التغيير أو الانقلاب الشامل في المجالات الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن أن يكون من دون مبررات لأسباب راسخة ولنتائج ذات مردودية على كل النواحي، بما يقوي الكيان ويمتنه ويزيد قوته ومناعته وتحصينه ورفاهية مواطنيه والعدالة بينهم .أماعندما يكون الكل يعلم أن نتيجة هذا التغيير هي تراخ وتفتت بالنسيج الصلب المتين الذي حمى الوطن وزاد تلاحم مواطنيه ومدنيتهم وبعدهم عن الأمراض الاجتماعية اللا وطنية من تعصبات وانتماءات ضيقة، فهذا يضع من يقاتل لفرض هذه البرامج أمام شبهات واتهامات، ويكون المعيار أو كما يسمون بيضة القبان لأي الرؤيتين أسلم وأصوب وأقوم هو النتائج الناجمة عن كل منهما .

فالكل يعرف أين وصلنا سابقاً حتى منتصف التسعينيات بمؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والانسانية، وفق تراكم معرفي ومادي ومالي جعل بلادنا تتصدر قائمة بلدان المنطقة في ترتيب التنمية، مع عدم تناسي النظرة المثالية التي تولدت نتيجة تراكم السنين والنضالات المتكررة ضد الاستعمار والقوى الخارجية والأدوات المتحالفة معهم، حتى انتصرت إرادة الجماهير الكادحة من موظفين وعمال وفلاحين، وجعلت رفاهية المواطن كبيرة مقارنة بمقدراتنا وأكبر من الكثير من البلدان .فالمؤسسات التعليمية والصحية منتشرة في كل المناطق، وبمؤشرات جيدة، وبين الريف والمدينة، موانئ ومطارات وطرق دولية ومياه نظيفة وصرف صحي وكهرباء لأبعد نقطة في هذا الوطن، ضواحٍ سكنية، أمن غذائي بشتى المحاصيل وخاصة بالمحاصيل الاستراتيجية، وخاصة القمح الذي أصبح لدينا منه مخزون استراتيجي فاق طاقتنا التخزينية، والقطن والشوندر السكري والحمضيات والزيتون وغيره، صناعة تحويلية قوية سدت الاحتياجات الداخلية وفاض منها للتصدير، ثروات طبيعية متعددة إضافة إلى موقع جغرافي ومكانة تاريخية جعلت سورية مقصداً لسياح الطبيعة والمناخ والتراث والأماكن الدينية، تنوع وتكامل اقتصادي قلما توفر في أي بلد إضافة إلى تخريج كوادر وقادة التنمية السورية، واستعين ببعضهم خارج سورية، مما ولد استقراراً قوياً لليرة السورية واحتياطياً نقدياً كبيراً وصل إلى حدود ـ25 مليار دولار، وإن ترافق ذلك بفساد في بعض المفاصل وسوء تعيينات، ولكن لم يصل الضعف إلى درجة الإباحية والعلنية والمكاشفة، ولكن ضمن قوانين صارمة وأمور مضبوطة، وقوة مؤسساتية ذات صلاحيات قوية، ومنظمات شبه مستقلة، وقطاع عام قوي بناء تحدى كل الصعوبات، كل هذه المؤشرات تدل على أن إصلاحات قليلة وتحديثات متفرقة قادرة على زيادة الرفاهية والاستمرارية التنموية بما يحصن سورية ويعزز مكانتها ومكانة مواطنيها، وإن سيطرة مؤسسات الدولة وقيادتها للعملية التنموية هو الضامن الأكبر والقائد الأقدر لأي تحديث أو إصلاح، وهنا يكمن اللغز الكبير والسر الخطير، فالقطع أو الالتفاف على كل هذه الإنجازات والمؤشرات، ومحاولة عزل الدور المؤسساتي، وقتل القطاع العام، وسلب قيادة التنمية لصالح فئة قليلة ذات أفق ضيق ومصالح برغماتية لا تأخذ البلد في حساباتها، من خلال التغيير في الخارطة الداخلية والخارجية، ومن خلال تكديس الأموال بأي طريقة، وكل ذلك على حساب الوطن والمواطن.

