تحت رعاية طلال برازي محافظ حمص، وبحضور وسائل الإعلام المحلية، ألقى الدكتور إبراهيم خلايلي المختص بتاريخ الشرق القديم وآثاره، والمكلّف بالإشراف على إعادة تأهيل معلولا محاضرة بعنوان "معلولا التاريخ والهوية وإعادة التأهيل" –مع معرض صور ضوئية خاصة بمعلولا- وذلك في الأول من شهر حزيران 2015  بالمركز الثقافي بمدينة حمص في تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً، وتأتي المحاضرة ضمن فعاليات ثقافية خاصة بمعلولا بالتنسيق بين إدارة صحيفة "بقعة ضوء" وبعض المحافظات السورية...

وقد امتلأت قاعة "سامي الدروبي" في دار الثقافة بحمص بالحضور الذي تميّز بوجود نخبة من مثقفي المدينة ومؤرخيها وعلمائها، والذين أسهموا في نقاش غنيّ مع المحاضر الدكتور خلايلي الذي صرّح لنا أن "معلولا بنت القلمون الأعلى" هي موضوع محاضرة في حمص تحدثت عن البلدة التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، وقد شهدت أيضاً العصور التاريخية التي عاشتها سورية (الأموري، الأكادي، الآشوري، الآرامي، الفارسي، اليوناني، الروماني، العربي (الغساسنة والأمويون والعباسيون) ثم البيزنطي والسلجوقي والصليبي والأيوبي والمملوكي، كما شهدت معلولا الاحتلال العثماني والاحتلال الفرنسي.

وقد تناولت المحاضرة أسماء بلدة معلولا عبر العصور وأهم مخلفاتها الأثرية من أوابد ومغاور وكهوف وأدوات صوانية وأديرة وأجراس وأيقونات وبيوت تراثية لا يمكن اعتبارها حديثة التأريخ كما ذكرت بعض وسائل الإعلام، فبعض هذه البيوت –حسب الدكتور خلايلي- يشير إلى الاستمرار في الأسلوب القديم لسكن الإنسان المعلولي–وهو البيوت المنحوتة في الصخر- التي منها ما هو سكن قديم استمر بوظيفته منذ أقدم العصور التي قد تعود إلى عشرات آلاف السنين قبل ميلاد السيد المسيح، وهذا ما يدل عليه احتواء المساكن الحديثة على أجزاء منحوتة في الصخر على شكل مغاور لها استخدامات عدة حالياً ضمن جدران حديثة نسبياً.   

وخلال محاضرته تحدث الدكتور خلايلي عن أن أكثر عصور معلولا ازدهاراً هو العصر الذي شهدت فيه المدينة بدايات الديانة المسيحية وترعرعها واحتضانها للقديسين الأوائل الفارّين من عسف الامبراطورية الرومانية، فكانت المدينة خير مأوى لهم لتشهد خلال عصورها اللاحقة ازدهاراً حضارياً أسس له القدّيسون فحافظوا على هوية معلولا كحاضرة سورية آرامية، واستمرت الآرامية فيها بالرغم من العصور التي شهدتها وخاصة العصر الكلاسيكي (اليوناني والروماني والبيزنطي الذي كانت معالمه واضحة في معلولا كاحتلال...) إلى أن جاءت الفتوحات الإسلامية التي خلّصت البلاد من الاحتلال البيزنطي وغدا الإسلام الحضاري الحقيقي حاضناً للمسيحية الأم، وحامياً للهوية السورية بكل مكوناتها من مخاطر الاستعمار الذي لم يكن فقط في العصور الحديثة... وقد اعتبر الباحث الخلايلي معلولا نموذجاً حياً لمدينة تشبه في تكوينها التاريخي مدينة القدس، إذ عاش فيها المسيحيون والمسلمون بوئام وتفاهم ميّز كل تاريخها بعد الفتح الإسلامي، مقدّماً مثالاً عن صيغة التفاهم الرائع بين البطريرك صفرونيوس والخليفة عمر بن الخطاب في مدينة القدس متمثلاً بـ "العهدة العمرية"، ذلك التفاهم الذي عمّ كل بلاد الشام محبةً ووئاماً بين كل السورين وعلى اختلاف طوائفهم ، إلى أن جاء الاحتلال العثماني وبعده الفرنسي وما أفرزه هذان الاحتلالان من مساوئ وأضرار عمت كل البلاد السورية، واستُكملت على يد العصابات الصهيونية الإرهابية خلال الأزمة إلى أن حرر أبطال الجيش العربي السوري مدينة معلولا في نيسان 2014 لتدخل المدينة في سجل المدن السورية المقاومة للإرهاب... وأشار الدكتور خلايلي إلى أن من المسيحيين في معلولا الآن من لم يكن مسيحياً في العصر المسيحي وانتشار المسيحية، ومن المسلمين فيها الآن أيضاً من لم يكن  مسلماً منذ دخول الإسلام إليها...أما كلا الطرفين فكان سورياً معلولياً ووريثاً أصيلاً للهوية السورية الموحدة قبل نزول الديانات، والمستمرة إلى يومنا هذا...وبالتالي فلا تعريف لمن وُلد بلسان آرامي في مدينة معلولا –وأياً كان انتماؤه الديني- إلا أنه إبن معلولا الأصيل وحامل بطاقة هويتها السورية التاريخية المستمرة خلال العصور...ولا أدلّ على ذلك من القول إنه حين ينام ابن معلولا على صوت المؤذّنين في مساجدها، يصحو على صوت أجراس كنائسها...والعكس صحيح...

