في عالم الاقتصاد تكون المرآة الخلفية أكثر وضوحاً من الزجاج الأمامي، فالتاريخ يعيد نفسه دوماً، ليس حرفياً، ولكن بتطابق كبير بين الدوافع والآثار والنتائج. ولكن للأسف كما قال المستثمر العالمي وارن بافيت: «يعلمنا التاريخ الاقتصادي بأننا لا نتعلم من التاريخ».

من هنا تبدأ مشكلات إدارة الأزمات الاقتصادية بالتعقيد، ويصبح تضارب السياسات التي تزيد الطين بلة أحد أبرز ملامح الإدارات الحكومية، وهذا ما نختبره اليوم على أرض الواقع، فسيناريو الأزمة الاقتصادية وأزمة سعر الصرف تحمل في تفاصيلها الكثير من لمسات أزمة ثمانينيات القرن الماضي، لكن أحداً من المعنيين لم يكلف خاطره بمسح المرآة الخلفية، والنظر بدقة من خلالها للاستفادة من التاريخ الذي يعيد نفسه اليوم.

رجل أعمال سوري (فضل عدم ذكر اسمه) ضبط المرآة الخلفية بدقة خلال حواره مع «الوطن» مطالباً بصراحة مطلقة بإيقاف كل الأنشطة التجارية، من استيراد وتصدير، وتجميد حركة الليرة في المصارف لمدة شهر، ثم البدء بفتح باب استيراد المواد الأولية فقط لنفس كمية القطع الداخل عبر التصدير، ودعم التصنيع ومكافحة التهريب، كما كان مطبقاً في الثمانينيات.

رجل الأعمال انطلق في تصريحاته من ضرورة الاعتراف بأننا في حالة اقتصاد حرب بكل ما تحمله الكلمة من معنى، «فالمشكلة اليوم تكمن بتجاهل حالة الحرب التي تعيشها البلاد عند التعاطي بالقضايا الاقتصادية».

مبيناً أن المطلوب اليوم التخفف من تداعيات المشكلة الاقتصادية التي فرضتها حالة الحرب، والبداية تكون من توقيف استيراد المواد كافة المواد الكمالية والمواد المصنعة على اختلاف أنواعها بالمطلق، وذلك لأن أول مظاهر المشكلة الاقتصادية هو العجز في تدفق رأس المال، فما يدخل إلى البلد عبر التصدير أقل بكثير من الخارج عبر أقنية الاستيراد.

وأشار إلى أن الملاحظ اليوم استيراد الكثير من السلع بحجة العادات الاستهلاكية، «فاليوم في عز الشتاء تجد البندورة والموز والكوسا والباذنجان والكيوي والأفوكادو والمنغا وغيرها الكثير من السلع المستوردة التي تملأ الأسواق، ولكن على حساب قيمة العملة الوطنية، لأن فاتورة استيرادها تدفع بالدولار، وهذا خطأ كبير، فمن غير المقبول الحديث عن عادات استهلاكية في زمن الحرب».

وفي رد استباقي؛ ينفي رجل الأعمال صحة ما قد يقوله البعض بأن منع استيراد المواد سيفتح الباب واسعاً أمام تهريبها من الدول المجاورة، مبيناً أنه عندما يسمح بالاستيراد فالمواد تصل إلى الموانئ السورية ومن ثم تلج الأسواق، ولكن عندما يمنع الاستيراد فإن المواد المهربة تصل إلى الموانئ اللبنانية، وحتى تلج الأسواق يدفع عليها جمرك في لبنان، ولكي تدخل تهريباً إلى سورية يجب أن تمر عبر عشرات الحواجز الجمركية وغير الجمركية، ما يجعل العملية صعبة جداً ومرهقة من حيث الجهد والوقت والتكاليف، لتصل البضاعة بأسعار مرتفعة جداً وبصورة مرعبة قياساً إلى أسعارها في الأسواق المجاورة، لذا سوف يتقلص النشاط التهريبي للحد الأدنى لعدم جدواه واقتصاره على فئة ضيقة جداً قادرة على دفع تلك الأثمان.

ويلخص رجل الأعمال السيناريو المقترح من جانبه لإدارة الأزمة الاقتصادية الراهنة، بأن المطلوب العمل بالتوازي على وقف الاستيراد من جهة ومكافحة جادة وحقيقية للتهريب من جهة أخرى، ومن ثم الانتقال لدعم التصنيع المحلي، «فاليوم لدينا قدرة على تصنيع كل المواد المطلوبة للاستهلاك المحلي، من الأغذية وحتى الدواء». إضافة إلى منع تقديم القروض بالمطلق، مهما كان نوعها، ومن ثم تبدأ الحكومة برصد تحركات الليرة السورية في الاقتصاد وضبطها، وتجميد حركتها.

ويضع رجل الأعمال برنامجاً زمنياً لبنود مقترحه، تبدأ بفترة بين أسبوعين وقد تمتد إلى شهر على أبعد تقدير، توقف خلالها الحكومة النشاط التجاري كلياً من تصدير واستيراد، تقوم خلالها بتقييم حجم التصدير الحقيقي، على أن يلتزم المصرف المركزي خلال هذه الفترة بعدم طرح أي دولار.

ومن بعد تلك الفترة يبدأ المصرف المركزي بالتدخل لدعم قيمة الليرة وتثبيتها عند مستوى محدد، بالتزامن مع فتح باب استيراد المواد الأولية الداخلة في الصناعة بنفس قيمة القطع الأجنبي الداخل إلى البلد عبر التصدير، وذلك بما يتناسب مع ظروف الحرب، بهدف تمتين الاقتصاد وضبط السوق وتعزيز قيمة العملة المحلية ورفع القدرة الشرائية للمواطنين، حتى لو كانت التكلفة شح المواد.

وعن تأثير هذه السياسة في التجار المستوردين يرى أنه في زمن الحرب «يمكنهم الصبر 6 أشهر من دون أرباح، فالبلد والاقتصاد بأزمة، ولا يمكن تجاهل هذه الحقيقة، والخروج من الأزمة يتطلب هذه التكلفة». مؤكداً أن هذه الحالة الاستثنائية ليست دائمة، إذ يحتاج الاقتصاد 6 أشهر تقريباً ليبدأ التعافي ولتدور العجلة التجارية من جديد، وبشكل مدروس ومضبوط، فتبدأ المصانع بتوسيع عملها لتلبية الطلب المحلي فتوظف المزيد من العمالة وتزداد معها الدخول وقدرة الشرائية ويزداد الطلب الفعال في الاقتصاد، لنكون أمام صناعة جديدة واقتصاد جديد خارج من الأزمة بقوة وبعملة وطنية قوية.

سيرياديلي نيوز


التعليقات