 ورغم التحذيرات والتنبؤات بما سيتمخض عن إجراءات كهذه أبعد ما تكون عن حاجات الواقع السوري وتلاقي ما حاولت فرضه الولايات المتحدة عبر المؤسسات الدولية، أو عبر المندوبين بالقوة والفرض، والغاية منه سلب الدولة قوتها وقيادتها للتنمية، من أجل أن تصبح البنى هشة قابلة للاختراق مما يجعل إمكانية التدمير الذاتي والعودة إلى العصور الحجرية سهلة، بعد أن لم تنم عين هذا الغرب عن القراءة الداخلية لكل البنى وأماكن الضعف والقوة للعب بها، وبعد أن ارتأت أنه لا يمكن أن يلعب على الأوتار اللا وطنية إلا عبر لعب سياسات تفقير وتجهيل لا تتم إلا عبر إفساد كل شيء، وخاصة التعليم والقضاء، وعبر سياسة تعيينات أبعد ما تكون عن الكفاءة والتقنية، وعبر تقوية مركزية شخصيات من مختلف البنى تابعة منفذة لما يملى عليها، وهذا ما يتولد عنه صراعات بنيوية كبيرة وتضارب مصالح واستثمار لكل أدوات الصراع، وللأسف كان ما أراد هذا الغرب المتغطرس، وحدث تغيير كبير للسياسات البناءة بإجراءات خلخلت التنمية والنمو، وهشمت الصلابة، وأضعفت الانتماء، فضرب التوازن التنموي بين الريف والمدن، وبين مدينة وأخرى، وهُجّر الفلاح من أرضه بعد سياسات تحرير الأسعار ورفع أسعار المحروقات، وسلبت من الموظف والعامل الكثير من المزايا التي نوضل سنوات للوصول إليها، وفرغت المنظمات، وأصبحت للحصول على مكاسب ومزايا على حساب المبادىء والقيم، وزاد الفساد أضعافاً بعد تقييد الأجهزة عن مواجهته والإحاطة به، وأفرغت مؤسسات التدخل من عملها الأساسي، وفرغت الحياة السياسية والحزبية لأن أي قوة حزبية ستشكل درعاً حامياً للإنجازات وهذا معرقل للمشروع القادم، ولعب بالمخزون الاستراتيجي مثل القمح الذي وصلنا لمرحلة 5,5 ملايين طن كاحتياطي، وقتل القطاع العام ووضع فيتو لمنع إصلاحه أو تفعيله، وسلبت كل العطاءات التي حصل عليها المواطن بعد فترة الستينيات إلى التسعينيات من تعليم مجاني وخدمات صحية ودعم إجتماعي كافل للعدالة ومحصن ضد الجوع والفاقة، ومنعت معالجة قضية السكن العشوائي معالجة تحقق فوائض للدولة وحياة مستقلة للمواطن وجمالية تليق ببلدنا، وحتى النقل السهل وغير المكلف أصبح مزعجاً لهؤلاء التغييريين.

كل هذا نشر أمراضاً اقتصادية وإجتماعية قابلة للتفشي بقشة نار. من المؤكد أن هذا الموضوع نوقش باستفاضة ليس من باب حب الكلام، ولكن من باب أن الفريق الذي أوصلنا إلى هنا وكانت سياساته بوابة غزو بلدنا وسيادة الدم والدمار، ما زال يلعب بالعقلية نفسها والأهداف نفسها عبر شخصيات مستنسخة منه، وزرعت بأغلب المفاصل، ولم تراع الدم والدمار، وإنما كان الهدف الأهم زيادة الثروات والمحافظة على الدور الآني والمستقبلي عبر سياسات علنية ومبطنة لا تراعي الدماء ولا الدمار وإنما التأزيم لزيادة الثروات .

وهكذا كانت سياسات وإجراءات ثنائية الأبعاد، سواء في المجال المالي أو النقدي، واللعب بالليرة وبعض المنتجات، حتى وصلنا إلى وضع يرثى له، وما يزيد الطين بلة تصريحات لأشخاص أبعد ماتكون عن المسؤولية أو العقلانية مع ادعائهم بهذه العقلانية .

