يحزم أمتعته ببطء شديد، يخرج قطعة ثياب ليعيد قطعة ثانية. ما الذي سيحمله من في عمر خمسة وعشرين سنة. للحظة بات كل شيء له أهمية حتى ذلك الراديو المعطل منذ سنوات بات جميلاً وله أهمية.

تضع له والدته قطعاً من الثياب الجديدة النظيفة، فيستبدلها بقطعة من ثيابه القديمة التي علقت بها رائحة معطر الغسيل. لا ينبغي عليه أن يحمل الكثير من الأشياء لأنه سيضطر في وقت ما إلى رميها خلفه. رائحة كعك العيد تملأ المكان، لكن العيد بعيد. تسعى الوالدة لتحضير أكبر كمية من الأطعمة المحببة لهذا الفتى الذي سيغادر وربما يعود وربما لا. تمتلئ صالات المغادرين من سورية بالشباب والعائلات. نزيف يستهلك مقدرات هذا البلد من الوجوه والعقول الفتية .

الهاجس الأول

الخروج من دائرة النار بات هاجساً عاماً ودائماً. وبعدها ربك «بيحلها ». رامز جمال شاب في العشرينيات من عمره يدرس هندسة مدنية. يقول: كنت ألوم رفاقي الذين يسافرون خارج البلد، وكنت أرفض السفر، لكن بعد مضي ما يقارب الثلاث سنوات على خروجنا من منزلنا واشتداد الأزمة أمنياً واقتصادياً لم أعد أملك سبيلاً للبقاء حيث بت عبئاً على أهلي الذين يخشون علًي في كل حركة أقوم بها، وبت أحس أني في خطر دائم، لذلك قررت السفر على أمل أن أكمل دراستي في الخارج وأعود عندما تهدأ الأمور في سورية.

الطبيب أحمد الجاسم سيكون رفيق رامز في رحلة سفره إلى ألمانيا. يقول أحمد: أسافر اليوم تاركاً خلفي زوجة وثلاثة أطفال. قرار السفر لم يكن بالأمر السهل، فقدت منزلي وعيادتي واضطررت للعمل بأجور لا توزاي نصف جهدي. ويتابع تعرضت للخطف على أيدي عصابات، وخسرت كل مدخرات عائلتي وأنا أرفض السفر، لكن بعد خمس سنوات من حرب دمرت كل شيء. دمرت الحجر ودمرتنا نحن البشر، لم أعد أجد جدوى من بقائي وأنا أشاهد مستقبل أبنائي يفلت مني. أريد السفر كي أؤمن مستقبل أبنائي حيث نال أكبرهم الشهادة الإعدادية هذا العام، لكني لا أدري إن كان سيحظى بفرصة للدراسة العام القادم وخاصة أننا مررنا بظروف جعلته ينقطع عن المدرسة سنة ونصف السنة.

لا يمكن اعتبار أن سبباً واحداً هو خلف ارتفاع أعداد السوريين المهاجرين . فاستمرار الحرب، وعدم وجود حل في الأفق، وارتفاع منسوب العنف والعمليات العسكرية، تعتبر السبب الرئيس في الهجرة، إلى جانب النزوح المتكرر وعدم وجود مناطق أمنة، وكذلك التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة، وعدم وجود فرص عمل، بل وفقدان الكثير من السوريين أعمالهم ومنشئاتهم وأسباب كثيرة تقف خلف هذه الظاهرة . لكن وبحسب المراقبين فإنا أخطر وجه لهذه الظاهرة هو ارتفاع نسبة الشباب المهاجر من الفئة العمرية بين 16 سنة والأربعين سنة. مما سيؤدي وبحسب المراقبين إلى إفراغ سورية من الشباب الذين طالما تباهت بوجودهم، حيث كانت تمثل هذه الفئة النسبة الأكبر من أعداد السوريين.

لا ينظر السوريون بعين الارتياح لقبول عدد من الدول الأوربية الشباب السوري الوافد إليها. حيث صرحت السويد أن السوريين المهاجرين هم أكثر فئة متعلمة بين الفئات المهاجرة التي تقصد السويد.

رضوان .ع أستاذ جامعي وصل إلى ألمانيا قبل سنة. يقول: تحاول السلطات الألمانية جذب أكبر عدد من الشباب، لأنه خلال السنوات القادمة ستكون بحاجة إلى هذه الفئات من أجل استمرار عجلة الحياة الصناعية فيها.

لم الشمل (ضربة حظ)

الهاجس الأكبر لدى السوريين المهاجرين هو لم شمل عائلاتهم في الخارج . حيث تعتصر العائلة جميع مدخراتها كي تؤمن تكاليف سفر فرد واحد من أفراد العائلة، وغالباً ما يكون الأب هو ذاك الفرد، لننتظر بقية العائلة طلب لم الشمل.

