ما إن تسأل عن سعر أي سلعة حتى يمسك التاجر الآلة الحاسبة ويجري عملية حسابية لسعر الدولار، وكأن العملة المستخدمة هي الدولار وليست الليرة السورية، فمن البيضة إلى ربطة البقدونس إلى شراء السيارة، كلها تسعر على الدولار، ومع التغيرات الزئبقية لسعره أصبحت أسعار السلع المحلية تتغير خلال ساعات سواء كانت معنية بالدولار أم لا! فهل دخلنا في مرحلة «دولرة الليرة»؟:

كيف يمكن للشرائح الكبيرة التي تحصل على دخل يصنف ضمن أقل الأجور في العالم أن تتدبر أمورها بمواد تسعر على دولار يتحرك كالزئبق؟

وهل من حلول للخروج بحلول تخفف من سطوة الدولار على حياة الناس اليومية؟ في هذا الموضوع الكثير من الآراء المختصة التي تحلل أسباب ونتائج وحلول تدخّل تسعيرة الدولار في الأسعار المحلية.

ضمن تسعيرة الصرف!
إن أكثر من 70-80% مما نستخدمه مستورد ويدخل ضمن تسعيرة الصرف كما يقول الخبير الاقتصادي شادي دهام وخبير الصناعات الغذائية، لكن هنالك مواد يؤثر فيها سعر الصرف جزئياً، ومع ذلك، ترتفع أسعارها من دون مسوغ مع ارتفاع سعر الدولار، فمثلاً ارتفاع سعر العلف المستورد لا يسبب كل هذا الارتفاع في سعر صحن البيض، وزيادة سعر صحن البيض الجنوني في الأسواق المحلية، سببها زيادة الطلب عليه، أما التكاليف فلم ترتفع بالشكل الذي يسوّغ كل هذه التسعيرة الجديدة المرتفعة، ولكن يرى الخبير دهام أن السبب هو أن ارتفاع سعر الدولار يؤدي لزيادة الطلب على البيض في المناطق الحدودية، ومن ثم يتم استجرارها بكميات كبيرة من قبل التجار وتهريبها للدول المجاورة في ظل غياب دور ومهام عناصر الضابطة الجمركية في حماية الحدود.

ويركز الاقتصادي دهام على دور وجشع التجار في ارتفاع أسعار المواد غير الحقيقي، وكذلك الانفلات الاقتصادي، ويرى أن ضبط الأسعار يجب أن يكون من الحلقات الأولى وصولاً إلى تاجر المفرق، أما الضغط على الحلقات الأضعف فلن يحقق النتائج المطلوبة، بل يجب أن يكون الضبط من المصنّع والمستورد إلى تاجر المفرق.
وذكر دهام أن هنالك الكثير من المعامل التي توقفت عن العمل بسبب التغير الدائم في سعر الدولار وعدم سماع أي «صوت» للمصرف المركزي أو الإعلان عن موقفه تجاه ما يجري لسعر الصرف، ما دفع أصحاب محال أيضاً لإغلاق محالهم أيضاً ريثما يستقر سعر الدولار.
وأضاف دهام أن ليتر الزيت الأبيض مثلاً يتأثر بالدولار أكثر من زيت الزيتون لأنه مستورد وحتى العبوة مصنعة من حبيبات مستوردة تتأثر بالدولار، لذلك نلاحظ ارتفاعاً في سعره أكثر من زيت الزيتون.

كان ثابتاً
وعن الأسباب التي تجعل تفاصيل الحياة اليومية تتأثر بسعر الدولار إلى هذا الحد رأى دهام أن تقلبات الدولار في السابق لم تكن ملحوظة بالشكل الذي يحصل الآن، فسعر الصرف كان ثابتاً أو يتغير بمبالغ محدودة خلال عدة أشهر فلا يتجاوز 30 ليرة سورية مثلاً، أما حالياً فسعر الصرف يقفز قفزات عالية جداً إذ تحرك الدولار من 535 ليرة إلى 650 ليرة إلى 600 ليرة ثم 1000 ليرة ثم 750 ليرة ومن ثم إلى أن تجاوز الـ900 ليرة حالياً، وهذا الارتفاع والانخفاض تنتج منه حالة غير اقتصادية، خاصة أنه يرتفع من دون وجود أسباب للزيادة، وهذه الزيادة تدفع كل أصحاب الفعاليات الاقتصادية لزيادة نسبة الربح أكثر مما هو مسموح لهم، خشية ارتفاع آخر للدولار، فالتاجر الذي يخزن أطناناً من السكر لن يبيعها بالسعر القديم للدولار حتى لو أنه لم يشترها بالسعر الجديد له، ولكنه سيترك هامش أمان وربح للأمام، وهنا المشكلة، خاصة مع غياب جهات رقابية تحاسبه.

