وضح النهار.
يسرد المواطن أمين، لقاسيون معاناته مع هذه الدوائر منذ ثلاث سنوات لاستخراج هوية شخصية بدلاً من القديمة، ليضيع في دوامة المراجعات المتكررة، دون جدوى، والمصيبة أن التجوال بدون هوية وخاصة في الظرف الأمني التي تعيشه المدينة، فيقول:
«كانت بالبداية مصيبتي في ضياعها أما اليوم كارثتي في إثبات شخصيتي، وضمان عدم اعتقالي لأي سبب أو اشتباه».
أما عن المعاناة فيسترسل «الانتظار بدون أمل دفعني لدفع الأموال للسماسرة من أجل الوصول للموظف المسؤول عن هذا الموضوع ورغم ذلك مازالت تتكرر جملة: «رجاع بعد أسبوع».
فاهر شاب في السابعة عشر من عمره، للآن لم يستلم بطاقته الشخصية بسبب الروتين الفاسد غير المبرر من قبل بعض الموظفين فقد تقدم لاستخراجها منذ عامين ونيف دون جدوى منتظراً «الفرج» الذي أصبح هو الآخر متواطئاً فلا ينزل على المواطن المغلوب على أمره، إلا حين الدفع، وقصة فاهر هي نموذج عن معاناة العديد من الشبان الذين في عمره وينتظرون إلى أن يحين دورهم في استلام بطاقاتهم الشخصية.
فساد علني
تعقيد المعاملة أو بساطتها لا يثني الفساد أو يردعه عن التوحش فحتى إخراج القيد كارثة بحد ذاته، فأنت مخير بين أن تسير بالقانون وراء طابور بشري طويل يبدأ من كوة الموظف ولا ينتهي، أو أن تريح نفسك «بنسف القانون بـ 1000 ل.س» فقط وأنت معزز مكرم.
يقول أبو أحمد العالق في الدائرة منذ شهرين لاستخراج بدل ضائع من دفتر العائلة الذي أضاعه بسبب النزوح المتكرر، «كان هناك بعض الحياء أو الخوف على أقل تقدير في السابق بين المرتشين ومن النادر أن ترى من يجاهر بتلقي الرشوة صراحةً، أما اليوم فالموظف هو من يطلب منك الرشوة وإلا «لن يخط حرفاً واحداً بمعاملتك ومع وجود جوقة مسيري المعاملات كل حسب الاختصاص مقابل مبالغ مادية محددة، غدا الأمر أكثر سهولة».
معقبي المعاملات... «ارشي بتمشي»
رغم أن ظاهرة معقبي المعاملات ليست بحديثة لكن اتسعت الظاهرة وتنوعت اختصاصاتها، وانتعشت أكثر فأكثر واتخذت درجات ورتباً، فمهمة معقب المعاملات، تكمن في فرش طريق المعاملات بالصعوبات والعوائق حتى تسد الدنيا بوجه صاحبها، ليعود بالتدريج ويعرض مساعدته مخلصاً المواطن من هذا العبء، وليصبح لكل ورقة تسعيرة معينة، ولا تسلم إلا حين استيفاء المبلغ القابل للزيادة إذا ما شعر الموظف أو معقب المعاملات أنه لم يعد يتماشى مع تكاليف المعيشة، حيث بلغت تكلفة إخراج القيد أو البيان العائلي حوالي 2000 ل.س، فهي صعوبات يعانيها الجميع إلا من يدفع فإن كل هذه العوائق تذلل أمامه وإن كان العائق هو القانون ذاته على مبدأ «ارشي بتمشي».
صريح جداً في لقاء مع أحد مسيري المعاملات ويدعى أبو نزار يقول:
«الأمر مشابه لرفع أجور العمالة وأصحاب المهن الحرة كافة، فبسبب ارتفاع تكاليف المعيشة بفعل الأزمة ارتفعت تكاليف المعاملات الخاصة، «وبالأخص الدسمة منها في الظروف الحالية» ليعود بعد نقاشنا معه حول الفساد والقانون لينفي تجاوزه للقانون بهذا الأمر، قائلاً: «أنا لا أجبر أحداً على دفع النقود فأنا أساعد الناس «لوجه الله»؟ فمهمتي تكمن في توفير المشقة على الزبون في الوقوف والانتظار وما أتقاضاه هو ثمن تعبي، في حين هو يدفع ثمن راحته، فأين يكون التجاوز في ذلك» ما يعكس هامش التلاعب في تعريف الفساد عند هؤلاء والالتباس الذي يقع المواطنين في مصيدته، فهو يبرر عمله نافياً هامش التحايل والالتفاف والنهب.
أمام هذه الأزمة التي تعد إحدى الأزمات الإدارية المستشرية في مؤسسات الدولة وجزءاً من الأزمة البنيوية في جهاز الدولة ونتيجة الترهل الحاصل فيه، وهو ما وضع المواطنين أمام مشكلات جمة عند استخراجهم للأوراق الثبوتية كــ «إخراج قيد، شهادات ولادة، عقود زواج، سندات إقامة، جوازات سفر، ثبوتيات إدارية» ليعزز ذلك انتقال الدوائر الحكومية الخدمية في الريف نحو حلب ما سبب ازدحاماً كبيراً وهو ما اعتبره البعض أحد الأسباب لهذه المشكلة.
في السجل المدني إحدى المواطنات على باب السجل المدني قالت:
«كنت أريد الحصول على إخراج قيد من النفوس، لكن قال لي أحد الموظفين لا يوجد شبكة فأتى نحوي شخص من الغرفة نفسها وقال لي 1000 ل.س سورية وسيكون بيدك خلال دقائق»!؟.
مريم سيدة آتية من ريف حلب الشرقي قالت لقاسيون:
«هم يستغلون جهلنا وأحياناً يعمدون إلى تجهيلنا، أحد الموظفين قال لي لا يوجد شبكة، فقلت له هذا مبلغ علّ الشبكة تعود وأنا ذاهبة ليتصل بي بعد 10 دقائق ليعلمني أن أوراقي جاهزة»!.
الفساد الكبير «صاحب اليد الطولى»
الحديث عن الفساد يضعنا أمام شبكة كبيرة من الفاسدين مترابطة عضوياً ككائن طفيلي له جذور ضاربة في عمق البنية التحتية لمؤسسات الدولة، ويتغذى من جيوب المواطن السوري ما يجعل من الصعوبة القضاء على الفساد الصغير، دون ضرب الفساد الكبير، على المدى البعيد صاحب اليد الطولى في تأمين البيئة الحاضنة لكل أشكال الفساد، والمساهم أيضاً في استشرائه كالسرطان وخاصة مع تقادم الأزمة الوطنية الشاملة، التي ساهمت هي الأخرى بخلق أزمات فتحت الباب على مصراعيه لمجالات نهب جديدة أسالت لعاب الفاسدين.
أمام هذا التعسير باتجاه الفساد، والتغول في التعقيد والروتين، نحن أمام استحقاق مهم فإن كان هناك ضرورة قبل الأزمة لمحاربة هذا الفساد فقد فرض هذا الخيار كضرورة قصوى بعد أن غدت دعوات الإصلاح أو حل مشكلات المواطنين هي حالة نقيضة لمصالح قوى الفساد والتي هي الطرف الفعلي في الأزمة التي تعيشها البلاد على الأقل بسبب ما تتركه ممارساتهم من تزايد منسوب التوتر، والاحتقان الشعبي وفقدان ثقة المواطن بمؤسسات الدولة،وتعمق حالة الاغتراب التي يعيشها..؟!
سيرياديلي نيوز
2015-09-02 14:27:53