عقد الأزمة والدماء والفقر.. والضوء الأخضر

لقد كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في صلب المسببات التي أدت لانفجار الأزمة السورية، فقد تراكم غضب جماهير الشعب السوري الفقيرة والمتوسطة، بعد سياسة الإفقار التي نفذتها الحكومات وطواقمها الاقتصادية في العقد الماضي، وفي جو المصارحة الذي أعقب بداية الأزمة عبر ممثلو الفئات الفقيرة عن غضبتهم تجاه السياسات الاقتصادية في العقد الماضي، وتم توجيه نقد علني لهذه السياسات من بعض القيادات السياسية، وأقيلت الوزارة، وتتالت ثلاث تشكيلات وزارية لتدارك الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي وصلت إلى حالتي الركود والفقر. لن نسهب في إحصاء الخسائر المادية التي تسببت بها أزمة السوريين، لكن 200مليار دولار.. ونحو 15 عاماً من الإعمار دون الوقوع في شرك الصناديق الدولية، قد يعيدان الاقتصاد السوري إلى مرحلة الإقلاع.

 ما يهمنا هنا إضافة إلى الخسائر البشرية التي لا تعوض، هو تراجع الأوضاع المعيشية لنحو 85% من السوريين المقيمين والمهاجرين قسراً إلى الخارج والداخل، ودخول هؤلاء إلى حزام الفقر الذي يزنّر المدن والمناطق السورية، وفقدان نحو 2 مليون عامل فرص عملهم، وخسارة الليرة السورية نحو 65% من قيمتها قبل الأزمة.

اقتراحات لتدعيم الصمود

لقد تقدمنا في بداية الأزمة باقتراحاتنا للحفاظ على اقتصادنا الوطني وقطاعاته العامة والخاصة المنتجة، ودعم جماهيرنا الشعبية وتهيئتها لمرحلة تتطلب الصمود والمواجهة والدفاع عن سورية ووحدة أراضيها، كان أبرزها:

1 - إعادة النظر بالسياسات الاقتصادية، وتحويل اقتصادنا إلى اقتصاد (مقاوم) لفترة قد تطول، بعد الضغوط الأمريكية والتركية.

2 - الحفاظ على ملكية الدولة وإدارتها للمرافق الحيوية والاستراتيجية، كالمرافئ والمطارات وقطاعات الكهرباء والمياه، وتحديث طاقمها الفني والإداري، وإعادة النظر ببعض التشريعات التي تفوح منها رائحة خصخصة هذه المرافق!

3 - مراجعة الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية التي وقعتها الحكومات السابقة، وإلغاء ما كان منها مجحفاً وضاراً بقطاعاتنا الإنتاجية، والتوجه شرقاً في علاقاتنا التجارية.

4 - دعم صناعتنا الوطنية وتحديثها، وتقديم مايلزم من تسهيلات كي تصبح هذه الصناعة - فعلاً.. لا قولاً - قاطرة الاقتصاد السوري، خاصة في هذه المرحلة.

5 - تحفيز القطاع الخاص المنتج على المساهمة في صمود اقتصادنا.

6 - ضمان الأمن الغذائي في البلاد عن طريق الدعم الدائم لقطاع الزراعة.

7 - الاهتمام بالشركات الصغيرة والمتوسطة، بالمصانع الصغيرة والورشات والحرف والمشاغل، التي تشغل الجزء الأكبر من اليد العاملة في البلاد، ومساعدتها على تأمين مستلزمات الإنتاج من مواد أولية وطاقة، وتسهيل حصولها على القروض المصرفية، وإعفاء بعضها من الرسوم والضرائب عند توفيرها لفرص عمل محددة، وتحفيز ما كان منها في اقتصاد الظل على التحول إلى الاقتصاد الرسمي والقانوني.

