يعيش لبنان حالياً أزمة اقتصادية ومعيشية طاحنة لم يشهدها من قبل، والآن يأتي قانون قيصر ويصب المزيد من الزيت على نارها بحكم العلاقات الاقتصادية اللبنانية الوثيقة مع سوريا، كيف يستطيع اقتصاد لبنان تجاوز أزمته دون سوريا؟

دعونا نترك الكلام المسيس عن العلاقات الاقتصادية اللبنانية السورية جانبا ونركز على بعض الوقائع والمعطيات التي تعطي نظرة أكثر واقعية عن هذه العلاقات. بداية ومنذ عام 2013 ليس أمام ملايين السوريين ومن أصل سوري في المهاجر سوى سلوك أجواء لبنان وطرقه للوصول إلى وطنهم الأم بسبب الحظر الغربي على السفر الجوي إلى سوريا. وعندما كنت أصعد الطائرة المتوجهة من برلين إلى بيروت، كنت اكتشف في كل مرة الحضور السوري الكثيف على متنها. وإذا كنت من القلائل الذين يبيتون عند أصدقاء لي بالقرب من بيروت، فإن البقية كانت تقيم في فنادقها أو تتبضع في متاجرها وعلى طرقها الدولية باتجاه دمشق وحلب واللاذقية ومدن سورية أخرى. وهو الأمر الذي ساهم في إنعاش السياحة والسفر إلى بلاد الأرز في وقت ابتعد عنها سياح الخليج خلال السنوات السبع الماضية.

سوريا ثالث سوق للصادرات اللبنانية

غير أن العلاقات ذات الطابع الاقتصادي بين لبنان وسوريا تتجاوز السفر وخدماته إلى مختلف المجالات. على سبيل المثال تحتل فروع المصارف اللبنانية العاملة في سوريا المرتبة الثانية في حجم الانتشار والودائع بعد نظيرتها السورية. وتذهب التقديرات إلى أن أرباحها تصل إلى عشرات ملايين الدولارات سنوياً، وفي مقدمتها “بنك بيمو” و”سوريا والمهجر” و”فرنسبنك” و”بنك عودة”. ويودع السوريون في المصارف العاملة ضمن أراضي لبنان أكثر من 45 مليار دولار حسب أكثر من مصدر، ما يشكل أكثر من ثلث ودائع هذه المصارف. وطوال سنوات الحرب لعبت الأخيرة دوراً كبيراً في تمويل مستوردات سورية حالت العقوبات دون استيرادها عبر البنوك السورية. وهناك تبادل زراعي وصناعي يشمل بشكل رئيسي الخضار والفواكه ومصادر الطاقة ومواد البناء استمر خلال سنوات الحرب السورية. ويدل على هذا التبادل توجه 7 بالمائة من الصادرات اللبنانية بقيمة أكثر من 210 مليون دولار إلى سوريا في عام 2018 حسب مؤسسة التجارة والاستثمار الألمانية GTAI. وبذلك تحتل سوريا المرتبة الثالثة بعد الإمارات والسعودية كأهم سوق للصادرات اللبنانية. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار تجارة التهريب المزدهرة في الاتجاهين، فإن حجم التبادل التجاري يصل إلى أضعاف الأرقام الرسمية.

كما أن الصادرات اللبنانية البرية إلى دول الخليج والعراق والأردن وبقية العالم تمر عبر سوريا. ويعتمد قطاعي الزراعة والبناء في لبنان حتى وقت قريب على العمالة السورية الرخيصة بالدرجة الأولى. وبالمقابل اعتمدت سوريا بشكل كبير وما تزال ولكن على نطاق محدود على الكفاءات اللبنانية العالية التكلفة في الخدمات المصرفية وخدمات الإنترنت والاتصالات وغيرها. هذا التشابك يعني من ضمن ما يعنيه أيضاً أن عشرات آلاف الوظائف سواء في لبنان أو سوريا مرتبطة بهذا التشابك الكثيف في المصالح والعلاقات.

