سيريا ديلي نيوز- عصام التكروري

 

 في الثامن والعشرين من أيلول الماضي- وكما في كل عام- احتفت مئات المنظمات غير الحكومية على مستوى العالم «باليوم العالمي للحق بالحصول على المعلومة»، اللافت هو أن اقتراح إنشاء هذا اليوم لم يكن بمبادرة من الأمم المتحدة أو أي منظمة دولية، بل كان بمبادرة من منظمات حرية المعلومات المجتمعة في صوفيا في بلغاريا في 28 من أيلول من عام 2002.
في الواقع، لا يحتاج العالم إلى تكريس الحق بالحصول على المعلومة بقدر ما يحتاج إلى تكريس الحق بالحصول على «المعلومة الصادقة»، هذا الأمر بدأ يتكرّس في شريحة من الشعوب التي ضربها الربيع العربي، تلك الشعوب التي كانت ضحية لوسائل إعلام خارجية (عربية وأجنبية) بَنَت مصداقيتها بالدرجة الأولى على حالة عزوف مواطني الربيع العربي عن متابعة إعلامهم الوطني، مصداقية تم توظيفها على نحو خبيث لاختراق العقل الوطني الجامع لدى شعوب عُرف عن أغلبيتها أنها توّلد العقول، وتنبذ العنف، وتؤمن بالتسامح الديني إيمانها بالعلمانية، هذا الاختراق وصل لدرجة أن «المواطن الربيعي» ـ في مرحلة من المراحل ـ كان يُصدّق ما تبثه المحطات الخارجية ولو كان ما يجري تحت شرفته يقول العكس، ويكذّب ما تقوله وسائل إعلامه الرسمية ولو كان ما يراه في الشارع مطابقاً لروايتها. بتقديري، آلية هذا الاختراق تجد أساسها في أبحاث فرويد حول التأثير المتبادل لسلوك الفرد والجماعة، في الواقع، حتى عام 1920 كان فرويد يعتبر أن الإنسان المنعزل عن الجماعة هو وحده الذي يمكن أن يكون موضوعا للتحليل النفسي، لكنه عاد وغيّر قناعته بعد أن رأى النتائج المتميزة لتلميذيه «يونغ» و«ادلر»، هذان التلميذان اثبتا لمعلمهما أن التحليل النفسي مرتبط أوثق الارتباط بالحياة الجماعية، فرويد المُعلم لم «يكفّر» تلامذته ولم يسعَ- وهو المرجعية القادرة- إلى إقصائهما أو تسفيه آرائهما، فهكذا أمور هي صناعة شرق- متوسطية بامتياز، روح فرويد العظيمة جعلته ينحني أمام طرح تلامذته ليُعلن معهما طرحاً جرى استخدامه بقوة في الحرب الإعلامية «الربيعية»، طرح يقول: «إنه من السهل التأثير في سلوك فرد من الأفراد وذلك عن طريق التأثير في الخصائص العميقة للجماعة».
برأينا، كان التلاعب- بالخصائص العميقة للجماعة عنوان «حروب الربيع العربي»، هذا التلاعب قامت به وسائل إعلام فتنوية (غربية وعربية)، تلك التي ركّزت في خطابها على عيوب ونواقص أنظمة الحكم المُراد إسقاطها تحت مُسمى «الثورة»، ووصل الأمر إلى أن تحولت وسائل الإعلام تلك إلى القائد الفعلي لتلك الثورات، قائد تبنى خطاباً عنيفاً، تحريضياً، يرفض تحكيم العقل ويعتبر ما يطرحه العقلاء شكلا من إشكال الانحياز لأنظمة الحكم التي تم شيطنتها بطريقة تفوق حقيقتها أو قد تكون مغايرة لتلك الحقيقة أحياناً، هذه العوامل أحدثت طفرة مرعبة في الخصائص العميقة لشعوب طالما وِصفَ أغلبها بأنه علماني ويرفض العنف، هذه الطفرة اللا أخلاقية جرى التعبير عنها من خلال الأسئلة التي طرحها «المواطن الربيعي» في لحظات صفاء ذهني نادر الحدوث، أسئلة مثل: أين كان هذا العنف مختبئا في ذواتنا؟ كيف أصبحنا نؤمن بالطائفية؟ هل الطريق إلى الحرية والديمقراطية يمر على أكفان الجيوش الوطنية وتدمير البنى التحتية وتشتيت أبناء الوطن الواحد بين لاجئ ونازح، موالٍ ومعارض، قتيل وقاتل؟ لمَ كان «الربيع» انتقائيا إلى هذه الدرجة؟
ربما ستتكفل الأيام القادمة بالإجابة عن السؤال الأخير- إن لم تكن هذه الإجابة قد تمّت- لكن أياً كانت طبيعة هذا الربيع فلا بد لنا أن نؤكد اليوم أن مهمة اختراق العقل الجمعي للشعوب العربية التي استثنتها- حتى تاريخه- حروب الربيع هذه المهمة باتت اليوم أكثر سهولة، لأن هذه الشعوب باتت اليوم أكثر تقبلا لفكرة «الثورة» كما روَّج لها الإعلام المُضاد، من هنا فما إن يُرفع الحظر الأميركي عن الربيع الخليجي أو الربيع المغاربي فلن يكون مُستغربا أن تهب شريحة من شعوبه لتدمر ما بنته تلك الشعوب عبر سنين ولاسيما أنَّ الشباب القادم من تلك البلاد مازال يُشكل حطب الدول المُشتعلة «ربيعيا»، هذا الأمر لا نتمناه لكنه ممكن ما لم يشرع الإعلام العربي عموما، وإعلام الدول «المُهددة بالربيع» خصوصا، بالتغيير من آلية تعاطيه مع ما حصل ويحصل في «الدول الربيعية».