8 - توجيه القطاع المصرفي الخاص والعام نحو المساهمة في تنشيط الصناعات الصغيرة في المدن الآمنة، والحرفيين وأصحاب الورش، للمساعدة في توفير فرص عمل للعاطلين عن العمل، وإطلاق القروض العامة (سندات الخزينة) لتمويل المشاريع الاستثمارية العامة، وخاصة في القطاع العام الرابح.

9 - مكافحة الفساد بجميع أشكاله وتجلياته، فهو يعطل تنفيذ الخطط الحكومية.

كما تقدم الكثيرون غيرنا من خيرة الاقتصاديين الوطنيين، بحزمة اقتراحات لمواجهة مفاعيل الأزمة، وخاصة الحصار الجائر الذي وضع قطاعاتنا المنتجة وتجارتنا الخارجية وعملتنا الوطنية في حالة الحرج.

لكن اشتداد الضغوط الاقتصادية، وتحول سورية إلى ساحة (استشهاد) لإرهابيي القاعدة المدعومين من الإمبريالية الأمريكية وشركائها الخليجيين، الذين هدموا وأحرقوا المصانع والمعامل الصغيرة والورش الفنية وباعوا الآلات ووسائل الإنتاج كخردة حديدية، وانعدام الأمن في المدن والأرياف والمناطق الصناعية، وعدم إدارة الحكومات للوضع الاقتصادي والمعيشي حسب مبدأ الأوليات، كل ذلك أدى إلى زيادة المصاعب الاقتصادية والاجتماعية رغم الدعم الإيراني والروسي، وأوصل البلاد إلى هذه النقطة الحرجة.

ماذا فعلت الحكومات؟

ورغم كل التصريحات.. والقرارات.. ومحاولات الترقيع هنا وهناك، أدرك المواطن السوري بحاسته التي يحسد عليها، أن الحكومات تحاول الطيران، لكنها لاتمتلك الأجنحة!والأجنحة هنا هي سلطة استثنائية واسعة، وأدوات مالية واقتصادية تمتلكها أي حكومة تتصدى لأزمة عميقة، كالتي تشهدها بلادنا.فغابت الحلول الناجعة.. واقتصر دور الحكومة على أمرين اثنين:

الأول هو معالجة الملفات (اليومية)كمحاولتها إيجاد المخارج من طوق الحصار الاقتصادي، وتأمين استمرار تدفق المواد الأساسية للغذاء واستمرار عمل القطاعات المنتجة، وهنا ظهر جلياً تخبط الحكومة في مسائل التمويل.. والقطع.. والمخالفات السكنية.. وتوزيع المازوت والغاز، وارتفاع الأسعار.

الثاني هو عدم المساس بجوهر السياسات الاقتصادية الجائرة التي أضرت بالاقتصاد الوطني، وأفقرت الجماهير الشعبية، ووسعت الفوارق الطبقية. فالحكومات لاتمتلك الأدوات التي تقف في مواجهة طغيان من يستوردون.. ويحتكرون.. ويتلاعبون، خاصة أن تشريعات سنت في العقد الماضي تضيق تدخل الحكومات في الحياة الاقتصادية، وتمنع قيادتها للاقتصاد الوطني، إضافة إلى تراجع الإيرادات العامة الذي شكل ضغطاً شديداً على الحكومات، وهكذا دخلنا الفترة الصعبة على قاعدة تشريعية أساسها اقتصاد السوق، ورحنا (نلعب) لعبة القط والفأر مع حيتان الأسواق والمضاربين والمحتكرين، كما في السياسات النقدية التي مارسها البنك المركزي لمعالجة تراجع قيمة الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، وعدم تدخل الدولة في تسعير المنتجات، في وقت كان من الأجدى فيه أن نعلن اقتصاد الحرب والمجابهة، ونعلق تنفيذ جميع التشريعات التي تعيق صمود الاقتصاد السوري بقيادة الحكومة.. لا بقيادة السوق وأسياده.. وأثرياء الحرب (المعتاشين) من استمرارها.. والذين أكلوا الأخضر واليابس.

