يراوح اقتصاديو الحكومة المسؤولون عن صناعة القرار الاقتصادي في منطقة غير محددة؛ ومعهم اقتصادنا..!!

والمقصود بالمنطقة غير المحددة هو غياب أي ملامح قادرة على تحديد هوية المرحلة اقتصادياً، وبشكل أدق؛ فإن القرارات الاقتصادية التي من شأنها رسم تلك الملامح؛ تنطلق من أسس غير مفهومة، وبعيدة كل البعد عما يجري على أرض الواقع، لذا تكون النتائج المتوقعة من تلك القرارات مشوشة في أغلب الأحيان، وأحياناً تزيد المشكلة في الواقع بدلاً من معالجتها.

 

ويستخدم المنظرون الاقتصاديون تعبير (uncharted) لوصف عدم التحديد، وهذه الكلمة في اللغة الإنكليزية تستخدم عادة لوصف المناطق التي لم يتم وضعها او التي يصعب تحديدها على الخريطة، وهذا يصف بدقة أكثر حالة عدم التحديد في الاقتصاد.

 

أما مصدر عدم التحديد؛ فيعود لغياب البيانات التي تنقل صورة أقرب ما تكون إلى الدقة عن الواقع كما هو، ومن ثم المعلومات التي تشخص المشكلة الاقتصادية الحقيقية. ومن هنا ينطلق الاقتصاديون في اختبار الحلول المناسبة لتلك المشكلة في مختبر عقلي افتراضي، ثم يختارون ما يعتقدون أنه الأفضل، وهذه النتيجة تأخذ شكلها في صورة قرار اقتصادي يوجه المؤسسات المعنية باتجاه سلوك محدد، ينتج عنه تفاعل مع المجتمع، ثم تأتي التغذية الراجعة محملة برد فعل المجتمع حيال القرار. وبقدر ما تكون البيانات والمعلومات الأساسية قريبة من الواقع؛ تكون ردود الفعل إيجابية.

 

في هذه المحلة يتحول الاهتمام من المشكلة الأساسية إلى درجة الإيجابية في حلها، والتي تنقلها التغذية الراجعة، وبما أن الأمر مرتبط بالحلول التي تم اختيارها بعد إخضاع المشكلة لتجارب عقلية، فإن معالجة أو تنقيح القرار تعتبر عملية سهلة نسبياً، كما أن كلفتها أقل على الحكومة والمجتمع.

 

تلك الحالة تنقلنا إلى الوجه الآخر لحالة عدم التحديد، وهو المخاطرة. فانطلاق الاقتصاديين الحكوميين من مناطق غير محددة لاتخاذ القرارات؛ يؤدي إلى انحراف النتائج عما هو متوقع أو مطلوب، وهذه هي المخاطرة في علم الاقتصاد أو المالية (عندما تحيد النتائج الاقتصادية عما هو متوقع، أو يحيد العائد على استثمار ما عما هو متوقع).

 

وهنا يمكننا التحدث عن أزمة اقتصادية وليس عن مشكلة؛ لأن هذه المخاطر الناجمة عن القرارات، تضاف إلى جملة المخاطر الأخرى في الاقتصاد، لتشكل في المحصلة -كما في الفيزياء- قوة كبرى من المخاطر، تحمل نفس الاتجاه وتجمع قوى المخاطر المكونة لها، وهذا أخطر ما في الواقع الاقتصادي.

 

ولكي لا نكون إطلاقيين في وصف المشكلة؛ نذكر أن بعض القرارات كانت على مستوى جيد من حيث معالجتها للمشكلة، إلا أن القسم الأكبر من القرارات يتحول إلى جزء من المشكلة؛ لكون الموضوع مرتبطاً بالعقلية العامة في الإدارة، والتي أنتجت قيماً وثقافة إدارية غريبة التصقت بالقطاع العام.

 

ولكن هل الوضع مأساوي لهذه الدرجة، وما من حلول؟

 

بالطبع لا، فتغيير أي ثقافة يبدأ بتغيير السلوك الذي يولد قيماً جديدة تؤسس لثقافة جديدة، وهذا السلوك يجب أن ينطلق من إزالة حالة عدم التحديد، التي من شأنها تقليص انحراف النتائج عن التوقعات (رياضياً يمكن حساب ذلك الانحراف باستخدام الانحراف المعياري من علم الإحصاء والذي يعتبر أشهر مقاييس المخاطرة).

 

وهذا يتطلب توافر بيانات دقيقة عن الواقع الاقتصادي، وهنا نقصد جودة الرقم الإحصائي من حيث واقعيته، ثم تضمنه أحدث التغيرات، من خلال تحديثه المستمر. ومن ثم إخضاع تلك البيانات إلى المعالجات الإحصائية الدقيقة لرسم صورة دقيقة وتفصيلية عن المشكلة، تتم بعد ذلك معالجة المعلومات واختبار حلولها في إطار علمي صرف.

 

ولكي لا نترك فجوة علمية هنا أو هناك خلال سير العملية السابقة؛ من تحديد المشكلة إلى صنع القرار، يفضل إحداث إدارات معرفة مستقلة عن الوزارات، تتبع لرئاسة مجلس الوزراء، بل أكثر من ذلك يمكن تعيين مدير للمعرفة الاقتصادية والمالية والنقدية أو الصناعية... إلخ، يعمل ضمن مهام مستقلة عن الوزير لتنحصر مهمته بالإدارة التنفيذية.

 

مدير المعرفة الاقتصادية -على سبيل المثال- يعمل مع فريق عمل من الباحثين مهمتهم تحضير قاعدة البيانات عن الواقع الاقتصادي وتحديثها وتحليلها بالطرق الإحصائية الكمية والنوعية، وإجراء اختبارات عقلية لحلول المشكلة، ثم تقديم جملة توصيات للوزير صاحب الكلمة النهاية في اتخاذ القرار.

 

وإدارة المعرفة تلك بعيدة كل البعد عن جوقة المستشارين أو النواب أو أقسام الدراسات والأبحاث، فهي إدارة مستقلة بذاتها، معنية بالمعرفة الاقتصادية الصرفة، أو المعرفة المالية أو النقدية، جلّ اهتمامها بدراسة الواقع الاقتصادي السوري والإقليمي والعالمي، وتلعب دور بنك المعلومات المعالجة والمختبرة والمحدثة باستمرار، وتتميز عن مكاتب الإحصاء بإجراء تحليلات للبيانات ورصد المشكلات الاقتصادية ووضع مقترحات الحلول.

 

وأبعد من ذلك يكون عمل إدارة المعرفة التنبؤ بالمشكلات الاقتصادية قبل وقوعها عبر إستراتيجيات تحليل المخاطر وإدارتها، وبذلك يتم حصر كل الأعمال المعرفية الصرفة في هذه الإدارة، التي تفيد في المحصلة بإدارة المخاطر بشكل دقيق، وبالتالي رفع قيمة الاقتصاد السورية، عبر رفع قيمة الشركات والمؤسسات، وبالتالي الانتقال بالاقتصاد من منطقة عدم التحديد أو اقتصاد المخاطر إلى اقتصاد خلق القيمة من منطقة المعرفة الاقتصادية الرصينة.. وعلى ما اعتقد -بل أؤمن- أن كل المقومات لإنشاء إدارات كهذه موجودة، وبجودة عالية، ولا ينقصنا سوى النية الجدية.

Syriadailynews - Alwatan


التعليقات