وربما لن يتوقف الأمر على الشعوب العربية فما يحصل اليوم في «بوركينا فاسو» ينبئ بأن هناك «ربيعا» يجري التحضير له في إفريقية السوداء، «الربيع الأسود» تتوافر فيه كل أسباب النجاح، فالإرهاب وصل إلى إفريقية (جماعة بوكو حرام مثلا)، والذاكرة الشعبية جرى إشباعها بصور القتل والذبح في النزاعات الأثنية التي عرفتها القارة على مدى العقود الثلاثة الماضية، أما أحزاب المعارضة فهي غالبا هزيلة لكون أغلب الرؤساء الأفارقة هم من العسكر الذين أتوا للحكم عبر صناديق الذخيرة وليس صناديق الاقتراع، ولديهم هاجس إجراء تعديلات دستورية تبقيهم في الحكم إلى الأبد كما هو الحال في بوركينا فاسو، غينيا، بروندي والكونغو.
الشعب البوركيني انتفض في 28/10/2014 ضد تعديل دستوري فأحرق البرلمان وعدة مراكز الشرطة، ونهب مبنى الاذاعة والتلفزيون، وقُتل منه 30 شخصاً في يوم واحد، تلا ذلك انقلابان عسكريان في غضون يومين، قائد الانقلاب الثاني (اسحاق زيدا) أعلن نفسه رئيساً انتقاليا 1/11/2014 ودخل في مفاوضات مع سفيري فرنسا والولايات المتحدة عنوانها «الشرعية» ومضمونها «نريد حصتنا أن شئت البقاء»، اللافت أن وسائل الإعلام الأميركية والفرنسية والسويسرية والبلجيكية بدأت بالترويج «للربيع الأسود» مع أول صرخة «ارحل» أطلقها المتظاهرون في وجه الرئيس المخلوع (كومباريه) الذي جاء إلى السلطة بانقلاب عسكري عام 1987 وفاز في أربع انتخابات رئاسية مشكوك في نزاهتها، وهو يقيم الآن في منتجع رئاسي في جزر القمر.
اليوم، وبعد أربع سنوات من حروب الربيع العربي بات واضحاً أن الحرب الإعلامية التي تعرضت لها شعوبه كانت أعتى من أن تتصدى لها وسائل إعلام رسمية تعيش حالة من حالات الاغتراب مع عقل المتلقي، الثابتَ اليوم هو أن وسائل الإعلام المضلِلة أصبحتْ أكثر براعةً في إيصال رسائل الحكومات التي تشغَّلها، كلمة السر في العلاقة بين الطرفين هي التالية: «قل لي الحقيقة لأكذب معك على الرأي العام»، توظيف كلمة السر هذه جرى بتقديرنا عبر آليتين: الأولى عبر حشد طاقات فكرية متخصصة بالإعلام والدعاية وعلم النفس والقانون، أما الثانية فكانت عبر شراء المثقفين والسياسيين والنُخب وتحديدا التي كانت مُقربة من الأنظمة المُراد الإطاحة بها بهدف الترويج لفكرة انعدام شرعيتها، هذا الأمر ما هو إلا التطبيق العملي لفكرة فرنسيس فوكوياما الذي قال حرفيا في كتابه نهاية التاريخ «إن الافتقار إلى الشرعية عند الشعوب ككل لا يعني أزمة في شرعية النظام ما لم تنتقل عدوى السخط وعدم الاعتراف بالشرعية إلى الصفوة المرتبطة بالنظام.. خاصة الصفوة التي تحتكر أدوات القمع كالحزب الحاكم والقوات المسلحة والشرطة.. فحين نتحدث عن أزمة في الشرعية داخل نظام استبدادي فإنما نعني بها أزمة في صفوف الصفوة التي يعتبر انسجامها وتضامنها شرطاً أساسيا لفعالية حكم النظام».
شراء النُخب ومن ثم توظيفها لخدمة مشروع إعلامي لا أخلاقي كان يتم إما من باب الدولار وإما من باب الأحقاد لكن النتيجة بقيت واحدة: إحداث حالة تشويش تؤدي إلى دمار ذاتي في مجتمعات يُخشى أن تصبح بقامات عقولها، سواء تعلق الأمر بالعقول المُقيمة أو المهاجرة أو تلك التي تحزم الحقائب.
ربما كانت عبارة «العقول التي تحزم الحقائب» عبارة مؤلمة، لكن ما يشفع لها هو أن العبارة المؤلمة ـ بحسب ديدروـ مثلها مثل المسامير الحادة، تفرض الحقيقة على ذاكرتنا.

سيريا ديلي نيوز


التعليقات