ملخص تنفيذي

­ يواجه الاقتصاد السوريُّ أنواعاً مختلفة من التحديات بعد ثماني سنوات من الحرب التي يمكن أن تُفضي إلى أزمات وكوارث كبرى، إذا لم تُعالج بشكل منهجيّ ومبرمج، ولعل أهم تلك التحديات، بل التحدي الأخطر الذي يواجه الاقتصاد والمجتمع السوري حالياً، وفي مرحلة ما بعد الحرب، هو التفاوت الصارخ في توزيع الثروات والدخول. ­ إنَّ التفاوت الكبير في التوزيع وعدم الإنصاف يعدُّ واحداً من أهم الأسباب التي تجعل المواطنين أقل ثقة ببعضهم بعضاً، وأقل ثقة بالحكومة، وبالنظام السياسي والاقتصادي القائم، وواحداً من معيقات النمو الاقتصادي، وإحدى قنوات إعادة بناء الثقة هي الإنصاف في التوزيع. ­ لقد أدّت الحرب والحصار والإجراءات القسرية أحادية الجانب إلى تزايد نسبة الفقر وتراجع حجم الطبقة الوسطى في سورية، لكن ليست الحرب وحدها السبب في ذلك؛ بل يكمن السبب في التوزيع، وفي كيفية استخدام ما هو متاح من موارد. ­ كانت سورية قبل الحرب، أي قبل عام 2011، تقع عند وسطي معامل جيني 38%، إلا أن الحرب وتداعياتها والسياسات الاقتصادية في مرحلة ما قبل الحرب أدت إلى زيادة حدة التفاوت وارتفاع معامل جيني، وتراجع العبء الضريبي إلى مستويات قياسية، بفعل التهرب الضريبي وانتشار اقتصاد الظلّ، وليتحمل أصحاب الرواتب والأجور عبئاً ضريبياً أعلى مقارنة بأشكال الدخول الأخرى، وتراجعت حصة الرواتب والأجور من الدخل القومي، لتصل إلى حدود 20%، وهذه نسبة متدنية جداً.  ­ يترتب على زيادة حدّة التفاوت في التوزيع مجموعة من التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية: • يشكل استمرار التفاوت الحاد في التوزيع خطراً، ليس فقط على استقرار الاقتصاد الكلي، بل وعلى النمو الاقتصادي. • لا يؤدي النمو الاقتصادي المرتفع بالضرورة أو بشكل تلقائي إلى نتائج أفضل في التوزيع. • أدت حدة الاستقطاب في التوزيع إلى تراجع حجم ودور الطبقة الوسطى، تحديداً في سنوات الحرب. • تثبت الوقائعُ كافةً أن للتفاوت الكبير في توزيع الثروات والدخول دوراً مهماً في عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي. وبما أن اللامساواة الاقتصادية في توزيع الثروات والدخول تُترجم عادة على شكل لا مساواة سياسية، سيكون هناك انقسامات سياسية عميقة في المجتمع السوري مستقبلاً، الأمر الذي يفضي بدوره لتراجع الاستثمار، وبالتالي تراجع النمو. ­ إنَّ هناك مجموعة من الإجراءات والسياسات على المستوى القصير، وعلى المستويين المتوسط والطويل يمكن أن تسهم في تخفيف حدة التفاوت في التوزيع: • الإنصاف في إتاحة الفرص: مجموعة إجراءات تتعلق بتحسين سبل العيش للشرائح الهشة والضعيفة اقتصادياً في المجتمع؛ ذلك بتعزيز الفرص الاقتصادية، ومساعدة الناس على خلق فرص العمل المباشرة، والمزيد من الإنصاف والمساواة في الحصول على الخدمات العامة. • الطلب المحلي يقود النمو: يصعب أن يحافظ الاقتصاد السوريّ على توازنه، إلا إذا كان هناك طلب قادر على استيعاب السلع والخدمات المُنتَجة، وهذا يتطلب، بالدرجة الأولى، نمو الطلب المحلي، ونمو الطلب المحلي مرهون بالإنصاف في توزيع الثروات والدخول. • في الأمد القصير: يمكن اعتماد قنوات التوزيع الأوليّ، من خلال الرواتب والأجور والحدود الدنيا للأجور والتعويضات. • في الأمدين المتوسط والطويل: يمكن اعتماد قنوات إعادة التوزيع، استناداً إلى سياسات وأدوات المالية العامة المتمثلة بالضرائب والإنفاق العام.   تمهيد مسألتان، أو بالأحرى سؤالان جوهريّان من المفيد جداً محاولة الإجابة عنهما في بداية العام التاسع للحرب التي بدأت تدخل طوراً جديداً باتجاه النهاية: المسألة الأولى أو السؤال الأول: كيف استطاع أعداء سورية بكل أجهزة استخباراتهم وشيوخ فتنتهم ووسائل إعلامهم أن يقوموا بغزونا من الداخل، بتجنيدِ مئات الآلاف من السوريين لتنفيذ مخططاتهم ومشاريعهم ضد الدولة السورية، وأن يقنعوهم بأن تدمير بلدهم هو الطريق إلى الحرية والديمقراطية أو إلى الجنة والسبعين حورية؟ ورغم أن الحرب بدأت تقترب من نهايتها، إلا أن عملية الغزو من الداخل، ومن الخارج لا تزال مستمرة، ولعلَّ البعدَ الاقتصادي واحدٌ من أهم أبعادها. المسألة الثانية أو السؤال الثاني: كيف يمكننا أن نعيد بناء الدولة السورية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟ كيف يمكن إعادة بناء اقتصادنا ومؤسساتنا ورأس مالنا الاجتماعي وتكريس مفهوم المواطنة ببعدها الاقتصادي، بشكل يوفّر الأمن والسلام المجتمعي المستدام، كبعد من أبعاد إعادة بناء وتعزيز الهوية الوطنية  الجامعة بعد الحرب؟ تتناول هذه الدراسة واحداً من أهم الجوانب الاقتصادية في إطار المسألة الثانية، والمتمثل بمشكلة التوزيع للثروات والدخول والفرص، كمسألة اقتصادية اجتماعية، وكركن من أركان عملية إعادة بناء الدولة السورية.    مقدمة يواجه الاقتصاد السوري أنواعاً مختلفة من التحديات بعد ثماني سنوات من الحرب، التي يمكن أن تُفضي، بل ستفضي مستقبلاً إلى أزمات وكوارث كبرى، إذا لم تُعالج بشكل منهجي ومبرمج، ولعل أهم تلك التحديات، بل التحدي الأخطر، الذي يواجه الاقتصاد والمجتمع السوري حالياً، وفي مرحلة ما بعد الحرب، هو التفاوت الصارخ في توزيع الثروات والدخول . هذا التحدي ليس آنياً وليس يسير الحل، لكنه ليس مستعصياً على الحل، وهو خطر محدق يؤسس لكوارث وأزمات، ويؤمّن منصات لأعدائنا كي ينقضّوا بعد عقد، أو عقدين من الزمن ليشعلوا حرباً أخرى، فهيئوا أولادكم وأحفادكم أيها السادة إلى مأساة قادمة، أو لنفعل شيئاً كي لا تقع المأساة، وكي لا تستمر عملية الغزو من الداخل. إنَّ التفاوت الكبير في التوزيع وعدم الإنصاف يعد واحداً من أهم الأسباب التي تجعل المواطنين أقل ثقة ببعضهم بعضاً، وأقل ثقة بالحكومة، وبالنظام السياسي والاقتصادي القائم، وواحداً من معيقات النمو الاقتصادي. نحن بحاجة إلى إعادة بناء الثقة بالدولة ومؤسساتها من جديد، وإحدى قنوات إعادة بناء الثقة  هي مسألة الإنصاف في التوزيع . ومسألة التوزيع عبر التاريخ هي فعل سياسي، أكثر مما هي نتاج آليات اقتصادية بحتة. والثقة هي مكون أساس من مكونات رأس المال الاجتماعي الذي تصدع بشكل كبير طوال سنوات الحرب الثماني، بفعل تزايد الشرخ بين المجموعات الاقتصادية والاجتماعية وتقلص حجم الطبقة الوسطى وتراجع دورها. لا يمكننا نحن السوريين تحقيق أية أهداف مشتركة بدون استعادة الثقة التي تراجعت طوال السنوات الماضية، ومن شأن هذا التراجع تهديد فعالية السياسات العامة للحكومة، وتقليص التأييد الشعبي للحزب الحاكم. إن تخلخل الثقة وتراجع رأس المال الاجتماعي وتقلُص الطبقة الوسطى، كلّ ذلك لا يؤثر فقط في التماسك الاجتماعي، بل له تأثيرات سلبية جداً في الأداء الاقتصادي.                           