لقد استمرت السياسات المتحيزة لصالح الفئات الثرية، وبعض كبار التجار والسماسرة، وخاصة بعد تراجع حجم الاحتياطي الاستراتيجي، إذ توهمت بعض القيادات أن أصحاب الرساميل سيساعدون الحكومة في معالجة الأوضاع الاقتصادية، لكنهم فوجئوا بعمليات تهريب هذه الرساميل إلى الخارج، وفقدت البلاد خلال أشهر قليلة أكثر من 20 مليار دولار من الرساميل الخاصة، متضمنة بعض القروض الكبيرة التي منحت بهذه الطريقة أو تلك لكبار المتمولين ومستثمري (المناسبات)، لم تتخذ الحكومات القرار الصائب.. الصعب، لكنه القادر على تلبية متطلبات المرحلة الاستثنائية التي تمر بها بلادنا، وهو تحويل الاقتصاد السوري إلى اقتصاد مقاوم، يجمّد جميع السياسات النيوليبرالية، ويسخّر الإمكانات المتاحة في الزمن الصعب، وعدم الاستمرار في نهج يجلب الكوارث، ووقف العمل بكل القوانين التي تسمح بتحييد دور الدولة.. وفاعليتها في الحياة الاقتصادية، بهدف تلبية متطلبات الصمود في وجه من يخطط للعدوان على سورية.. وتهديد وحدة وتلاحم شعبها. بل لجأت الحكومات في هذه الظروف الصعبة إلى اختيار  الحلول السهلة.. ذات المردود السريع، وكانت جماهير الشعب السوري ضحية هذا الاختيار.

الحكومة الحالية.. تصريحات وبيانات.. والضوء الأخضر

رغم التصريحات الحكومية بحسب النور وبدعم جماهير الشعب السوري في تصديها لقوى الإرهاب، ووعودها بتحسين الوضع المعيشي والاجتماعي للمواطنين السوريين، فقد لاح الضوء الأخضر لدفن السياسات الاجتماعية المحابية للفقراء بدعوى تراجع إيرادات الخزينة، وعدم القدرة على تمويل الدعم الحكومي لأسعار المواد الأساسية، وجرى تضخيم حجم الدعم الحكومي في الموازنة الجديدة، ليبلغ نحو 950 مليار ليرة سورية، أي ما يعادل 60% من موازنة عام 2015، رغم عدم شمول الدعم لملايين السوريين المهاجرين قسراً أو طوعياً. وهكذا صدرت قرارات تحرير الأسعار، ونفذت نصائح الصناديق الدولية في زمن صعب.. على الحكومة والشعب، وأثارت هذه القرارات استهجان الجميع واستغرابها. فتنفيذ الوصايا والنصائح في هذه المرحلة الصعبة يعني أن الحكومة ماضية في وضع القاعدة الضرورية لسياسات اقتصادية قديمة.. جديدة تمهد لقطع علاقاتها التي استمرت عقوداً عدة مع هموم الفئات الفقيرة والمتوسطة، وتؤشر إلى الانسحاب من الهم الاجتماعي، وتحسم موقفها بالانحياز العلني النهائي - وليس الخجول كما فعلت حكومات العقد الماضي - إلى نهج اقتصادي نيو ليبرالي يطيح بجميع قطاعات الإنتاج الحقيقي.. ويحول جماهير الشعب السوري إلى كتل الفقر والفقر المدقع.

لقد حُرِّرت أسعارُ البنزين والمازوت والفيول الخاص بالقطاعات المنتجة، ورفعت الحكومة سعر الخبز، ورفع عبء الضرائب والرسوم غير المباشرة بنسبة 100%. وتساءلنا بعد صدور هذه القرارات : كيف ستدعم الحكومة الفئات الفقيرة التي باتت تشكل 85% من الشعب السوري، وقطاعاتنا المنتجة وخاصة الصناعية منها؟ وكيف سينعكس هذا الإجراء على صمود جماهيرنا الشعبية الصابرة.. والمتأملة بدعم حكومي أقوى، في ظل تراجع قدرتها الشرائية أمام الغلاء والفساد والاحتكار والسمسرة والمضاربات ؟!