لا تعود للانخفاض!
الباحثة الاقتصادية والوزيرة الأسبق الدكتورة لمياء عاصي تستعرض في حديثها عن الدولار.. والمؤشر العام للأسعار في سورية وتقول إن الأسئلة عن الأسعار تتكرر من قبل عدد كبير من الناس، وإن السعر بالنسبة لأي سلعة يتكون من عدة عناصر منها تكاليف الإنتاج والنقل والتأمين والرسوم الجمركية إذا كانت مستوردة إضافة لتكاليف ثابتة متنوعة، تضاف لتلك التكاليف: توفر المنتج، تنوع مصادر إنتاجه، توفر بدائل عنه، وما بات معروفاً أن ارتفاع سعر صرف الدولار الأمريكي أمام الليرة السورية يسبب ارتفاع أسعار كل المواد في الأسواق، ولكن عندما يحصل العكس لا تعود أسعار السلع للانخفاض مثلاً:

لماذا ترتفع أسعار السلع والخدمات مع ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية، بينما إذا انخفض سعر الدولار لا تنخفض تلك الأسعار؟

تجيب د. العاصي بأن التاجر في كل زمان ومكان لديه هاجس دوران البضاعة، بمعنى شراء بضاعة بدلاً عن المبيعة، بأن يستورد أو ينتج مثلها أو أكثر، مضافاً لتلك العملية مبلغ الربح، فإذا ارتفع الدولار أو انخفضت الليرة السورية، مع عدم القدرة على شراء بضاعة مساوية لتلك المبيعة يعد خسارة، والمخزون من البضاعة سوف ينخفض تباعاً، لذلك من الطبيعي أن يسارع التاجر إلى رفع سعر بضاعته عندما يرتفع سعر الدولار أو ينخفض سعر الليرة السورية.
أما السؤال الثاني فهو: لماذا لا ينخفض سعر السلعة عندما ينخفض سعر الدولار مقابل الليرة، والجواب هنا: إن السعر المتذبذب صعوداً وهبوطاً لا يعطي التاجر الثقة والشعور بالأمان بأنه يستطيع أن يعوض بضاعته بالسعر الذي باع فيه، فهو يعطي لنفسه هامش أمان لاستقرار سعر العملة، وهذا ينعكس على سعر البضاعة، وتعرف السعر أنه نقطة التوازن بين العرض والطلب في سوق حر مفتوح، أما في سورية، حيث هنالك ضعف المنافسة، وهناك احتكار لبعض السلع من قبل المستوردين أو المنتجين، فإن فرصة المستهلك للاختيار بين السلعة وبدائلها تصبح محدودة.
النقطة الأخيرة التي تطرحها د. العاصي أنه في ظل غياب مؤشر أسعار المستهلك في سورية الذي يعكس أسعار السلع التي تمثل سلة الاستهلاك الأساسية، أصبح الدولار يلعب دوراً أساسياً في المؤشر العام للأسعار، بغض النظر عن علاقة السلعة بالدولار.
وإنه في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، وعدم ثبات القرارات بالنسبة للاستيراد، والبيروقراطية المفرطة لإقامة المنشآت الإنتاجية واستمرار الإنتاج وتطوره، يبقى السعر غير مستقر وغير واضح المعالم وعملية التسعير ما هي إلا عملية من طرف واحد وهو التاجر الذي يتحكم بعرض السلع خصوصاً في ظل تذبذب القدرة على الإنتاج والاستيراد إضافة إلى ضعف الثقة بالعملة السورية.