مربع حوار (1): مفهوم رأس المال الاجتماعي يُعبّر رأس المال الاجتماعي عن مدى الانسجام والتماسك والاندماج الاجتماعي المتولد مما يراكمه المجتمع من قيم مشتركة، وثقة وروابط متبادلة بين الأفراد والجماعات والمؤسسات عبر أجياله المتعاقبة. يُقاس رأس المال الاجتماعي بالقيم والتوجهات المشتركة، والثقة بين أفراد المجتمع، والشعور بالأمان، والمشاركة في اتخاذ القرار وفي حل المشكلات المشتركة. كلما ارتفع منسوب الإنصاف والعدالة في توزيع الدخول والثروات، والإنصاف في الوصول إلى الفرص، كلما تعززت الثقة وتعززت الروابط الاجتماعية، وازداد ترسمل رأس المال الاجتماعي وترسخت قيم المواطنة والشعور بالهوية الوطنية السورية، وهذا ما نحن بأشد الحاجة إليه بعد الحرب وفي مرحلة إعادة البناء .  إنَّ اهتمام الدولة والمجتمع بمسألة التفاوت في التوزيع يُفترض ألا يكون لأسباب أخلاقية فقط، بل لأسباب اقتصادية وسياسية. نحن بحاجة إلى الإنصاف والعدالة في توزيع الثروات والدخول، ليس لأن ذلك هو الصواب من الناحية الأخلاقية، بل لأننا بحاجة لنموٍّ قابل للاستمرار، ولأن تطورنا واستقرارنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي يتوقفان على الإنصاف، وإلا فليستعد الجميع لحرب قادمة ولكارثة قادمة بعد سنوات ليست ببعيدة.  هناك دراسات عديدة  تُفيد بأن أحد أهم أسباب تراجع وتيرة النمو وعدم الاستقرار الاقتصادي هو التفاوت الكبير في التوزيع. لقد روجت بعض النظريات، أمثال نظريات الـ truckle down  ونظرية كوزنيتس ، لفكرة تقول: إنَّ العدالة في التوزيع والرخاء يتساقطان على الجميع مع الزيادة في معدلات النمو والتقدم في التنمية، إلا أن الوقائع أثبتت أن عدم المساواة وتزايد حدته لا يهبطان بشكل عفوي من السماء إطلاقاً، كما أن الإنصاف والرخاء لا يهبطان بشكل عفوي من السماء أيضاً، وبالتالي فإن معالجة مسألة التفاوت في التوزيع ليس مسؤولية قطاع الأعمال الخاص ولا قطاع الأعمال العام، بل هي مسؤولية السياسات الاقتصادية الحكومية التي يفترض أنها تُترجِم توجهات سياسية وحزبية. لقد أدت الحرب والحصار والإجراءات القسرية أحادية الجانب إلى تزايد نسبة الفقر وتراجع حجم الطبقة الوسطى في سورية لكن ليس سبب ذلك هو الحرب وحدها. سأنطلق في هذه الدراسة من فرضيّةٍ تقول: إنَّ مشكلتنا في الاقتصاد هي ليست مشكلة تراجع الإنتاج والدخول بسبب الحرب، وهي ليست مشكلة ندرة في الموارد فقط، بل هي مشكلة في التوزيع، ومشكلة في كيفية استخدام ما هو متاح من موارد .      مربع حوار (2): مشكلة ندرة موارد أم مشكلة توزيع؟ بفعل الثورات التكنولوجية وارتفاع الإنتاجية وبفعل العولمة الاقتصادية لم تعد مشكلة ندرة الموارد في بدايات القرن الحادي والعشرين هي المشكلة الاقتصادية الرئيسة في الاقتصاد، بل أصبحت مشكلة التفاوت في توزيع الثروات والدخول هي المشكلة الرئيسة في علم الاقتصاد، وأصبحت مشكلة التوزيع أحد أبرز أسباب معظم الأزمات الاقتصادية على المستويين المحليّ والعالميّ، فمعظم الأزمات الاقتصادية هي أزمات فيض في الإنتاج وليس ندرة في الموارد. لقد كان للعلم والتكنولوجيا والإنتاجية والعولمة (كمتغيرات مستقلة) دور مهم، طوال العقود الخمسة السابقة، في جعل الموارد (كمتغير تابع) أقل ندرة، وأزيحَت مشكلة ندرة الموارد إلى مرتبة مشكلة غير رئيسة في الاقتصاد، وأظهرت أنّ مشكلة توزيع الموارد وكيفية استغلالها، هي المشكلة الرئيسة في الاقتصاد. هذا لا يعني أنّ مشكلة الندرة لم تعد موجودة، ومن الخطأ حسبانها غير موجودة، لكنها لم تعد مشكلة علم الاقتصاد الرئيسة. هذا، وعلى المستويين المحلي والعالمي، يُرجّح زيادة حدة اللامساواة والتفاوت في التوزيع طوال العقود القادمة، بسبب مجموعة عوامل، أهمها: التضخم، ازدياد معدل العائد على رأس المال بمعدل أعلى من معدل النمو، توريث الثروات، التطورات التكنولوجية، تزايد الريوع الاحتكارية للشركات، تخفيض ضرائب الشركات، العولمة المالية، انتشار اقتصاد الظل، الميل الحدِّي المرتفع للادخار لدى الاغنياء، ظاهرة رواتب السوبر مدراء. وهذا يعاكس تنبؤات دراسات ونظريات سابقة، وعلى رأسها نظرية كوزنيتس. يمكن اعتماد الإنصاف في توزيع الثروات والدخول، كأحد مداخل معالجة الأزمات الاقتصادية الكلًّية، بما في ذلك الركود التضخمي، وذلك كون الإنصاف أحد محفزات الطلب الكلي والنمو  في الأمد الطويل .    أولاً- واقع توزيع الدخول والثروات في سورية  هناك اتجاه عامّ "Trend" منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، لزيادة التفاوت في توزيع الثروات والدخول على المستوى العالمي ، حيث ارتفع وسطي معامل جيني  في البلدان المتقدمة من 27% عام 1980 إلى 31% عام 2010، وارتفع الوسطي في المدّة نفسها في منطقة الشرق الأوسط من 35% إلى 38% ، ووصل في أمريكا اللاتينيّة إلى 52% ، وقد لعبت سياسة المالية العامة (الإنفاق العام والضرائب)، وبخاصّة في بلدان منظمة التعاون الاقتصادية والتنمية OECD، دوراً مهماً في تخفيض حدة التفاوت. في سورية كنا عام 2010، قبل الحرب، نقع عند المتوسط البالغ 38%، إلا أن التفاوت في التوزيع ازداد بشكل كبير بفعل السياسات الاقتصادية التي اتبعت قبل الحرب، وازداد أكثر بفعل الحرب وتداعياتها. من يتحمل العبء الضريبي هل سبب تزايد عجز الموازنة لدينا وزيادة الدَّين العام، ارتفاع الانفاق الحكومي؟ أم أن السبب هو تراجع الإيرادات، وتحديداً الإيرادات الضريبية؟ السبب هو انخفاض حصيلة الإيرادات الضريبية، أكثر مما هو بسبب زيادة الانفاق الحكومي، فالعبء الضريبي لم يتجاوز يوماً 15% من الناتج المحلي الإجمالي. وكما يوضح الجدول رقم (1)، نلاحظ أن العبء الضريبي كان بحدود 10% في السنوات الثلاث السابقة للحرب، وتراجع بشكل كبير طوال سنوات الحرب ليصل إلى نحو 5% في عام 2017، وهذه النسب هي من النسب المنخفضة جداً على المستوى العالمي.    