ماذا عن صمود المنتجات الوطنية أمام الواردات الأجنبية، خاصة بعد تخفيض الرسوم الجمركية على مستوردات الألبسة الجاهزة ومعدلات ضريبة الرفاهية على الكماليات؟! ما تأثير هذه القرارات على صمود شعبنا الصابر الذي شدّ على البطون وتحمّل مرغماً انعكاسات الحصار الاقتصادي الظالم.. والتهجير القسري ونزيف الدماء وهدم البيوت؟!

وجاءت المفارقة الكبرى عندما أعلن رئيس مجلس الوزراء مؤخراً في مجلس الشعب أن الإيراد المتوقع من تحرير أسعار المازوت والغاز والخبز يبلغ 121 مليار ليرة.. وأن التعويض المعيشي سيبلغ 115 ملياراً. أي أن الوفر الذي سيتحقق للخزينة العامة هو 6 مليارات ليرة ! هل من أجل تحقيق هذا (الإنجاز) أرهقنا جماهير الشعب السوري.. وأشعلنا الأسواق بعد الارتفاعات اليومية للأسعار.. وكبحنا محاولات القطاعات المنتجة لإعادة الإقلاع في فترة ركود تحتاج إلى الإقلاع ؟! أم أن هناك أسباباً أخرى نجهلها ؟

بصراحة نقول هنا: إن استمرار السياسات الهادفة إلى فرض اقتصاد السوق الحر فرضاً (من فوق) في دول تفتقر إلى المقدمات السياسية، هو أمر يخالف سمات السوق الحر ذاتها، وتجارب دول عديدة في هذا الإطار لم تثمر إلاّ اضطرابات اجتماعية وسياسية أدتْ إلى كوارث. إن لاقتصاد السوق الحر مقدمات سياسية.. أولها توافق بين فئات الشعب المختلفة تعبر عنه صناديق الاقتراع، فتأتي بأحزاب ليبرالية.. لاترفع شعارات الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، لتضع القاعدة لحكومات مصغرة.. غير متدخلة في الحياة الاقتصادية.. تاركة الأمر للسوق.. والعرض والطلب ويد (كينز) الخفية، ويصبح التناقض هنا واضحاً.. علنياً مع المعارضة السياسية اليسارية والنقابات العمالية دفاعاً عن مصالح الطبقات الفقيرة المتضررة من سياسات السوق الحر.

أفصحوا عن النوايا.. ودعوا شعبنا يختار النهج الاقتصادي الذي يراه مناسباً لمستقبل سورية، في إطار حوار سياسي.. اقتصادي ديمقراطي مفتوح، تشارك فيه جميع القوى السياسية الوطنية، يمهد لحل سياسي لأزمتنا، ويدعم البلاد في تصديها للإرهاب الإقصائي.

 أما نحن فأعلنّا ونعلن: أن سورية الصامدة اليوم في وجه الإرهاب التكفيري الأسود.. وشعبها الصابر الذي يدفع الثمن الباهظ يحتاجان إلى حكومة مواجهة.. متدخلة، راعية لمصالح المواطنين، ومتحكمة بأدوات التأثير في الاقتصاد، تؤمّن لمواطنيها عوامل الصمود.. ولاتقصم ظهور الفقراء. أما غداً.. فالأمر مرهون بحل الأزمة السورية بالطرق السياسية، فدون تحقيق هذا الهدف سيستمر نزيف الدماء.. وستفشل جميع السياسات الاقتصادية.. وسيهدد الإرهاب الأسود كيان الدولة.. وستصبح آمال السوريين في غدهم الديمقراطي العلماني مجرد حلم..

سيرياديلي نيوز


التعليقات