شبه «دولرة»
وأمام واقع كهذا يصبح من المسوّغ أن نتساءل فيما إذا كنا دخلنا مرحلة «الدولرة» والتعامل بالدولار عوضاً عن الليرة السورية؟
الخبير الاقتصادي د. عمار يوسف يؤكد أنه سواء شئنا أم أبينا أصبح الدولار يشكل جزءاً كبيراً من حجم التعاملات في سورية خاصة فيما بين المواطنين، وفيما يتعلق بالعمليات التجارية من بيع وشراء – عقارات – بضائع – عمليات الاستيراد والتصدير، فنحن الآن دخلنا في مرحلة شبه «الدولرة»، أي إن أي تعامل في السوق المحلية وبكل أسف يتم تقييم السعر فيه على أساس الدولار، ودائماً يتعاملون مع الحد الأقصى للدولار، على أساس أنهم سيعاودون استيراد السلع مرة ثانية، وهذا يتسبب في عدم ثبات الأسعار في السوق المحلية، ويؤكد د. يوسف أن المشكلة في تذبذب وعدم ثبات سعر الدولار أكثر من ارتفاعه، لأن أسعار المواد ترتفع مع كل ارتفاع لأسعار الدولار، وتبقى على حالها عندما تنخفض أسعاره خاصة المواد الغذائية، كما إن التجار في كل تعاملاتهم التجارية، وحتى تجار البقاليات يذكرون أسعارهم بالدولار مقابل الليرة لتسويغ أسعارهم المرتفعة، وهذا يعني عملياً الدخول في مرحلة «الدولرة»، وهنالك تجار يطالبون بتثبيت السعر على الدولار عند شراء عقار أو بيعه، وحتى عند شراء البضائع التي تحتاج عملية استلامها وتسليمها أو إجراء عملية فراغ العقارات إلى زمن يطالب التاجر بتثبيت السعر بالدولار لدرء مخاطر تذبذب سعره، وفي حال عدم تثبيت السعر بالدولار يتم التراجع، وإذا حصل ارتفاع أو انخفاض في سعره يتم إلغاء العقود والبيوع، ويرى يوسف أن كل هذه السلوكيات علامات على «الدولرة»، لكنها ليست حالة عامة، وإذا تحولت إلى حالة عامة سيكون تأثيرها كبيراً في الموظفين الذين يشكلون القطاع الأكبر من الشعب، وراتب الموظف على دولار يعادل 900 ليرة يتراوح بين 30-60 ألف ليرة، وعند الحديث عن قانون «سيزر» تصبح عملية «الدولرة» هي الضرر الأكبر على المواطن عموماً والموظفين خصوصاً أو من كانوا يسمون سابقاً الطبقة الوسطى، لأن «الدولرة» تعني القضاء الكامل على المداخيل والمدخرات الموجودة عند هؤلاء الأشخاص.
أضاف يوسف أن انخفاض قيمة الليرة يدفع الكثيرين إلى التوجه لشراء الدولار مباشرة، أو شراء الذهب، وهذا يؤثر في الاقتصاد كثيراً، وما يزيد الأمر سوءاً هو عدم تدخل السلطات النقدية، وحالة النوم العميق التي يغط فيها المركزي، والاكتفاء بتثبيت السعر على سعر غير منطقي وهو 435 ليرة، ويصف هذا بالأمر بغير المقبول في ظل هذه الظروف، ويعتقد أنه يجب معالجة الأمر بخطوات سريعة وحازمة، ودعا يوسف إلى إيجاد ما يسمى قانون طوارئ اقتصادي خاص في هذه الظروف التي نمر فيها، فلاشك في أن بداية قانون الطوارئ الاقتصادي تبدأ من عمليتين أساسيتين:
منع تداول الدولار ومنع حيازته، وهذا الشيء يفقد الدولار القيمة الائتمانية التي يستخدمها المواطن حاليا ويلجأ إليها،وهذا شيء مهم جداً بالنسبة لبلد في حالة حرب اقتصادية غير مسبوقة.