الجدول رقم (1): العبء الضريبي ونسبة الضرائب المباشرة وغير المباشرة السنة إجمالي الضرائب والرسوم (مليون ليرة سورية) نسبة الضرائب غير المباشرة إلى إجمالي الضرائب  (%) نسبة الضرائب المباشرة إلى إجمالي الضرائب (%) العبء الضريبي- نسبة الضرائب إلى GDP (%) نسبة ضرائب الرواتب والأجور من الضرائب المباشرة  (%) 2008 219268 34,7 65,3 10,0 4,9 2009 240640 31,8 68,2 9,5 5,0 2010 278428 34.0 66,0 9,8 5,0 2011 325005 34,1 65,9 10,0 5,6 2012 242885 37,8 62,2 8,0 7,9 2013 165221 39,8 60,2 5,6 11,0 2014 117252 43,9 56,1 3,3 18,4 2015 172000 59,8 40,2 3,8 21,7 2016 253450 52,0 48,0 4,5 21,0 2017 322489 58,3 41,7 5,1 20,8 المصدر: المجموعة الإحصائية السورية لسنوات مختلفة، الموازنة العامة للدولة لسنوات مختلفة + حسابات الباحث             مربع حوار (3): نموذج عن الإسهامات الضريبية المثال التالي هو عن حجم الإسهام الضريبيّ لأستاذ جامعي ولشركة متوسطة الحجم في سورية: في البلد الأقرب لبنان يبلغ المرتب الشهري لأستاذ جامعي بمرتبة بروفسور في الجامعة اللبنانية الحكومية، والذي لديه 25 سنة خدمة بحدود 5500 دولار أمريكي في عام 2018، ويبلغ مرتب أستاذ جامعي في جامعة حكومية سورية بالمرتبة نفسها وعدد سنوات الخدمة ذاتها حدود 300 دولار أمريكي شهرياً، وبحسب مستويات المعيشة وتعادل القوة الشرائية للدولار يفترض أن يكون مرتب الأستاذ الجامعي السوري بحدود 1800 دولار، أي ما يعادل 775.000 ليرة سورية (على أساس سعر صرف 430 ليرة للدولار) وبما أن الأستاذ الجامعي السوري يحصل على 130 ألف ليرة سورية شهرياً فقط (ضمناً 200% تعويض تفرغ جامعي)، فهذا يعني أن الفارق بين ما يحصل عليه فعلياً، وبين ما يجب أن يحصل عليه هو بمثابة إسهام ضريبيّ منه في رفد الموارد العامة للدولة، أي أنه يسهم في كل شهر بمبلغ مقداره 1500 دولار أمريكي، أي ما يعادل 645000 ليرة سورية على أساس سعر الصرف الرسمي، وفي السنة بمبلغ 7740000 ليرة سورية، إضافة إلى ذلك فهو يدفع ضريبة دخل عن المبلغ الذي يقبضه بحدود 200 ألف ليرة سورية سنوياً. إجمالي المبلغ هذا (7.94 ملايين ليرة) يعادل الإسهام الضريبيّ لعدة شركات متوسطة الحجم.   يفرز التفاوت الحاد في توزيع الدخول تفاوتاً كبيراً في توزيع الثروات، والأجور هي التي تتحمل العبء الأكبر من العبء الضريبي. والملفت طوال السنوات العشر الماضية هو تزايد نسبة ضرائب الرواتب والأجور من إجمالي الضرائب المباشرة، إذ كانت بحدود 5% طوال السنوات السابقة للحرب، وتزايدت بشكل مطّرد لتصل إلى 20.8% في عام 2017 (انظر الجدول رقم 1).  عملياً، يدفع أصحاب الرواتب والأجور ضريبة تصاعدية حقيقية، في حين تدفع الشركات ضرائب تنازلية وفي أحسن الأحوال مبالغ ثابتة لا علاقة لها بالدخول الحقيقية. يبلغ معدل الشريحة الأعلى في ضريبة الرواتب والأجور 22%، في حين يبلغ متوسط معدل الضرائب على الشركات 22%، ويبلغ معدل ضريبة الأرباح للشركات المساهمة 14%. هذا هو الحال نظرياً دون التهرب الضريبي، أما في الواقع ومع التهرب الضريبي تصبح معدلات الضرائب على الشركات أقل من معدلات الضرائب على دخل العمل، أي أن ضريبة دخل العمل هي أعلى من ضريبة دخل رأس المال، كون الشركات وأصحاب المهن والحرف هم الأكثر قدرة على التهرب الضريبي. تعتمد السياسة المالية لدينا على الضرائب غير المباشرة، فقد كانت تشكل بحدود 34% من إجمالي الإيرادات الضريبية في السنوات السابقة للحرب، وازدادت لتصل إلى 58% في 2017 (انظر الجدول رقم 1)، والضرائب غير المباشرة هي ضريبة تنازلية وليست تصاعدية  كونها تُفرض على الاستهلاك وليس على الدخل والثروة، وبالتالي فهي تسهم في زيادة الفقر، وبخاصّة عندما تكون حصتها مرتفعة من إجمالي الإيرادات الضريبية. 1. التوزيع الأولي - الأجور والأرباح  يقدّر وسطي الرواتب والأجور في القطاع الحكومي والقطاع العام الاقتصادي بحدود 40 - 45 ألف ليرة شهرياً، ويبلغ الوسطي في القطاع الخاص بحدود 65 - 70 ألف ليرة شهرياً. هناك تراجع مريع في الدخول الحقيقية لأصحاب الرواتب والأجور منذ العام 2011، بالمقابل هناك زيادة حقيقية في دخول الملكيّة وفي الأرباح الحقيقية. تبلغ نسبة العاملين بأجر من إجمالي عدد المشتغلين 66.5%، ونسبة أصحاب الأعمال 3.7% ونسبة العاملين لحسابهم الخاص 29.8 % ، أي أنَّ العاملين بأجر يشكلون الغالبية العظمى ممن يُعوّل عليهم شراء السلع والخدمات المُنتجة. عملياً، لا يمكن حل مشكلة نقص الطلب الكليّ بوساطة التفكير في الأسواق الخارجية فقط، فحل هذه المشكلة يجب أن ينطلق من السوق الداخلية السورية، ويمكن أن يلعب التصدير دوراً مساعداً وليس رئيساً. من يقوم بشراء السلع واقتنائها هم العاملون الذين يحصلون على أجر مناسب وليس المباني والآلات والعقارات، وهذا مبدأ جوهري لتحقيق مزيد من النمو. تشكل الأجور في قطاع الأعمال العام (المؤسسات الحكومية ذات الطابع الاقتصادي) بحدود 4% وسطياً من إجمالي بنود الإنفاق الجاري ، وتبلغ هذه النسبة في قطاع الأعمال الخاص بحدود 10% فقط. قد يتسبب رفع الأجور في زيادة التكاليف، وبالتالي ارتفاع الأسعار، هذا صحيح ولكن الأجور لا تشكل حالياً سوى 20% من تكاليف السلع والخدمات المنتجة على أبعد تقدير، وسعر أي منتج لا يتضمن الأجور فقط، لذلك حتى إذا زادت الأجور 50%، فهذا يعني أن الأسعار يمكن أن ترتفع بمقدار 10% فقط، هذا يعني سيبقى فائض لدى العاملين بأجر للإنفاق على السلع والخدمات، وهذه الزيادة في الإنفاق هي، التي تنشط عملية الإنتاج ويمكن أن تخلق وظائف جديدة وتزيد معدلات النمو. إنَّ نمو دخول العاملين بأجر لا يساير نمو الناتج والدخل القومي، إذ إنَّ إنتاج السلع والخدمات ينمو بمعدلات أعلى بكثير من نمو رواتب وأجور العاملين بأجر، وهذا اتجاه عام منذ عقود، وأصبح الفرق أكثر حدة بعد عام 2011، أي مع سنوات الحرب. مربع حوار (4) يتضمن مثالاً توضيحياً مبسطاً يبين كيف تتم عملية إفقار العاملين بأجر.  مربع حوار (4): كيف يتوزع الناتج المحلي الإجمالي كيف يتوزع الناتج المحلي الإجمالي؟ إنَّ القول بأنه لا توجد موارد لزيادة الرواتب والأجور أقل ما يقال عنه إنّه هراء، ليست المشكلة في الموارد، بل المشكلة في كيفية توزيع الموارد، وكيف يتوزع الناتج المحلي والدخل القومي بين دخول العمل من جهة ودخول رأس المال (الأرباح، الفوائد، الإيجارات) من جهة ثانية. لنأخذ تمثيلاً توضيحيّاً وفق الآتي: سنفترض بكل بساطة أن سلعة ما، كان ثمنها 1000 ليرة سورية في عام 2010، وأصبح ثمنها الآن 10.000 ليرة سورية. ماذا يمثل سعر السلعة المدفوع والبالغ 1000 ليرة؟ عملياً يمثل ما يُدفع لمن أسهم في إنتاج هذه السلعة، أي الأجور والأرباح والفوائد والإيجارات والريوع (بما في ذلك ريوع الفساد). قبل الحرب كانت حصة الرواتب والأجور بحدود 300 ليرة من قيمة السلعة، (30% وهذه نسبة متدنية بالأساس)، والباقي يتوزع بين الأرباح والفوائد والإيجارات والريوع ومنها ريوع الفساد، وفي عام 2018 السلعة نفسها التي أصبح سعرها 10000 ليرة سورية يحصل العاملون بأجر من قيمتها على 20% كحدٍّ أقصى، أي ما يعادل 2000 ليرة، وتذهب الـ 8000 ليرة كأرباح وفوائد وإيجارات وريوع فساد. هذا يعني أن الحصة الحقيقية للعاملين بأجر من الناتج المحلي قد انخفضت بمقدار 50% وزادت بالمقابل حصة الأرباح والريوع، فإذا كان الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010 بحدود 60 مليار دولار (ما يعادل 2835 مليار ليرة سورية – على أساس سعر صرف 47 ليرة للدولار)، فإن حصة الرواتب والأجور كانت بحدود 18 مليار دولار (ما يعادل 851 مليار ليرة سورية)، وحصة الأرباح وباقي مكونات الدخل بحدود 42 مليار دولار (ما يعادل 1974 مليار ليرة). وإذا كان الناتج المحلي الإجمالي في عام 2018 يعادل 60% من ناتج 2010، أي بحدود 36 مليار دولار، فإن حصة الرواتب والأجور هي بحدود 7.2 مليارات دولار (ما يعادل 3240 مليار ليرة – على أساس سعر صرف 450 ليرة للدولار)، وحصة الربح وباقي مكونات الدخل هي 28.8 مليار دولار ( 12960 مليار ليرة).  إذا كانت حصة الأجور من دخل قومي يبلغ 16.000 مليار ليرة، هو 20%، مثلاً، هذا يعني أنَّ العاملين بأجر يحصلون على قوة شرائية تبلغ 3200 مليار ليرة، وتذهب 12800 مليار، كأرباح وإيجارات وريوع وفوائد. إذن، المشكلة هي ليست، فقط، مشكلة انخفاض الدخل القومي طوال سنوات الحرب، بل يكمن الجزء الأكبر من المشكلة في كيفية توزع الدخل القومي، ومن يحصل بغير وجه حق على الحصة الأكبر. إنَّ الحرب على العاملين بأجر هي ليست حرباً على هؤلاء فقط، بل حرباً على النمو الاقتصادي في الأمدين المتوسط والطويل، وحرباً على المجتمع التكافلي وعلى رأس المال الاجتماعي، وعلى أمن المجتمع السوري، فخفض الأجور لن يؤدي إلى المزيد من الرفاهية بالتأكيد، بل إلى المزيد من البؤس للغالبية العظمى من السكان. إضافة إلى ذلك، فإن انخفاض الأجور لم يعد ميزة جاذبة للاستثمار في زمن التطور التكنولوجي السريع، فانخفاض الأجور إلى مستويات متدنية، يعني كفاءة أقل ومهارات أقل وإنتاجية أقل، وبالتالي يعني أرباحاً أقل في الأمدين المتوسط والطويل على المستوى الجزئي، ومعدلات نمو أقل على مستوى الاقتصاد الكلي. 2. التفاوت بين العاملين بأجر هذا، ومن أسباب زيادة حدة التفاوت في التوزيع خلال السنوات الماضية، التفاوت الكبير بين رواتب العاملين ورواتب بعض السوبر مدراء التنفيذيين  لبعض الشركات والمؤسسات المالية المساهمة، مقارنة بالمؤسسات الأخرى العامة والخاصة، فمثلاً، يبلغ وسطي الراتب الشهري لمدير تنفيذي في شركة مساهمة تطرح أسهمها للاكتتاب العام في عام 2017، بحدود 13 مليون ليرة سورية شهرياً، في حين بلغ في العام نفسه الراتب الشهري لبروفسور في جامعة دمشق في كلية الاقتصاد بحدود 130 ألف ليرة سورية شهرياً، أي أن الفارق يبلغ مئة ضعف فقط. وراتب المدير التنفيذي هذا يعادل متوسط الراتب الشهري لنحو 130 أستاذاً جامعيّاً في الجامعات الحكومية السورية، و130 ضعفاً لراتب مدير عام مصرف حكومي.  3. الدعم وإعادة التوزيع يعدّ الدعم إحدى قنوات إعادة توزيع الدخل القوميّ، ويهدف عادة للحد من الفقر والحد من التفاوت في التوزيع، إلا أنه قد لا يكون ناجعاً ولا يحقق الغاية منه عندما لا يكون لدينا قدرة على تحديد المستحقين الحقيقيين للدعم، وعدم وجود قاعدة بيانات محدّثة، وعندما يتغلغل الفساد في منظومة الدعم. فمن أسباب زياد التفاوت، الدعم المعمم، الذي يستنزف موارد الموازنة العامة ويستفيد منه الجميع، والذي يُفترض أنه يستهدف الفقراء وأصحاب الدخول المحدودة (دعم الطاقة، دعم بعض السلع والخدمات). عندما يكون الدعم متاحاً للجميع وبالسويّة نفسها، يستفيد منه الأغنياء أكثر من الفقراء، ويذهب القسم الأعظم من الدعم للفئات الأقل حاجة إليه. والأهم هو عمليات الفساد التي تترافق مع آليات تنفيذ إجراءات الدعم، حيث يذهب قسم كبير من الدعم إلى عدد محدود من الفاسدين في المؤسسات الحكومية وفي القطاع الخاص، وهذا يتسبب في زيادة حدة التفاوت بدل أن يفعل العكس. وبحسب بعض الدراسات  التي تتناول منطقة الشرق الأوسط، وسورية جزء منها، فإن 20% من الأسر تستأثر بالمتوسط سبعة أضعاف مزايا دعم الطاقة التي يحصل عليها أفقر 20% من الأسر. وفي سورية بلغ دعم الغذاء بحدود 3%، وبلغ دعم المشتقات النفطية بحدود 8% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2012، وهذه النسب هي الأعلى من بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا .   اقتصاد الظل والفساد وعلاقته بالتوزيع إنَّ من العوامل المؤديّة إلى زيادة حدَّة التفاوت في التوزيع: عدم السيطرة على الفسَّاد وانتشار اقتصاد الظل، وانخفاض مستوى الجودة التنظيمية للمؤسسات ومعاملتها التمييزية، وانخفاض مستوى فعالية الحكومة، وتراجع سيادة القانون وضعف المساءلة والشفافية. يؤدي الفساد كما هو معلوم إلى تقويض النظام الضريبي ويحدّ من إمكانيات التحصيل الضريبيّ المنصف، ويشوه في الوقت نفسه الإنفاق الحكوميّ، بسبب المشاريع المُهدِرة للموارد. فمثلاً، يَحول الفساد دون وصول الخدمات العامة إلى الفقراء، ويؤدي انخفاض مستوى الجودة التنظيمية للمؤسسات وضعف القواعد التنظيمية إلى عرقلة نمو الاستثمارات في البنية التحتية وعرقلة نشاطات قطاع الأعمال، وبالتالي تراجع النمو. كان حجم اقتصاد الظل في سورية، وسطياً، قبل الحرب بحدود 19.2% من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة  1999-2007، بحسب دراسة للبنك الدولي  نُشرت عام 2010. إلا أنه وصل إلى أرقامٍ قياسية في ظل الحرب، ورغم صعوبة تقديره، وبخاصّة في ظل الحروب، حاولنا تقدير حجم اقتصاد الظل في العام 2016 بطريقة مبسطة تعتمد على مؤشر واحد، هو التهرب الضريبي، كإحدى الطرائق المعتمدة  في تقدير حجم اقتصاد الظل، آخذين بالحسبان حجم الاقتصاد السوري المقدر في ذلك العام، والفارق بين ما يجب أن يدفع من ضرائب وما دفع فعلاً في ذلك العام، فتبين أن حجم اقتصاد الظل بأشكاله الثلاثة، يبلغ بحدود 78% من حجم الاقتصاد السوريّ في عام 2016 . طبعاً هذه تقديرات أولية، لكنها تبقى نسبة مرتفعة جداً، وهي أحد أسباب تفاقم حدة التفاوت في التوزيع في العقد المنصرم. إنَّ لاقتصاد الظلّ دوراً مهماً في زيادة حدّة التوزيع، فنشاطات اقتصاد الظل لا تخضع لأنظمة وقوانين ولا تدفع ضرائب، وهي تستفيد من كل الخدمات والسلع العامة التي تقدمها الدولة دون أن تدفع شيئاً مقابل ذلك، وبما أن وحدات اقتصاد الظل لا تدفع ضرائبَ أو رسوماً أو تكاليف ترخيص، فهذا يعني مزيداً من ضياع الإيرادات السيادية، وما ينجم عن اقتصاد الظل ليس مجرد فقدان إيرادات سيادية للدولة فقط، بل هناك تأثيرات سلبيّة في توزيع الثروات والدخول، إذ تزداد الضرائب على نشاطات الاقتصاد الرسمي لتعويض النقص، وتزداد الضرائب غير المباشرة التي تصيب الفقراء أكثر من الأغنياء، وهذا يعني بالمحصلة تراجع قدرة الدولة على تقديم الخدمات العامة، كالصحة والتعليم، نتيجة تراجع الإيرادات الضريبية. ومع انتشار اقتصاد الظل على نطاق واسع تصبح الضرائب تنازلية وليس تصاعدية. ما الحدّ المعقول للتفاوت في التوزيع؟ هذا سؤال يفتح مجالاً واسعاً للنقاش وللخلاف. بالتأكيد الوصول إلى العدالة في التوزيع أمر يصعب إدراكه، والمساواة لا ينادي بها سوى الواهمين، ولكن هناك حدوداً يصبح تجاوزها خطراً على النمو وعلى الاقتصاد الوطني، وعلى رأس المال الاجتماعي، وكذلك هو حال الفساد، فالقضاء عليه أمر مستحيل، ولكن هناك حدوداً يصبح تجاوزها، خطراً على استمراريّة الدولة ونظام الحكم القائم وعلى بنية المجتمع، ونحن في مجالي التوزيع والفساد دخلنا ضمن حدود الخطر.   ثانياً- التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لزيادة حدة التفاوت في توزيع الثروات والدخول ليس المطلوب أن يقلق السياسيون وأصحاب القرار بسبب التأثيرات الأخلاقية والاجتماعية للتفاوت الحاد في التوزيع فقط، بل عليهم أن يقلقوا أيضاً بسبب التأثيرات الاقتصادية والتكلفة الاقتصادية لهذا التفاوت. النمو والاستقرار الاقتصادي مرتبطان، وإلى حدّ بعيد، بمستويات التفاوت في التوزيع، فكلما كان التفاوت محدوداً، كلما كانت فرص النمو وفرص الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي أكبر . هناك سؤال من المهم الإجابة عنه، هل يمكن أن تقتصر أهداف نشاطاتنا الاقتصادية وأهداف الوحدات الاقتصادية على تحقيق المكاسب المادية والمالية فقط؟ دون الاهتمام بالمصالح المشتركة وبالمساواة والإنصاف وبالمشاكل البيئية؟ وهل القيم الأخلاقية هي خارج نطاق الاقتصاد وإدارة الأعمال؟ من المفيد استعادة الجانب الأخلاقي في الفكر وفي الممارسة الاقتصادية، بحيث تكون المسؤولية الاجتماعية لقطاع الأعمال جزءاً من ثقافته وممارساته، وإلا فالاقتصاد والمجتمع ذاهبان إلى الخراب، ما دامت معايير الكفاءة المحاسبية البحتة فقط، هي دليل عمل الوحدات الاقتصادية. 1. تفاوت أكثر حِدة في التوزيع يعني نمواً أقل إنَّ النمو الجيد هو النمو الذي يخفض الفقر ويقلل التفاوت في التوزيع ويعمم مستوى الرفاه الاجتماعي، وما دون ذلك فالنمو مجرد هراء لا معنى له. حتى لو تضاعف الناتج المحلي في مدّة قصيرة، يبقى السؤال من المستفيد من هذا النمو؟ هل انخفضت أعداد الفقراء وهل انخفضت معدلات البطالة؟ هذا هو السؤال الأهم. يفترض أن يتطابق نمو الناتج مع نمو الرفاهية وإذا لم يتطابق يعني أن النمو ليس له معنى، وأن هناك خللاً بمكان ما. إنَّ معيار نجاح السياسات الاقتصادية أو فشلها هو معدل نموّ دخول العاملين بأجر ونسبة دخولهم من الدخل القومي، وليس نمو الناتج والدخل القومي بحد ذاته، بل الدخول الحقيقية التي يحصل عليها العاملون بأجر كونهم يشكلون 67% من المشتغلين في سورية، أي الغالبية العظمى من المجتمع السوري. وللمقارنة فقط، يشكل العاملون بأجر 90% من قوة العمل الألمانية ويحصلون على 67% من الدخل القومي الألماني . هذا، وبفعل زيادة حدة استقطاب الدخول، تفتقر شرائح واسعة من المجتمع السوري ذات المستويات الدنيا من الدخول للموارد الكافية لدعم الطلب والنمو، وتراجع الطلب المحلي ليس ناجماً عن زيادة مدخرات السوريين، كما كان الحال في عدة عقود سابقة في الصين، مثلاً، فمدخرات غالبية السوريين تراجعت طوال العقد المنصرم ولم تزدد. وكامل دخل الغالبية العظمى من العاملين بأجر يذهب لتلبية احتياجات الاستهلاك الأساسية. أُجريت دراسات عديدة في العقد الثاني من القرن الحالي  بيّنت أن النمو الاقتصادي المرتفع لا يؤدي بالضرورة أو بشكل تلقائي إلى نتائج أفضل في التوزيع. ويشكل استمرار التفاوت الحاد في التوزيع خطراً، ليس فقط على استقرار الاقتصاد الكلي، بل وعلى النمو. يؤثر عدم المساواة بشكل سلبي في قدرة الفقراء والطبقة الوسطى على مراكمة رأس المال البشري، كما يؤثر في الاستقرار السياسي وفي التماسك الاجتماعيّ، وهذا يرتد سلباً على النمو ويؤدي إلى إبطائه، وأثبتت تلك الدراسات أن تراجع عدم المساواة في الدخل يؤدي إلى زيادة معدلات النمو واستمراريته. يمكن أن يُعزى تراجع الفقر إلى النمو الاقتصادي في جزء منه، وفي الجزء الآخر إلى تراجع التفاوت في التوزيع، ففي أمريكا اللاتينية التي تعد الأكثر تفاوتاً في التوزيع على المستوى العالمي، أدى النمو إلى الحد من الفقر بنسبة 60% وأدى تراجع التفاوت في التوزيع إلى الحد من الفقر بنسبة 40%، ولعبت التحويلات الحكومية وسياسات توزيع الدخل بين العاملين بأجر وأصحاب رؤوس الأموال دوراً رئيساً في تراجع التفاوت بنسبة 60% . قد يكون هناك شيء من الضرورة لبعض التفاوت في التوزيع، بحسبانه محفزاً للكفاءة وللاستثمار، ولكن هناك أدلة كثيرة تقول: إنَّ التفاوت المفرط في التوزيع يمكن أن يخنق النمو. وقد بيّن العديد من الدراسات  أن التفاوت الكبير في التوزيع يؤثر سلباً في النمو ويضرّ به، وأن تعزيز الإنصاف في التوزيع يساعد في استمرارية النمو، وأن تراجع استمرارية النمو مقترن بزيادة عدم المساواة المفرط، والسبب في ذلك هو تزايد أهمية ودور رأس المال البشري في الاقتصاد المعاصر، فرأس المال البشري والتعليم واسع النطاق أصبحا أكثر أهمية من الآلات . هناك أدلة قوية على العلاقة الإيجابية بين زيادة النمو واستمراريته وتراجع حدة التفاوت في التوزيع، والعلاقة السلبية بين تراجع النمو وزيادة عدم المساواة. ليس هناك خوف من تأثيرات سلبية للسياسة المالية (الضرائب والإنفاق) الهادفة لإعادة توزيع الدخول والثروات، على النمو . يعتقد البعض أن زيادة العبء الضريبي يؤثر سلباً في معدلات النمو، ولكن الوقائع تثبت عكس ذلك، فالعبء الضريبي لدينا لم يزد يوماً عن 15% منسوباً إلى الناتج المحلي الإجمالي، في حين يبلغ في البلدان الصناعية المتقدمة ما بين 30% و45%، ولم يؤثر ذلك سلباً في النمو. يمكن أن يُقاد النمو من قبل الصادرات، أو من قبل الطلب المحليّ، أو برفع الإنتاجية. ويمكن أن تشترك هذه المتغيرات كافةً على قدم المساواة في قيادة النمو. وتُعنى هذه الدراسة بدور الطلب المحلي في تحفيز النمو، فمن أهم العوامل المؤثرة في الطلب المحلي هو مدى عدالة التوزيع، ومدى اتساع الطبقة الوسطى في المجتمع السوري، وهو ما يحدد نمو الطلب الكلي وهو الذي يمكن أن يقود النمو. إذا نظرنا من وجهة نظر اقتصادية بحتة، نجد أن عدم احتوائية النمو (بمعنى عدم استفادة جميع المواطنين من النمو – أو ما يسمى النمو الاحتوائي) يؤثر سلباً في الاقتصاد الكلي، وأن زيادة فجوة التفاوت ستؤدي حكماً، إلى الانهيار الاقتصادي بسبب إعاقة الاستهلاك، فالطلب الاستهلاكي المحلي هو المحرك الأساس للنمو الاقتصادي، والاقتصاد القوي يقوم على الاستهلاك والاستثمار القويين كي يعمل بكفاءة وفعالية. أصبحت تشكل الأسر السورية الفقيرة منخفضة الدخل ، بحسب خط الفقر الأعلى، بحدود 64% من مجموع الأسر ، وهذه الأسر تملك قدرة محدودة على الاستهلاك وقدرة محدودة على الادخار، والأسر مرتفعة الدخل تشكل بحدود 10% من مجموع الأسر، لديها قدرة مرتفعة على الادخار، لكنها تستهلك القليل جداً مقارنة بدخولها، والأسر متوسطة الدخل لم تعد تشكل سوى  26% من مجموع الأسر ، وهذه الأسر تشكل الطبقة الوسطى التي يفترض أن تحقق التوازن بين الاستهلاك والادخار، وبالتالي فإن انكماش الطبقة الوسطى في سورية أصبح يشكل خطورة على الاقتصاد من ناحية اقتصادية، هذا إضافة إلى خطورته السياسية والاجتماعية. 