(أين الدولة؟) سؤالٌ يطرحه الكثير من السوريين كلّما أرادوا التعبير عن سخطهم على من يتلاعب بلقمة عيشهم من تجار الأزمات، تلاعب يترافق مع محدودية دور الوزارات المختصة في ضبطِ الأسواق والحفاظ على الأمن الغذائي للمواطن خلال واحدةٍ منْ أشد الأزمات التي عرفتها سورية منذ الاستقلال، أزمة في خضمها يثابر السوريون على إظهار أفضل ما لديهم وأسوأ ما لديهم في آن.
هكذا إذاً، بعد نحو ستة وستين عاماً على قيام الدولة السورية المستقلة (1946) يعودُ السوريون ليتساءلوا عن «الدولة» التي يقعُ على عاتقها حماية وجودهم في مواجهة من يريد قتلهم بالرصاص أو بالرغيف، أي يتساءلون عما يُطلق عليه بالمعنى المؤسساتي الدولة الحامية «Etat gendarme» التي ينحصرُ دورها بتأمين العناصر الأساسية للبقاء وليسَ عن الدولة الراعية «Etat providence» بما تمثله من حماية شبه تامة لمواطنيها من خلال تبني سياسة توزيع عادل للدخول، إحداث تطور كبير في ممارسة الديمقراطية على المستوى الوطني، رفع حجم الإنفاق الاجتماعي من الدخل القومي، إضافة إلى حد أدنى أو ضعيف من الفساد، ولسياسات اجتماعية عامة تمتاز بالفعّالية وسرعة التنفيذ، هذه السمات شكَّلت الأساس لمفهوم الدولة الراعية القائمة اليوم -وبنسب متفاوتة- في أوروبا، مفهوم رسمَ «بسمارك» خطوطه العريضة وطبقته ألمانيا منذ عام 1883، وازداد الشعب الألماني إصراراً على التمسك بها كلما خرج مهزوماُ من حروبه مع الجوار الأوروبي.
ربما خرج علينا من يقول إنه في حالة الأزمات الخطيرة يحدث أن يتراجع دور الدولة في بعض «المفاصل»، ولكن على القائل بهذا الرأي أن ينتبه أننا نتحدث عن دولة تأسست في منتصف القرن الماضي، وعرفت من الحروب وحالات عدم الاستقرار أكثر من أي دولةٍ عربيةٍ أخرى، وخلال هذه الأزمات وتلك الحروب لابد أن السوريين قد تساءلوا ( أين الدولة؟)، ولا بد أنهم لاحظوا أيضاً أن الدولة استمرتْ بالبقاء وتجاوزت الأزمات لكنها لم تتجاوز أسبابها بدليل أن الأزمات ذاتها استمرت بالتوالي، ليستمر تراجع الدولة في بعض «المفاصل»، وليستمر السوريون بطرح التساؤل ذاته (أين الدولة؟).
ظاهرياً يبدو الأمر أشبهُ بالأحجية إذ يعجز كبار الفقهاء في القانون والاقتصاد أن يفسروا كيفَ يمكن لدولة أن تستمر بالوجود مع أن دورها في الأزمات الحادة يتراجع وبشكلٍ حادٍ أحياناً، ولكن هذه الأحجية تجدُ حلاً لها في سورية فالسوريون ببساطة نجحوا في إقامة وطن، لكنهم - بتقديري الشخصي - حققوا نجاحاً محدودا في ترسيخ الهوية المؤسساتية للدولة، فاليوم - وباستثناء مؤسسة الجيش العربي السوري - تبدو مؤسسات الدولة السورية إما ذات قدرة ضعيفة على التراكم (كمؤسستي التعليم والقضاء مثلاً)، أو أنها - على غرار المؤسسات المسؤولة عن الاقتصاد والتنمية الاجتماعية - ما زالت في طور التجريب لإيجاد هويتها وفي هذا عين الخطر إذ - وبالمقارنةً مع ما هو قائم اليوم في الدول الغربية - تُشكل الهوية الاقتصادية للدولة البوصلة التي توجهُ عملَ بقية المؤسسات، من هنا فالهوية الاقتصادية الهلامية - والتي تترافقَ مع ارتفاع نسب الفساد وغياب التعددية الحزبية - بما تعنيه من برامجَ تضعها الأحزاب المختلفة ويكون محورها تعميق المكاسب الاجتماعية للمواطن تؤدي إلى تراجع دور مؤسسات الدولة في الأزمات الحادة في سورية -وخاصة مع بداية الألفية الثالثة - طالما دفع المواطن ضريبة عدم وضوح هوية الاقتصاد السوري، بالنتيجة يجدُ المواطن السوري نفسه في الظروف العادية حقلاً لتجارب الحكومة، أما في الأزمات فيدفع ثمنَ غياب البرامج المُعدة سلفاً لمواجهتها على الرغم من أن تلك الأزمات هي دائماً من النوع المتوقع والمُتكرر.