طبيعي ومنطقي
يتقاطع رأي الخبير الاقتصادي د. عابد فضلية مع كثير من النقاط السابقة، ويقول إنّ للدولار (أو أي قطع أجنبي يستخدم لتسديد قيمة المستوردات) علاقة مباشرة وعلاقة غير مباشرة بالأسعار، فإذا كانت السلعة المستوردة جاهزة يزداد سعرها بالليرة (بتأثير مباشر) بنسبة ارتفاع سعر الدولار نفسها في السوق الموازية على الأقل، أما إذا كان الشيء المستورد مادة أولية أو وسيطة فيزداد سعر السلعة الجاهزة المحلية بمقدار (بنسبة) احتوائها من هذه المادة الأولية أو الوسيطة المستوردة على الأقل.. ويصف هذا الأمر بالطبيعي والمنطقي والموضوعي، وإنه يزداد السعر بالليرة ( على الأقل) لأن المستورد أو المنتج المحلي يضيف إلى سعره في الداخل نسبة إضافية تحسباً لارتفاع مستقبلي محتمل لسعر الدولار إذ إنّ مقدار هذه النسبة الإضافية يزداد في حال كان سوق القطع متذبذباً باتجاه الارتفاع، وهذا سبب التأثير المباشر وغير المباشر (نص نص) وهو مسوغ جزئياً.

تكاليف المعيشة
أما عن موضوع العلاقة غير المباشرة لارتفاع سعر الدولار بارتفاع مستوى أسعار السلع ولو كانت منتجة محلياً وموادها الأولية محلية ١٠٠ % وكذلك ارتفاع تكلفة الخدمات ومنها أجرة الحلاق والسباك مثلاً فأجاب:
عندما ترتفع أسعار السلع المستوردة كلياً أو جزئياً (وهي كثيرة) يسود الغلاء جزئياً، فترتفع تكاليف العيش على الناس الذين يشترونها، فيقومون هم أيضاً برفع أسعار السلع المحلية التي ينتجونها أو يتاجرون بها، ليس لأن تكلفتها ارتفعت بل لأن تكاليف العيش زادت بسبب ارتفاع أسعار ما هو مستورد… فتزداد أجرة الحلاق والسباك ويرتفع سعر باقة البقدونس.. عشوائياً (والمسوّغ كما ذكرنا ليس ارتفاع التكلفة بل ارتفاع تكاليف المعيشة).
ويرى د. فضلية أنّ كل ذلك (سواء كان مسوغاً أم لا) يتم بسرعة وعشوائياً وبمناخ عام متخوف ومضطرب، تؤجج سلبيته مواقع التواصل الاجتماعي وقلة المعلومات عن حقيقة أسعار السوق، وتخبط بعض الجهات الرقابية وسلبية تفسيراتها للحالة وتحميلها أسباب ذلك فقط لجشع التجار، وربما بالمعالجات الخاطئة أحياناً.

البدائل الممكنة
يحدد د. فضلية البدائل الممكنة للحدّ من سيطرة الدولار على الأسواق المحلية بعدة إجراءات ويرى أن أهمها:
– توفير أهم أنواع السلع بالتدخل الإيجابي، ومنع احتكارها، ويمكن أن يتم استيراد ما هو لازم منها من قبل أو لمصلحة «السورية» للتجارة.
* ترشيد الاستيراد ترشيداً حقيقياً.
* لجم التهريب لجماً فاعلاً وحقيقياً.
* تفعيل أدوات السياسيين النقدية والمالية وأدوات السياسات الاقتصادية والاجتماعية، على أن تكون هذه السياسات جميعها متصلة متكاملة متفاعلة متناغمة بعضها مع بعض على نحو تحقق الأهداف التي أهمها توفير السلع بأسعار معقولة إضافة إلى لجم الطلب على الدولار ولجم تهريبه للخارج.

أما المقترح الأهم على الإطلاق -كما يراه الخبير الاقتصادي- فضلية فهو على مستويين:
الأول اتخاذ كل ما يلزم لتحريك عجلة الإنتاج وخاصة منه (المنتج لبدائل المستوردات والتصديري).
والمستوى الثاني: اتخاذ كل ما يلزم لتحريك الأنشطة الاستثمارية بما في ذلك تشغيل المدخرات العائلية والودائع المصرفية لتصب في عروق الاقتصاد بدلاً من ذهابها إلى المضاربة على الدولار أو بقائها عقيمة في أقبية المصارف، ويعتقد الخبير فضلية أنّ نجاح ذلك يتطلب جهود كل الجهات الحكومية ذات الصلة بالتنسيق مع تنظيمات ومنظمات القطاع الخاص الاقتصادية، وأن للإعلام الواعي والذكي دوراً كبيراً في كل ذلك.

يسرى ديب- صحيفة تشرين

سيريا ديلي نيوز


التعليقات