2. التفاوت في التوزيع وتلاشي الطبقة الوسطى  بدأ تآكل الطبقة الوسطى في سورية قبل الحرب وازدادت حدة التآكل طوال سنوات الحرب، حيث تتبدد دخول وثروات هذه الطبقة بشكل متسارع منذ بداية الحرب لصالح الأغنياء الجدد. وفي حال استمرار الوضع على ما هو عليه، يصبح المجتمع السوري إما أثرياء أو فقراء. انهيار الطبقة الوسطى وتراجع حجمها، وانكماش دورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، كلّ ذلك يعني انهيار الحامل التنموي، فالطبقة الوسطى هي المحرك الرئيس للإنتاج وللاستهلاك، وهي تملك الطاقة العلمية والمعرفية والدور الاقتصادي والسياسي الوازن، وهي التي تدفع الضرائب، فالطبقة الفقيرة دخلها محدود ولا تملك الكثير كي تدفع ضرائب، والطبقة الغنية تتهرب أو تتجنب دفع الضرائب. هذا، وبحسب دراسة للبنك الدولي، وعلى أساس وسطي دخل قدْره 4.9 دولار في اليوم للشخص وفق تقديرات 2005، بلغت نسبة الطبقة الوسطى في سورية في عام 2010 بحدود 39.4% من الأسر السورية . سنحاول تحديد حجم الطبقة الوسطى بناء على معيار الدخل . يمكن اعتماد متوسط الدخل الوطني للأسرة السورية ومدى الانحراف عن هذا المتوسط، فدخل الطبقة الوسطى هو الدخل الحقيقي للأسرة الواقع بين 50% و150% من متوسط الدخل الوطني للأسرة السورية، ووفق معيار آخر يمكن أن يكون دخل الطبقة الوسطى بين 60% و225% من متوسط الدخل الوطني للأسرة. وبحسب تعريف البنك الدوليّ، فإنَّ الطبقة الوسطى هي التي تعيش على دخل يتراوح بين 20 و50 دولار يومياً للأسرة. إذا أخذنا المعيار الأخير، تكون الطبقة الوسطى هي الأسر التي يتراوح دخلها الشهري بين 600 دولار و1500 دولار، أي بين 300 ألف ليرة سورية و750 ألف ليرة سورية شهرياً. نقدر نسبة الأسر السورية التي يقع دخلها بين هذين المبلغين ما بين 20 و25% من مجموع الأسر السورية البالغ عددها بحدود 4.2 ملايين أسرة، إذا حسبنا أن عدد السكان الحالي هو 21 مليوناً ومتوسط عدد أفراد الأسرة هو 5 اشخاص. إذن وفق معيار الدخل تبلغ نسبة الطبقة الوسطى ما بين 20 و25% من الأسر السوريّة، وهذه نسبة متدنية بكل المقاييس. الحذر كل الحذر من تراجع حجم ودور الطبقة الوسطى  أكثر مما تراجع طوال سنوات الحرب، فهي أساس الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي وهي رأس المال العلمي والمعرفي والثقافي. 3. التأثيرات الاجتماعية والسياسية  ما الثمن الاجتماعي والسياسي للتفاوت الحاد في التوزيع؟ كل الوقائع تثبت أن للتفاوت الكبير في توزيع الثروات والدخول دوراً مهماً في عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي. بما أن اللامساواة الاقتصادية في توزيع الثروات والدخول تُترجم عادة على شكل لا مساواة سياسية، سيكون هناك انقسامات سياسية عميقة في المجتمع السوري مستقبلاً، وبالتالي سيتزعزع الاستقرار السياسيّ الذي يفضي بدوره لتراجع الاستثمار وبالتالي تراجع النمو. ويزداد الوضع سوءاً عند إضعاف الاتحادات العمالية التي تتأثر قدراتها التفاوضية سلباً، ما يفاقم من حدة التفاوت. ومع زيادة حدة التفاوت في التوزيع تزداد هشاشة المجتمع ويتمزق الأمن الاجتماعي، ويفقد مجتمعنا منعته واستقراره بكل تأكيد، بمعنى آخر زيادة حدة التفاوت في التوزيع وتركز الثروات والدخول وانهيار التكافل المجتمعي يقود حتما لتمزق وتشتّت وحدة المجتمع، ونكون مجتمعاً منقسماً على نفسه وغير مجدٍ حتى اقتصادياً. تتفاقم أخطار التفاوت الكبير في توزيع الدخول والثروات، عندما يكون المتسبب الرئيس في هذا التفاوت هو تضخم ريوع الفساد وعدم تكافؤ الفرص، وتتجسد الأخطار هنا في فقدان الثقة بالمؤسسات وبالحكومة، وصولاً إلى حالة النضوب الكامل، وكلما كان التفاوت أكثر حدة، كلما انتُقِص من شرعية ومشروعية الحزب الحاكم ومن شرعية ومشروعية القيادات السياسية، وأدى إلى زيادة الاستقطاب وعدم الثقة وتراجع التماسك الاجتماعي، والمزيد من النزاعات السياسية. ويتجلى ذلك بمزيد من الهشاشة وعدم الاستقرار المالي، حيث تزداد ثروات ومدخرات الأثرياء، وفي الوقت ذاته يزداد الطلب على الائتمان من قبل الفقراء والطبقة الوسطى.          4. العولمة والانفتاح الاقتصادي والتفاوت في التوزيع  عندما نُقيّم سياسات التجارة الخارجية يفترض أن يكون مقياس نجاح هذه السياسات من عدمه، ليس مدى انفتاحنا الاقتصادي على العالم الخارجي، ومدى الاندماج في الاقتصاد العالمي، بل مدى دعم هذا الانفتاح وهذا الاندماج للنمو القابل للاستمرار، وكيف يؤثر هذا الانفتاح والاندماج في توزيع الثروات والدخول. بحسب العديد من الدراسات، منها دراسات Ostry ، يمكن أن يؤدي الانفتاح الاقتصادي لتدفقات رأس المال عبر الحدود، وبالتالي إلى زيادة النمو، ولكنه يؤدي في الوقت نفسه إلى زيادة التفاوت في التوزيع وعدم المساواة. يترتب على الانفتاح التجاري والعولمة والتكنولوجيا حصول انحرافات في توزيع الدخل، ويكون لها دورٌ مهمٌّ في زيادة حدة التفاوت في التوزيع، ولكن المسؤول عن عدم المساواة هو ليس العولمة أو التكنولوجيا أو التجارة بحد ذاتها، بل هو الإخفاق في السياسات، إذ يمكن أن تتم عملية إعادة توزيع المكاسب على الفئات المتضررة، بوساطة الضرائب والإنفاق الحكومي. في ظل العولمة انتقل الاستعمار من الاستحواذ على الموارد الطبيعية والثروات إلى الاستحواذ على الإنسان والكفاءات العلمية، ولا يمكننا المحافظة على الكفاءات العلمية، إذا لم يكن هناك إنصافٌ في دخولها وفي الفرص المتاحة أمامها، وعدم الإنصاف يعني مساعدة استعمار العولمة على استحواذ كفاءاتنا العلمية.    