على ما يبدو أن المضاربة على الدولار أمام الليرة السورية في الاتجاه الهابط والدخول في مراكز قصيرة - فتح صفقات ببيع الدولار عند مستويات معينة على أمل إعادة الشراء عند مستويات منخفضة - لم تعد ذات جدوى أبداً من جهة العوائد المتوقعة قياساً إلى طول فترة الاتجاه الأفقي الذي يضبط إيقاع تحركات الدولار/ليرة في هامش بين 1.3 و2% بين أعلى مستوى عند 147 وأدى مستوى قرب 145 ليرة سورية.

 

هذا التماسك لليرة أمام الدولار في سوق الصرف السوداء (أو الحرة كما يسميها البعض على أساس أن العرض والطلب هو من يتحكم فيها) الذي تفرضه عدة عوامل يصعب حصرها كلها، أو حتى فهم بعضها، إلا أن الخسارات الكبيرة لأغلب الطارئين على عالم المضاربة في العملات والتي تحولت إلى أرباح لعدد قليل من كبار المتعاملين في السوق؛ كان لها دور رئيس في انخفاض شهية المتعاملين للمخاطر في سوق الصرف، والتي هي الأخرى عالية المستوى ومن الصعوبة ضبط كل المخاطر في سوق الصرف من المتعاملين، حتى باستخدام تنويع المحفظة من جهة عدد وتوزع العملات التي تتم المضاربة عليها، وحتى لو دخل الذهب في المحفظة -لارتباط أسعاره في السوق المحلية بتقلبات الدولار في السوق-.

 

إلى جانب عدة عوامل أخرى ساهمت في فرض ضوابط واتجاهات محددة للطلب على الدولار، منها ملاحقة الصيارفة، في حين يصعب في الحقيقة فهم التحركات الحادة والمؤقتة في المدى القصير، ولكن طالما ليست هناك عوامل تدعمها لما ارتفعت الليرة أمام الدولار بنفس قوة الانخفاض الذي يمكن تسميته «الطارئ».

 

ورغم «عجقة» المطالبات بدعم استقرار الليرة في السوق عند مستويات قريبة من الحالية حتى ينعكس أثر هذا الانخفاض على أسواق السلع والخدمات، إلا أن الأكثر أهمية من ذلك والذي يصب في الهم ذاته؛ انخفاض واستقرار أسعار السلع والخدمات، ويتجاوزها إلى الاستقرار الاقتصادي هو تصحيح وضبط اختلالات أسعار الصرف، لأنه أهم أهداف السياسة الاقتصادية وأحد الشروط الأساسية لتطوير الأداء الاقتصادي وضمان الاستقرار الاقتصادي الكلي.

 

فاختلال أسعار الصرف مسؤول بشكل رئيس عن انخفاض الأداء الاقتصادي وتعميق التوزيع السيئ للموارد وتشجيع هروب رأس المال، لذا يعتبر من أهم منابع الاختلال الاقتصادي، وتصحيحه يتطلب سياسات لإدارة الطلب وكذلك بعض التعديل الهيكلي.

 

بالأرقام:

عملياً هناك عدة مقاييس لاختلال أسعار الصرف، وقد لا يكون التعقيد الرياضي هو سمتها البارزة فقط، بل تباين الآراء الاقتصادية حول العديد منها، إلا أن المقياس الأبسط كأنه من شأنه أن يكون الأكثر واقعية، إلى جانب خلوه من التشوش الرياضي، وهو المقياس الذي يعتمد على الاختلال في سوق الصرف ويستعمل الفرق بين سعر الصرف الموازي (السوق السوداء في حالتنا) وسعر الصرف الرسمي (يصدر في نشرة أسعار الصرف الأجنبي عن مصرف سورية المركزي).

 

هكذا تصبح الأمور أكثر وضوحاً، فمن خلال متابعة تحركات أسعار الصرف في السوق السوداء وفي المصرف المركزي للفترة القريبة الماضية نلاحظ انخفاض معدل الاختلال إلى 2% أو 3% على أبعد تقدير، وهذا ما يجب أن يكون المصدر الحقيقي للإيجابية في اتجاهات عمل الاقتصاد، وما يجب الدفاع عنه من السياسات الاقتصادية وإدارة الطلب على الصرف وإجراء بعض التغييرات الهيكلية في السياسات المتبعة بعد أن وصل معدل الاختلال في بعض الفترات السابقة إلى 50%.

 

وهنا من الجدير الذكر إلى أن السياسات الإسعافية من جهة ترشيد الاستيراد وتقييد الطلب على القطع من المصرف المركزي لا تستطيع دعم سياسات اقتصادية طويلة الأمد تستهدف النمو الاقتصادي، هذا إن لم تكن ذات تأثير سلبي في النمو على المدى الطويل، لأنها إجراءات مرتبطة بطبيعة الأزمة، إلا أن انضباط الاختلال في سوق الصرف في حدود غاية في الأهمية يشكل فرصة ذهبية لإعادة صياغة السياسات الاقتصادية وإجراء بعض التعديلات الهيكلية التي تخدم النمو للخروج من الأزمة بلا قلق من آثارها وتبعاتها على سعر الصرف، مع التذكير بأن الأزمة أفقدت الليرة حتى الآن نحو 68.5% من قيمتها، لذا يجب أن تكون هذا المستوى خطاً أحمر لتحركات الليرة المستقبلية.

 

بـ«القلم نشرح»

من الجدير ذكره أن اختلال سعر الصرف يصف الوضعية التي يكون فيها سعر الصرف في البلد المعني بعيداً عن المستوى طويل الأجل القابل للاستدامة لمستوى سعر الصرف الحقيقي، وعليه فإن أسعار الصرف تكون أقل قيمة أو أكثر قيمة عندما تكون منخفضة أو مرتفعة عن مستواها التوازني.

 

وهذا الاختلال يؤثر في الأداء الاقتصادي عبر قنوات عدة مثل التأثير سلباً في التنافسية، وذلك عن طريق رفع أسعار الصادرات ويؤدي إلى تدهور الميزان التجاري وهدر للموارد الخارجية، إلى جانب التخصيص السيئ للموارد عن طريق إحداث هوة بين الأسعار المحلية والدولية، وكذلك بين الأسعار المحلية، ما يؤدي إلى خفض الاستثمار ورفع خسائر الإنتاج عن طريق انخفاض الفعالية، ولا ننسى التأثير السلبي في الأسواق المالية عن طريق رفع المخاطرة في هذه الأسواق وتشجيع المضاربة على العملة، ما يزيد من خطر الأزمة المالية.

 

هذا وتشير أغلب الدراسات الاقتصادية المتوافرة في هذا المجال إلى قوة العلاقة بين سلوك سعر الصرف الحقيقي والأداء الاقتصادي، وقد أثبتت أن تذبذب سعر الصرف أثر سلباً في النمو في دول أميركا اللاتينية، في حين أدى استقراره إلى انتعاش اقتصاديات جنوب شرق آسيا قبل حدوث الأزمة فيها، كما أن وجود اختلال كبير في بعض الدول الإفريقية أثر سلباً في القطاع الزراعي وأدى إلى انخفاض إنتاج الغذاء فيها.

 

Syriadailynews - Alwatan


التعليقات