وحول موضوع اللغة الآرامية المحكية في معلولا، تحدث الدكتور خلايلي عن الحماية المطلوبة والتأهيل اللازم لهذه اللغة ذلك أن استمرار أهل معلولا بلسانهم الآرامي يعطي صورة واضحة على استمرار العصور في المدينة دون انقطاع، وهي دليلٌ حيٌّ على عصر هام من عصور الحضارة السورية القديمة، عصرٌ له اتصال وثيق بعصور سورية سابقة ومعاصرة للآرامية تحتفظ لهجة معلولا بمزيج لغوي يشير إليها من خلال الجذور اللغوية والألفاظ والمفردات التي حافظت على نقائها طويلاً، كالألفاظ الأكادية والكنعانية والآرامية الفصحى والعربية المنزّهة عن التأثيرات اليونانية وغيرها.

ومن هنا فإن مشروع إعادة تأهيل معلولا يضع في مقدمة اهتماماته –حسب الدكتور خلايلي- حماية اللغة الآرامية المحكية في معلولا كجزء من اللغة الآرامية الأم التي تنتمي إلى اللغات السورية القديمة.

وأكد د.خلايلي أنه في مشروع إعادة تأهيل معلولا –وحسب خطته العلمية- يعمل على العودة إلى الجذور الآرامية/الكنعانية لآرامية معلولا وكتابة تاريخها بدقة وإحياءها بالحروف الآرامية السورية الأصلية كأحد الشواهد على الهوية السورية القديمة، وهذه الحروف هي الحروف المشتقة من الأبجدية الكنعانية الفينيقية...وتابع بالقول إنه من الضروري العودة إلى كل التفاصيل الخاصة بتاريخ اللغة الآرامية في إطار إحيائها في معلولا، وأشار أيضاً إلى أهمية إقامة الندوات الدورية حول معلولا في إطار مشروع إعادة تأهيلها بالإضافة إلى المطويات والمؤلفات والأفلام الوثائقية الخاصة بتاريخها وآثارها.

وبخصوص إعادة الإعمار والترميم لما تضرر من مبانٍ على أيدي العصابات الإرهابية، ولضمان الحفاظ على طابع معلولا التاريخي واستمرار لغتها الآرامية حيةً بين السكان أكّد د.خلايلي أنه لا بد من عودتهم إليها واستقرارهم فيها ضمن أفضل الظروف.  

 وتعليقاً على الجهود السابقة والحالية الخاصة بجزء "إعادة الإعمار والترميم" لمدينة معلولا، والتي كان من ضمنها ترميم مسكنين في المدينة كنموذجين لترميم بقية المساكن، أكد المحاضر الدكتور خلايلي على ضرورة أن تتولى هذا المشروع جهة حكومية واحدة تقوم بالتنسيق مع كل الخبراء والجهات ذات التخصصات المطلوبة، وتضبط خطة موحدة ومتكاملة بعد تشكيل فريق كامل وتفريغه لصالح هذا المشروع، مع ضرورة ضبط موضوع التمويلات الخاصة بتأهيل معلولا ضمن برنامج محدد يُدرج عناصر تأهيل المدينة ضمن خطة علمية محكمة ومنهجية مدروسة تراعي شروط التأهيل تحت إدارة موحدة......مع الأخذ بعين الاعتبار الجهود السابقة المندرجة ضمن مساعي إعادة تأهيل معلولا، وإعادة تنظيم تلك الجهود واستثمارها والاستفادة مما توصل إليه الخبراء السوريون –تحديداً- من دراسات لم تتح الظروف تنفيذها على الأرض.

واختتم د.خلايلي محاضرته بالحديث عن ضرورة عقد اجتماع موسّع يضم إليه المعنيين من وزارات الثقافة والإدارة المحلية والسياحة والتعليم العالي، ثم من محافظة ريف دمشق والمجلس البلدي بمعلولا وأعضاء من المجتمع المحلي من أهالي معلولا، وبعض المهتمين من أصحاب الجهود المختلفة التي تصب في تسليط الأضواء على معلولا كحاضرة تاريخية وأثرية وسياحية، من أجل دعم أعمال إعادة التأهيل وتطويرها، على أن يدعو السيد وزير الثقافة إلى هذا الاجتماع كون وزارة الثقافة هي الجهة المعنية الأولى بمشروع إعادة تأهيل معلولا كمدينة أثرية مسجلة منذ عام 1964، وذات طابع تاريخي يجسّد خصوصية ثقافية فريدة، كما أشار د.خلايلي إلى أن مشروع إعادة تأهيل معلولا الذي كُلّف بالاشراف عليه رسمياً من قبل وزارة الثقافة في آب 2014 لا يلقى أي دعم إداري، ومع ذلك ارتأى -وبمجهود شخصي بحت-إنجاز سلسلة مجلّدات توثيقية عن تاريخ المدينة وآثارها ولغتها تخدم موضوع توثيقها وحمايتها معرفياً وتأهيلها بشكل نموذجي، وقد شارف المجلد الأول على الانتهاء.

ختاماً -وضمن سلسلة المحاضرات الخاصة بمعلولا- يلقي الدكتور ابراهيم خلايلي محاضرته الثانية عن "معلولا التاريخ والهوية وإعادة التأهيل" في المركز الثقافي بمدينة طرطوس، في تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً يوم الثلاثاء الواقع في 9/6/2015، وذلك تحت رعاية السيد صفوان أبو سعدى محافظ طرطوس.

سيرياديلي نيوز- سليمان أمين


التعليقات