ثالثاً: إجراءات وسياسات على الأمد القصير والأمدين المتوسط والطويل نشير بداية إلى أن التدابير والسياسات، التي سنتحدث عنها هنا، قد تلتقي أو تتوافق مع بعض الإجراءات أو السياسات التي تعمل عليها الحكومة، ولكن واقع وطبيعة التفاوت الحاد في التوزيع، يتطلب المزيد من التركيز والتطوير لتلك الإجراءات التي يُعمل عليها، وتتطلب برامج ومشاريع إضافية يمكن العمل عليها ضمن سياسات متوسطة وبعيدة المدى. رغم أنَّ عملية الحدّ من التفاوت في التوزيع عملية صعبة لا يستهان بها، إلا أنه لم يعد تجاهل مشكلة التفاوت في توزيع الثروات والدخول خياراً ممكناً بعد الآن، والسؤال لم يعد، هل؟ بل، كيف؟ نحن ذاهبون إلى الدرك الأسفل من النار إذا تأخرنا أكثر في اتخاذ إجراءات قصيرة الأجل، ووضع سياسات متوسطة وبعيدة الأمد للحد من حدة التفاوت. معروف أن التفاوت في التوزيع، في جانب منه، ناجم عن تضارب المصالح الفردية لأفراد المجتمع، ومن مصلحة الدولة العليا ومن مهام مؤسسات الدولة التوفيق بين المصالح الفردية ومصالح الجماعات المتناقضة، والتحكم، للحفاظ على الدولة ونظامها العام، والعمل وفق مبدأ تقارب المصالح، بدلاً من تضارب المصالح . تتوجه السياسات عادة إلى غايات متوسطة وبعيدة الأمد وليس إلى شواغل قصيرة الأجل، نحتاج إلى خمسين خطوة صغيرة فقط، للوصول إلى توزيع أكثر إنصافاً للثروات والدخول، بحيث يستطيع الاقتصاد السوري تحقيق إمكانياته الحقيقية. يمكن أن تشكل عملية الحدّ من التفاوت في التوزيع أحد مداخل معالجة الركود التضخمي، الذي يعاني منه الاقتصاد السوري، إذ يُعد التفاوت المفرط في توزيع الثروات والدخول، من أهم أسباب الركود التضخمي، إلى جانب سطوة وسيطرة الاحتكارات. تذكير: لا تكمن المشاكل الاقتصادية في العوامل الاقتصادية فقط، ولا يمكن حل المشاكل الاقتصادية بإجراءات اقتصادية فقط، وإنما تلعب البنية المؤسسية والإرادة السياسة دوراً مهماً في تبني السياسات وتنفيذ البرامج والإجراءات التي تسهم في الحد من التفاوت.  ننطلق كما أسلفنا، من أن مشكلتنا ليست فقط، مشكلة تراجع في الإنتاج في زمن الحرب أو ندرة في الموارد على مستوى الاقتصاد الوطني، بقدر ما هي مشكلة إنصاف في توزيع الموارد والإيرادات، وهي مشكلة أولويات في تخصيص وكيفية استغلال الموارد. هذا ينطبق على مستوى الاقتصاد السوريّ وعلى المستوى العالمي . لقد أسهمت الحرب في زيادة نسبة الفقر في المجتمع السوري من 10% (الفقر الأدنى) و30% (الفقر الأعلى) قبل الحرب، إلى نسبة وصلت إلى 64 %، بحسب خط الفقر الأعلى ، في السنة الثامنة للحرب، إلا أن مشكلة الفقر ليست ناجمة عن الحرب فقط، أو بسبب ندرة الموارد، بقدر ما هي ناجمة عن التفاوت الكبير في التوزيع، وعن عدم استغلال ما لدينا من موارد بشكل أمثل. ولاستغلال مواردنا بشكل أمثل، ينبغي علينا تحديد الصناعات والنشاطات، التي تتوافق وتتماشى مع هيكل عوامل الإنتاج المتاحة، ومع مستوى التنمية الذي وصلنا إليه، والتركيز على ميزاتنا التنافسية واستكمال سلاسل العرض. ليس المطلوب إقرار إجراءات للحدّ من التفاوت في التوزيع فقط، بل الأهم هو إقرار آليات تحول دون ذلك في المستقبل، بحيث لا تتدمر القدرة الشرائية لدى أغلبية السوريين، لأن انهيار القوة الشرائية لأغلب السوريين سيقوض، هو الآخر، في المدى المتوسط والطويل، القدرة على النمو، والقدرة على تحقيق الأرباح. 1. الإنصاف في إتاحة الفرص إنَّ اجتناب كارثة قادمة بسبب زيادة حدة التفاوت في التوزيع، لا يتطلب الأمر زيادة الرواتب والأجور بنسبة معينة فقط، بل المسألة أبعد من ذلك، وتتطلب مجموعة إجراءات تتعلق بتحسين سبل العيش للشرائح الهشة والضعيفة اقتصادياً في المجتمع بتعزيز الفرص الاقتصادية ومساعدة الناس على خلق فرص العمل المباشرة. يمكننا تحسين عدالة التوزيع، وبالتالي زيادة معدلات النمو، استناداً إلى سياسات عامة تضمن المزيد من الإنصاف والمساواة في الحصول على الخدمات العامة (التعليم والرعاية الصحية...). الإنصاف في إتاحة الفرص، عملية مهمة جداً، في الأمدين المتوسط والطويل، وأهم الفرص التي يفترض أن تكون متاحة لجميع السوريين هي: فرص التعليم الجيد في المرحلة ما قبل الجامعية وفي المرحلة الجامعية، وفرص الخدمات والعناية الصحية اللائقة للجميع، وإمكانية وصول الفقراء إلى خدمات التعليم وخدمات الرعاية الصحية. وهذا يتطلب زيادة حجم الإنفاق على الصحة والتعليم وتحسين كفاءة هذا الإنفاق. وهذا يتطلب أيضاً استثماراً واسع النطاق في البنية التحتية العامة وفي الأنظمة المُحدثة للتدريب المهني، كي يستطيع الشباب تنمية قدراتهم الإنتاجية. فالتعليم والتدريب والرعاية الصحية والائتمان الصغير وتأمين المواصلات والطاقة والمياه تساعد وبشكل كبير في خلق الفرص لشرائح واسعة من الفقراء. هذا، ومن مهام السياسة العامة للدولة، ومن مهام الحكومة وواجباتها تأمين الفرص وسبل العيش للفئات المحرومة، وليس بالضرورة أن تقوم الحكومة بخلق فرص العمل بشكل مباشر، بل عن طريق برامج التمكين الاقتصاديّ للفئات المهمشة والفقيرة، وبوساطة مساعدة الناس على خلق فرص عملهم، وتحفيزهم وتشجيعيهم على العمل لحسابهم الخاص وإنشاء مشاريعهم الخاصة، وبوضع برامج التدريب والتأهيل على مهارات الأعمال، وبرامج التمويل الاجتماعي، والمساعدة في التمويل للمشاريع الصغيرة و المتناهية الصغر، وتوسيع إمكانيات الحصول على التمويل بشكل منصف. هذا يتطلب زيادة الاستثمار في مشروعات البنية التحتية وتقليص القواعد التنظيمية المعيقة للاستثمار، وزيادة التحويلات التي تساعد الفقراء على توليد الدخل. إنَّ القاعدة المهمة التي يمكن أن ترتكز عليها أي سياسة اقتصادية كلية تقول: إن خلق فرص العمل هو الذي يخلق النمو، وليس النمو هو من يخلق فرص العمل. وبحسباننا مقبلين على بداية مرحلة التعافي ما بعد الحرب، يمكن أن يكون أحد الأهداف الرئيسة للمرحلة هو خلق فرص العمل، فالتعافي الذي لا يترافق بزيادة كبيرة في فرص العمل سيزيد التفاوت سوءاً، ويضعف الأداء الاقتصادي ويزعزع التجانس الاجتماعي. يمكن أن يؤدي النمو إلى الحدِّ من الفقر، ولكن ليس بالضرورة أن يؤدي النمو إلى تخفيض الفقر بشكل تلقائي، وليس بالضرورة أن يؤدي النموُّ إلى الحد من التفاوت في توزيع الثروات والدخول، لذلك لابد من التدخل الحكومي لتوسيع نطاق الفرص الاقتصادية للشرائح منخفضة الدخل. يمكن أن تؤدي السياسات التي تركز على الإنصاف في التوزيع إلى نمو أقل من تلك السياسات التي تركز على توسيع نطاق الفرص الاقتصادية للشرائح الفقيرة، ولكن السياسات التي تركز على التوزيع تقلل من الفقر في الأمد القصير، في حين أن السياسات التي تعزز الفرص أمام الفقراء لا تؤدي إلى تقليل الفقر بشكل سريع، كما هو حال التركيز على التوزيع، وإنما تؤدي إلى نمو أسرع وفقر أقل وتفاوت أقل في التوزيع في الأمدين المتوسط والطويل. يمكن أن نفهم عملية معالجة الفساد وعملية التوزيع المنصف والعادل للدخول والثروات كجزء من استراتيجية مكافحة الفقر في سورية، إذ إنَّ قسماً كبيراً ممن يعيشون في الفقر هم أول ضحايا الفساد، فالفساد يؤدي إلى تدني جودة استثمارات البنية التحتية وتدني جودة الخدمات العامة (التعليمية والصحية...) وهذا يؤثر سلباً في مستوى معيشة هؤلاء الناس. وما دمنا نتحدث عن الإنصاف، فالإنصاف يعني أيضاً، إتاحة الفرص للوصول إلى الإنتاج والاستيراد للجميع، وهذا يتطلب تفكيك سطوة الاحتكارات وسيطرتها على إنتاج واستيراد العديد من السلع والخدمات الأساسية. 