لا بد في الأزمات من قوانين استثنائية تأخذ أبعاداً اقتصادية وأحياناً بما يراعي النواحي الأمنية، ومن المؤكد أن أزمة كهذه تضعف وتحطم أقوى البلدان، ومجرد الصمود في وجهها إنجاز، كما أن هناك الكثير من المؤشرات لا يمكن الإعلان عنها لأنها أسرار قد يستغلها العدو، ولكن هناك أبجديات لا يمكن لأي كان أن يختبئ وراء الأزمة لتبريرها، فذاك يدعو للتقشف، وفي اليوم التالي يتراجع، مع أن شعبنا متقشف تلقائياً ويضحي من أجل البلد. إن وجد أمثال هؤلاء الذين يسكنون أبراجاً عاجية قد تأثروا بما تمر به البلد وتقشفوا، فكيف سينظر إليهم المواطن وكل رفاهيات العيش ما زالت تحت أمرتهم؟ غاز متوفر بأي لحظة، ومازوت وبنزين وحطب، فيما باقي الشعب ينتظر أياماً بلا أي تلبية، التقشف ضروري، ولكن للجميع والأكثر جدوى لهؤلاء . والآخر يقول إن الشعب طالب بزيادة أسعار الخبز والمازوت والغاز على شاشات الإعلام، وهذا التصريح لا يمكن أن يصدر إلا عمن يستغبي هذا الشعب، أو من لا يعرف ماذا يقول، إن رفع الأسعار في إطار تخفيف الطلب غير الضروري للجشعين في ظل قلة المعروض إجراء صحيح، ولكن بعد أن تعجز كل الإجراءات، ولا تفتعل الأزمات لتمرير رفع الأسعار، فتكديس الأموال. لهذا نقول كان الشعب يطالب أن تفعل وزارة حماية المستهلك بدلاً أن يصل المواطنون إلى مرحلة الطلب حمايتهم من وزارتكم. موظفون جشعون همهم الاستفادة وأبعد ما يكونون عن أداء واجبهم، وللأسف تجري زيادة مكافأتهم، نتساءل هل ستظل سياسة عدم توفير المواد مستمرة؟ أم ستأخذ مؤسسات التدخل ووزارة حماية المستهلك دورها وتفعل عناصرها الذين لا يفهمون من الوظيفة سوى سلب المواطن وملء جيوبهم بأموال سوداء؟ ورغم ذلك نعود للقول، في الظروف الاستثنائية الإجراءات استثنائية وآنية، وهذا ما كان للزيادة التي أقرت بما هو موجود، وإن كان هناك الكثير من الشرائح الذين لم تصلهم، العاطلون والنازحون، والمياومون منذ سنوات على رأس عملهم، أكيد لن تسد الفجوة بين الرواتب وما نحتاج للمعيشة، ولكنها تحرك بعض الشيء، وترمم بعض الفاقة والجوع لمن تصله، وتبقى البقية بحاجة لألفة وتعاون الإخوة بالوطن، ونتساءل: لماذا لا يكون العمل على زيادة الإيرادات من دون رفع الضرائب والرسوم على عاتق الفقراء عبر أموال الفساد، أو عبر تسوية أوضاع السكن العشوائي، التي من خلالها يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، نظراً لما سينجم عن هذا الموضوع من إيرادات ضخمة ووفيرة؟ ولكن تبقى هذه الزيادة تخديرية موضوعية بظروفنا الحالية، ويجب أن نصبر ونتلاحم للسير بالسفينة السورية نحو الأمام، ذاك تصبح السياسات والإجراءات أساسية مرحلية واستراتيجية، وهنا لب الموضوع. إن الحسم الاقتصادي لصالح هؤلاء ممن أغرقوا السفينة ومازالوا يسيرون بها ضمن الدمار والدماء لن يكون علاجاً صحياً، إنما تكريماً لما مارسوه من فوضى ومحاربة الأنظمة والقوانين وفرض الأمر الواقع على الوطن والمواطن والمؤسسات، فما وجدناه أن تكون الدولة القائدة والضابطة والمنظمة للبرامج والسياسات عبر مؤسساتها ومن أهمها القطاع العام هو أس ما بني في سورية، ومازالت روحه سراً من أسرار الصمود، وأي عدالة وإعادة بناء للطبقة الوسطى التي دمرت لن يكون إلا عبر برامج حكومية يكون القطاع العام الأداة الأهم لتنفيذها.

وبحسب جريدة النور للكل دوره، عام، خاص، مشترك، غني، فقير، وتعاون الكل وتكاملهم يخفف الأمراض ويقوي العلاج، الأهم الآن المحافظة على إبحار السفينة وعدم إغراقها، وما بعده لن يكون إلا بما يريده شرفاء هذا الوطن المنتشرون في كل منطقة ومدينة، في الريف، في المدن، في كل مؤسسات الدولة ومفاصلها، عند من بقوا أو نزحوا أو اضطروا للهجرة، التعميم خطأ، وإن كانت صدمة الدماء قد صعقت وغيرت، لكن الرهان يبقى على العودة إلى سوريتنا وعقلانيتنا وتعرية وفضح من أوصلنا إلى هنا .

سيرياديلي نيوز


التعليقات