يعتقد أصحاب الاختصاص العلمي في الغرب «المتآمر» أن الدولة التي لم تُحدد هويتها الاقتصادية والاجتماعية في فترات الاستقرار يصعُب عليها النجاة من الانهيار في أوقات الأزمات، ولكن - حتى الآن- لا يبدو أن هذه النتيجة تنطبق على سورية، تفسير ذلكَ بتقديري يُعزى إلى أن حالة انتماء السوريين إلى وطنهم كانت أعمق بكثير من مظلوميتهم تجاه أداء مؤسسات دولتهم، فبالنسبة لهم كان حضورُ الوطن في الأزمات أقوى من تراجع دورِ الدولة خلالها، بل أستطيع الجزم بأن المواطن السوري أعتادَ أن يسدّ الهوّة الموجودة بين «الوطن القائم» و«الدولة المُشتهاة» عبرَ تغذية مشاعر التمسك بالوطن، والأكثر منْ ذلك أنه كلَّما اتسعتْ هذه الهوّة كانت مظلوميته تجاه الدولة تكبُر وبالمقابل تعلقه بالوطن يزداد، ولكن ما إن يُستهدف الوطن وترتفع صيحة (أين الدولة؟) حتى يُسقط السوري كل مظلومية له تجاه الدولة وينهض مُدافعا عن وطنٍ بدا عارياً في عين الإعصار، وليخرجَ في كلِ مرةٍ منتصراً به ومعه، وبعدها يعود مجدداً ليراكمَ مظلوميته تجاهَ الدولة بانتظار الوقوع في «أزمةٍ» جديدة.
لقد كنتُ من بين أولئك الذين عقدت الدهشة ألسنتهم عندما قرأت - عام 1990 - كتاب «سأخون وطني» للرائع محمد الماغوط، لأكتشف بعد دراستي للحقوق أن العنوان الحقيقي للكتاب هو «سأخون دولتي».
أُدركُ تماماً بأن التحليل الآنف الذكر شديدُ القسوة، وربما رأى فيه البعض تجنياً على منجزاتٍ تم تحقيقها بالفعل في قطاعاتٍ معينة كالصحة والتعليم ودعم بعض السلع الأساسية، لكن بالنسبة لي عشبة واحدة لا تعني الربيع، كما أنه ليس المهم أن تزهر بالربيع لأن في الربيع حياة لكل كائنٍ حي، ولكن المهم أن تحافظ على خضرتك في الشتاء حيثُ لا بقاءَ إلا للسنديان.
مديحي للقسوة في التعاطي مع سورية «الدولة ناجمٌ عن انحيازي لسورية» الوطن التي أقول بها ما قاله النبي محمد (ص) بالمرأة: «ما أكرمها إلا كريم وما أهانها إلا لئيم». قد يكونُ صعباً على البعض - وهذا طبيعي - أن يستوعبَ الفارق بين مصطلحي الوطن والدولة، أو أن يفهم - وهذا أكثر صعوبة - الرابط مابين حضورِ الوطن وغياب الدولة، ولكن سأسهلُ المهمةَ علينا جميعاً في فهم هذا الفارق وذاك الرابط عبر طرحِ الأسئلة المذكورة أدناه مُعترفاً أن تلك الأسئلة هي ما دفعني إلى مديحِ القسوة في التعاطي مع مؤسساتٍ مازالتْ بمعظمها مُقصرة عن الارتقاء بنفسها إلى مستوى تعلق السوري بصدرِ أمّه سورية حتى ولو كان حليبها «المؤسساتي» مُراً، وهاكم الأسئلة:
لماذا يُركز الخطابُ السياسي على كلمة «الدولة» في الأحوال العادية، في حين يُركز على كلمة «الوطن» في أوقات الأزمات؟
لماذا يُفرّق الكثيرون بين مصطلح «رجل دولة» ومصطلح «رجل وطني»، وكمّ عدد الشخصيات السورية التي حظيت بشرفِ الدمج بين المصطلحين؟
لماذا كانَ درسُ التدريب العسكري - في القرّ والحرّ - أحبَّ إلى قلوبنا من دروس التربية القومية الاشتراكية؟
لماذا كان جيلنا - جيل السبعينيات - يلاحق مارسيل خليفة ومحمود درويش ومظفر النواب من محافظة إلى أخرى، على حين كان معظمنا مُستعداً للنزول من باص النقل الداخلي لدى سماعه وزيراً يشرحُ أهداف الخطة الخمسية؟
لماذا تستخدم الأغاني الوطنية - التي لا نسمعها إلا في وقت الأزمات - كلمة «وطن» ولا تستخدم كلمة «دولة»؟
منْ منّا لا تدمع عيناه زهوا بالوطن لدى سماعه حليم يغني «أحلف بسماها وبتربها»، هذا الزهو لا يلبث أن يتحول إلى إحساس بالسخط والخيبة عندما ندرك أن (البنية التحتية) التي يُقسم بها حليم كانت - قبل الأزمة - «آخ»، وصارت اليوم «يا خسارة»؟
أسئلة في عهدة كل سوري بوصفه الابن الشرعي لسبعة آلاف سنة من تلاقح الدم بالياسمين، تلاقح جعل قسوة السوري بلا حدود لأن عشقه دائماً ليس له حدود، تلاقح لو قيض لي أن أصفه لقلت في سورية الوطن ما قاله شاعرها المنسي رياض صالح الحسين في ديوانه «بسيط كالماء.. واضح كطلقة مسدس» (1982):
يا سورية الجميلة السعيدة
كمدفأة في كانون
يا سورية التعيسة
كعظمة بين أسنان كلب
يا سورية القاسية
كمشرط في يد جرَّاح
نحن أبناؤك الطيِّبون
الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك
أبدًا سنقودك إلى الينابيع
أبدًا سنجفِّف دمك بأصابعنا الخضراء
و دموعك بشفاهنا اليابسة
أبدًا سنشقّ أمامك الدروب
و لن نتركك تضيعين يا سورية
كأغنية في صحراء.
2013-05-16 14:15:05