الشركات اللبنانية وعاصفة قيصر

يتركز الحديث بخصوص تبعات قانون قيصر الأمريكي على استهداف الشركات الإيرانية والروسية التي تدعم الحكومة السورية وتنوي المشاركة في ورشة إعادة إعمار سوريا. غير أن الأكيد بأن هذه القانون سيصيب الشركات والبنوك اللبنانية أكثر من غيرها، لاسيما تلك التي تعمل في المجالات الهندسية والطاقة والبناء والنقل والتجارة والبنى التحتية الأخرى. وقد اعتادت العشرات منها على العمل في السوق السورية قبل الحرب وخلاله. ومع البدء بتطبيق القانون فإن غالبيتها ومعها البنوك اللبنانية ستتوقف عن التعاون مع الجانب السوري خوفاً من المسائلة ووضعها على لائحة العقوبات الأمريكية. ومن ضمن ما يعنيه ذلك تضرر وفقدان الآلاف من فرص العمل ومزيد من التدهور الاقتصادي في البلدين. مقابل ذلك فإن دور التهريب وداعميه من مسؤولي وصناع قرار في البلدين سيتوسع ويتعزز. ومن أبرز السلع التي يتم تهريبها البنزين والديزل والأغذية والأدوية والألبسة وقطع التبديل على اختلافها.

التهريب يفوت المليارات الخزينة

وتتهم الولايات المتحدة وجهات لبنانية مؤيدة للغرب حزب الله اللبناني بممارسة تجارة التهريب مع سوريا عبر عشرات المعابر غير الشرعية ويطالبون بإغلاقها على أساس أنها تفوت على الخزينة اللبنانية 4 مليارات دولار سنوياً حسب تقديراتهم. وبالطبع فإن مثل هذه التجارة تفوت أيضاً على الخزينة السورية أموالاً طائلة سنة بعد الأخرى، لاسيما وأن منتجات سورية زراعية وصناعية رخيصة بينها الألبسة والمنسوجات تدخل إلى الأراضي اللبنانية عبر طرق التهريب. الجدير ذكره أن التهريب رائج بين سوريا ولبنان منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي عندما بدأ الغرب بفرض عقوباته على سوريا.

صندوق النقد ليس على عجلة

يأتي دخول قانون قيصر حيز التنفيذ في وقت يعاني فيه لبنان أزمة مديونية وضعت اقتصاده على حافة الإفلاس والانهيار. وزاد من حدة الأزمة عوامل أخرى أبرزها الاحتجاجات المستمرة على الفساد في مختلف المناطقة اللبنانية منذ أكتوبر/ تشرين الأول من العام الفائت، وتبعات فيروس كورونا التي أدت إلى عزل لبنان عن العالم الخارجي وهو الذي يعتمد بشكل كبير على السياحة والسفر. ويزيد الطين بلة بطء وتعقيد محادثات الحكومة اللبنانية مع صندوق النقد الدولي مؤخراً بهدف الحصول على قرض إسعافي بقيمة 10 مليارات دولار لخدمة أقساط الديون المتراكمة وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين اللبنانيين الذي فقدت ليرتهم أكثر من ضعف قيمتها خلال الأشهر القليلة الماضية. ويعود هذا التعقيد لأسباب من أبرزها مطالب الصندوق بإصلاحات جذرية تشمل خصخصة مؤسسات الدولة وتطال مصالح النخب الطائفية المهيمنة على صناعة القرار السياسي اللبناني. وهو الأمر الذي ترفضه الأخيرة دون أن تقدم بدائل لعملية الإصلاح.

هل تدخل الصين وتقلب الطاولة؟

يبدو لبنان اليوم على مفترق طرق بسبب أزمته المالية والاقتصادية ومطالبته من قبل واشنطن باتخاذ قرارات صعبة في مقدمتها التضحية بعلاقته الحيوية مع سوريا وعبرها. وفي المقابل فهو بحاجة إلى رضا واشنطن للحصول على قرض صندوق النقد الدولي الذي تملك هي وحلفائها غالبية الحصص فيه. وإذا لم يحصل لبنان على بعض الاستثناءات في علاقاته مع سوريا كما حصل العراق على مثل ذلك في علاقاته مع إيران، فإن استقراره السياسي والأمني والسياسي سيكون مهدداً بحكم رفض حلفاء سوريا فيه وفي مقدمتهم حزب الله تقليص العلاقات مع سوريا وإيران.

في هذه الأثناء يستمر المد والجزر بين الأطراف الفاعلة على الساحة اللبنانية ومعه تعود الاحتجاجات إلى الشارع وتتفاقم الأوضاع المعيشية للمواطنين اللبنانيين بشكل ينذر بانهيار اقتصادي وفوضى أمنية قد يندم حلفاء لبنان في الغرب والخليج على حصولها. وسيكون هذا الندم إلى غير رجعة إذا دخلت الصين على خط تقديم قروض بشروط أقل من مثيلتها لدى صندوق النقد الدولي. وهو ما فعلته بكين مع اليونان وباكستان وصربيا ودول أخرى. الجدير ذكره أن هناك أكثر من إشارة صينية لاستثمارات تزيد على حجم القرض المطلوب من الصندوق الدولي.

سيريا ديلي نيوز


التعليقات