أم جابر فقدت ابنها الطبيب وزوجته وأطفالهم بعد أن غرق قاربهم قبالة الشواطئ الإيطالية. تقول أم جابر: رفض ابني مغادرة سورية دون عائلته وكان مصراً على اصطحاب زوجته والأطفال. ولكن الموت الذي هربوا منه هنا كان في انتظارهم هناك.

تنتظر سماهر عبد الواحد منذ سنة تقريبا قرار المحكمة في فرنسا من أجل لم الشمل مع زوجها الذي هاجر إلى هناك، لكن إلى الآن لم يحصل زوجها على الإقامة وبالتالي لن يكون بمقدوره طلب لم شمل عائلته. تقول سماهر: زوجي كان يعمل في مجال بيع الألبسة، وبعد أن تضررت أعماله وخسرنا الكثير، قرر السفر إلى أوربا على أن يرسل في طلبي والأولاد فيما بعد. لكن السلطات الفرنسية لم تسمح بذلك بعد. وتتابع لم يعد بمقدوري الانتظار أكثر وخاصة أني  مسؤولة عن أربعة أطفال. مضيفة أن بعض الأشخاص نصحوها باستخراج شهادة جامعية مزورة لزوجها وإرسالها له، حيث تقوم السلطات في بعض الدول الأوربية بتسريع طلبات لم الشمل لمن يملكون شهادات ومؤهلات علمية على حساب من لا يحملون هذه الشهادات.

تهجرنا أكثر من مرة!

أجرت أسماء.خ مقابلة لدى سفارة الدنمارك مؤخراً، حيث قام زوجها الذي هاجر قبل ستة أشهر بإرسال طلب شمل ووافقت السلطات على طلبه. أسماء تحمل شهادة الصيدلة وكذلك زوجها. تقول أسماء: تهجرنا أكثر من مرة وفقدنا صيدليتنا التي هي مصدر رزقنا، ولم نعد نملك أي عمل لذلك قررنا السفر لكن مدخراتنا لم تكن تسمح بدفع تكاليف سفر أكثر من شخص .لذلك سافر زوجي واستجابت السلطات الدنماركية لطلب لم الشمل فوراً. وتضيف نحن لم نكن نريد أن نغادر سورية لكن الظروف هي من دفعتنا لذلك.

ظروف اقتصادية

لا ينكر نقيب صيادلة سورية الدكتور محمود حسن الحسن في حديث مع «قاسيون» وجود هجرة في صفوف الصيادلة السوريين، ويقول: إن الظروف الاقتصادية هي السبب الرئيس خلف هجرة الصيادلة السوريين. إلى جانب ظروف أخرى. متابعا لدينا 23532صيدلي مسجل في نقابة صيادلة سورية. يزاول العمل الصيدلي 18596 صيدلي علماً أن ثلاثين بالمائة منهم فقدوا صيدلياتهم التي هي مصدر رزقهم. مضيفاً أننا قادرون على رفد البلد بكوادر متخرجة من كليات الصيدلة، حيث يوجد لدينا أكثر من 3500 خريج جامعي بانتظار فرصة عمل والتدريب في الريف، ويضيف نحن في نقابة الصيادلة حاولنا مساعدة الصيادلة حيث قدمنا 72 مليون ليرة  كمساعدة اجتماعية للصيادلة المتضررين، إضافة إلى صندوق التقاعد والتكافل.

قال نقيب المحاميين السوريين نزار سكيف في حديث «لقاسيون»: أن المحامين السوريين تعرضوا كما بقية السوريين لظروف اجتماعية واقتصادية صعبة دفعت بعدد منهم إلى الهجرة خارج البلد. مضيفاً أنه لا زال يوجد أكثر من خمسة وعشرين ألف محامياً يزاولون عملهم حيث يوجد ثمانية وعشرين ألف محامٍ مسجل لدى النقابة، وفصل أربعة آلاف محامي، وذلك لأسباب عديدة منها: عدم الالتزام بالنظام الداخلي كما قال.

ما العمل!

في ظل الكارثة الإنسانية لم تعد الهجرة خياراً طوعياً، أو حالات فردية محدودة، بل باتت تشكل أحد أهم جوانب الخطر على مستقبل البلاد وبالأخص عندما يتعلق الأمر بفئات وشرائح مهنية وعلمية ليس من السهل تعويضها، وإن كانت نتائجها السلبية المباشرة غير واضحة بشكل كامل حتى الآن، وإذا كان إيقاف هذا النزيف في ظل الوضع الراهن أمراً غير ممكن، فإن الحد منه ممكن بالتأكيد وتحديداً باتباع سياسة اقتصادية أخرى غير سياسة الافقار الناتجه عن اللبرلة الاقتصادية المستمرة، التي تدفع فئات من الشرائح الوسطى يومياً إلى ما دون خط الفقر، بالإضافة إلى معالجة الظواهر الأخرى التي ظهرت وتظهر على هوامش الأزمة، والأهم فتح الباب أمام الحل السياسي الذي يعتبر البوابة الأساسية لحل جميع الملفات الأخرى.  

سيرياديلي نيوز


التعليقات