تنتشر الإعلانات التي تطلب عمالاً للعمل في معامل أو ورشات أو محال تجارية على جدران المدينة، وتتركز هكذا إعلانات، والتي تكون عادة مطبوعة على أوراق على المداخل الرئيسية للضواحي والعشوائيات الموجودة في دمشق وريفها، وهي المناطق التي تعد السكن الطبيعي لأغلب الطبقة العاملة بشقيها العام والخاص.

يستغرب الكثيرون هذه الظاهرة التي تدل بظاهرها على وجود مئات فرص العمل مما يتناقض مع واقع البطالة، ومع الحديث عن المستويات الكبيرة للبطالة التي قدرتها مؤسسات محلية ومنظمات دولية بنسب لا تقل عن 50% من العمالة، وذلك لأكثر الدراسات تفاؤلاً. فما حقيقة هذه الإعلانات؟ وهل حقاً هناك فرص عمل حقيقية؟ وهل هناك نقص بالعمالة لدرجة أن أصحاب العمل ينشرون هذه الإعلانات، وبهذا الكم الكبير نسبياً؟! 

للإجابة على ذلك لا بدّ من الغوص في ماهية هذه الإعلانات، وفهمها كي لا نقع في مطب المقولة التي يتبناها أصحاب المال الوافر، حين يكثر الحديث عن النسبة الهائلة للبطالة وهي أن: (الشغل معبي البلد بس الناس ما بدها تشتغل)!.
الأعمال الأكثر رواجاً؟!
تتمايز تلك الإعلانات عن بعضها، وتحتل مهنة الخياطة الكم الأكبر من تلك الإعلانات، فتقرأ في الإعلان: (يلزمنا عمال وعاملات للعمل في معمل خياطة في المكان الفلاني اختصاص درزة، حبكة، رشة، أمبلاج... إلخ وبرواتب مغرية)، لتليها فيما بعد صناعة  الجوارب والتريكو والتطريز. يأتي بعدها الصناعات اليدوية بالمنازل، والتي تكون عادة مخصصة للنساء (يلزمنا عاملات للعمل في بيوتهن بالشك.. بالتغليف.. بالهدايا.. إلخ)، فيما تكثر الإعلانات على المحال التجارية التي تبيع الألبسة والأحذية  في الأسواق (يلزمنا شاب أو شابة للعمل في المحل.. يفضل من لديه خبرة)، وكذلك الإعلان الأوسع انتشاراً في الفترة الحالية (يلزمنا شاب صغير للعمل)، فهل تعكس هذه الإعلانات النزف الشديد في العمالة فقط؟ أما أنها تعكس أموراً أخرى أكثر سوءاً؟ 
عن سبب الانتشار؟
إن السبب الأساسي لكثرتها وانتشارها بالدرجة الأولى هو تدني الأجور بشكل عام، وعند صاحب الإعلان بشكل خاص، فحاجته للعمال بشكل مستمر تعود لترك العمال الذين يعملون عنده بعد فترة قصيرة من العمل لديه، كونهم في بحث مستمر عن عمل آخر يأتي بأجرٍ أفضل، فيختارون ذلك العمل ذا الأجر الهزيل بشكل مؤقت، ثم ينتقلون لعمل آخر مجرد أن استطاعوا تأمين ذلك. 
يوضح هذا الواقع أن صاحب العمل ليس بحاجة عمال بقدر ماهو بحاجة لعمال من نوع خاص أتعبتهم البطالة، أي عمال يرضون بأدنى أجر ممكن، وهو بذلك يحقق مصلحته كونه ليس متضرراً من التبديل المستمر في عماله. كما أن العامل المضطر لأن يرضى بأي أجر بشكل مؤقت، ريثما يجد البديل ويطلق العمال على هذا النوع من العمل (بالعكازة)، أي على مبدأ المقولة الشعبية (العب بالمقصقص حتى يجيك الطيار)!.
هناك أسباب أخرى تدفع أصحاب هذه الإعلانات لهذا الأسلوب، حيث يلجؤون لذلك حين يعانون من نقص العمال عندما يريدون إنجاز طلبية كبيرة لمشغله أو ورشته، فائقة عن قدرته الاعتيادية، ما يضطرهم للعمل بالطاقة القصوى، وعلى مدار الساعة حتى إتمام هذه الطلبية، وفور انتهائها يطلب صاحب العمل من أولئك العمال الذهاب إلى بيوتهم.
المعامل الكبرى
والالتفاف على القانون!
لذلك من الطبيعي أن ترى بأسبوع واحد عشرات الإعلانات، التي تطلب عمال خياطة لورشات ومشاغل، ومرجوع ذلك يكون بأن إحدى المنشآت الكبرى قد تعاقدت على طلبية كبيرة، فتوزعها على هذه الورشات والمشاغل كي تستطيع التلبية، بأقل وقت وأقل كلفة، متجنبة توظيف عدد جديد من العمال أو حتى توظيفهم كعمال موسميين، فالمنشأة المحسوبة على القطاع الخاص المنظم الملتزم بقوانين العمل، لا ترغب بتوظيف المزيد من العمال كي لا تتحمل حقوقهم المنصوص عليها قانوناً، فتلجأ لتشغيل عشرات الورشات والمشاغل في طلبية واحدة لصالحها، ثم ما يلبث أن ينتهي العمل بها، ويعود العمال من العمل المؤقت إلى البطالة من جديد. وهذه الحال تنطبق على عاملات المهن المنزلية، فعملهن يعتبر موسمي، بل وأقل من ذلك.
أما بالنسبة لتلك الإعلانات التي تطلب شباباً صغاراً للعمل، فالمسألة هنا متعلقة مباشرةً بالأجر القليل الذي لا يرغب صاحب الإعلان أن يدفع غيره.
إن نسبة البطالة التي تتحدث عنها الدراسات ليست ثابتة بفعل المتغيرات السريعة التي تطرأ على طبقتنا العاملة، والتي تكاد تكون يومية، ولكن المهم الآن تبني الوسائل الكفيلة للتسريع بإطلاق عملية التشغيل لعجلة الإنتاج الوطني، كما ينبغي صياغة حلول جدية لتردي واقع العمالة، والذي بات يدفع خبراتنا إلى مزيد من الهجرة والنزيف، أقلها العمل على الوقف الفوري لاستغلال حاجات عمالنا لتلك الأشكال من العمل المتردي.

سيرياديلي نيوز


التعليقات