2. الطلب المحلي يقود النمو عندما نُخطئ في تشخيص الواقع، على الأرجح لا تنفع وصفات العلاج في حل مشاكلنا. انتعاش النشاط الاقتصادي مرهون بانتعاش الطلب الكلي، وانتعاش الطلب الكلي مرهون، في جزء كبير منه، بالإنصاف في التوزيع. نحن نسير كقطار يتجه نحو الهاوية، وبالتالي ليس أمامنا سوى الكوابح لوقف الانهيار، وتتمثل الكوابح في حزمة من السياسات والإجراءات. لا يمكن أن يحافظ الاقتصاد السوري على توازنه، إلا إذا كان هناك طلب قادر على استيعاب السلع والخدمات المُنتَجة، وهذا يتطلب، بالدرجة الأولى، نمو الطلب المحليّ  بنسب مناظرة لنمو الإنتاج، وهذا لن يحدث إذا لم يكن هناك إنصافٌ في توزيع الدخول، والإنصاف في توزيع الدخول يعني زيادة نسبة الرواتب والأجور من الدخل القومي، في مرحلة متوسطة وطويلة الأجل تصل إلى خمسة عشر عاماً، لتصل إلى الحدود الدنيا من متوسط النسب العالمية، على الأقل . إعادة التوزيع من أعلى إلى أسفل ومن رأس المال إلى العمل عبر قنوات إعادة التوزيع أصبح أمراً لا مناص منه ليس لأسباب اجتماعية فقط، بل لأسباب اقتصادية بحتة (وهي ربما الأهم)، لأن انخفاض حصة الأجور من الدخل القومي السوري تعني انخفاض القدرة الشرائية عن استيعاب النمو المتزايد من الإنتاج، فالتفاوت الحاد في التوزيع هو خطر على الاقتصاد نفسه قبل أن يكون خطراً على المستوى الاجتماعي. فنمو الأرباح متوقف على بيع كميات أكبر من السلع والخدمات إلى أعداد أكبر من المستهلكين الذين يملكون قوة شرائية. لا يمكن للشركات أن تزيد من أرباحها بشكل مستدام، ودون كوارث وأزمات على مستوى الشركات وعلى المستوى الوطني، إذا لم يكن هناك طلب محلي بالدرجة الأولى على منتجاتها، وهذا الطلب لا بد أن يستند إلى قوة شرائية والقوة الشرائية تتراجع في ظل هذا التفاوت الصارخ في توزيع الثروات والدخول. ولا يمكن للنشاطات الاقتصادية أن تنتعش ما لم يُحفز الطلب المحلي. وتصحيح المسار لن يحدث بالتأكيد من تلقاء ذاته. ويمكننا أن نلف وندور حول هذه المشكلة إلى حين، وبعد حين لا مجال لا للف ولا لدوران. إذا كانت تنافسيّة الصادرات ونسبة القيمة المضافة فيها محدودتين، وإذا كان التفاوت الكبير في التوزيع سبباً في تراجع الطلب المحلي، ما الحل؟ وكيف يمكننا تحقيق نمو يقوده الطلب المحلي وليس الصادرات؟ إذا كان هدف النمو هو تحسين مستوى المعيشة للأكثرية، وليس فقط للأقلية، ولكي تتحقق استدامة النمو، يمكن للحكومات المتعاقبة أن تجعل النمو احتوائياً، أي تستفيد منه الغالبية العظمى من السكان. وهذا يتم بزيادة استهلاك الأسر المعيشية، لأن الاستهلاك هو المحرك الأساس للنمو القابل للاستمرار، وسبب انخفاض الاستهلاك منسوباً إلى الناتج المحلي الإجمالي هو تراجع دخل الأسر المتاح للإنفاق، حيث ترتفع حصة الأرباح مقارنة بالأجور كنسبة من الناتج. يمكن اعتماد قنوات التوزيع الأولي، وقنوات إعادة التوزيع للحد من التفاوت: - قنوات التوزيع الأولي للحدِّ من التفاوت إنَّ اتخاذ تدابير لزياد حصة العاملين بأجر من الدخل القومي السوري، لا تسوغه مبررات العدالة الاجتماعية فقط، بل المبررات الاقتصادية ومبررات أمن المجتمع وأمن الدولة السورية. ليس المطلوب أن تزداد الرواتب والأجور دفعة واحدة، وبنسب كبيرة؛ بل يمكن وضع برنامج زمني متوسط وطويل الأجل، ويمكن تجزئة المشكلة إلى مكوناتها ومن ثم تناولها مكوِّناً بعد آخر والتعامل مع الزيادة بشكل متدرج. في الأمد القصير:  • رفع الحد الأدنى للرواتب وللأجور، بحيث لا يقل عن 40% من متوسط الأجور في كل القطاعات. • جعل التعويضات المختلفة للعاملين على أساس الراتب الحالي، وليس على أساس راتب 2013، أي إلغاء المادة رقم 7 من المرسوم التشريعي 38 لعام 2013. • رفع الحد الأدنى من الراتب المعفى من ضريبة الرواتب والأجور ليصبح 30 ألفاً. • رفع التعويض العائلي عن الأطفال ليصل عشرة أضعاف التعويض الحالي. في الأمد المتوسط والطويل: • تصحيح هيكل سوق العمل، لناحية زيادة حصة العاملين بأجر من الدخلِ القوميِّ، والعمل ضمن خطة طويلة الأمد لمدة عشر سنوات أو أكثر، يكون هدفها زيادة حصة دخول العمل (الرواتب والأجور) من الدخل القومي، لتصل ما بين 40 و50% من الدخل القومي، عبر قنوات التوزيع الأولي للدخل، وعبر قنوات إعادة التوزيع. إنَّ رفاهية المجتمع السوري تتوقف على مستوى دخول العاملين بأجر في المقام الأول، كون العاملين بأجر يشكلون الغالبية العظمى من أفراد المجتمع السوري (67%)، وبالتالي فإن تنمية هذه الدخول يُفترض أن يكون الإسهام الجوهريّ للسياسات الاقتصادية في السنوات القادمة. دور المالية العامة في إعادة التوزيع يمكن تصميم سياسيات مالية فعالة لإعادة التوزيع تكون منصفة لا تؤثر سلباً في الكفاءة، سواء أكان ذلك من جانب الضرائب، أم من جانب الإنفاق (نظام ضريبي تصاعدي فعال، تهرب ضريبي محدود، دعم مباشر للفقراء بتحويلات نقدية مباشرة ... إلخ).              مربع حوار (5): فلسفة المالية العامة تعد السياسة المالية الأداة الأكثر قوة التي تملكها الحكومة لتحقيق أهدافها التوزيعية. وتعد المالية العامة، التي تُعنى بالإيرادات (وبخاصّة الضريبية منها) والنفقات العامة للدولة، إحدى أهم قنوات إعادة توزيع الثروات والدخول، لذلك من المهم جداً تصميم السياسة الضريبية وسياسة الإنفاق بحكمة، بحيث تقلل من التأثيرات السلبيّة في العمل والتوظيف والادخار والاستثمار. والمالية العامة شأن سياسي بامتياز إلى جانب كونها مسألة اقتصادية، ولذلك يمكننا القول: إنَّ إصلاح المالية العامة هو إصلاح سياسي بامتياز.  وكون المالية العامة هي فنُّ إعادة توزيع الدخل القومي وتقديم الخدمات العامة، وفنّ التعامل مع تقلبات الدورات الاقتصادية، بوساطة عمليات جمع الأموال وإنفاقها، فهي وفق هذا الفهم عملية مستمرة يتشكل من خلالها التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للدولة السورية.   ‌أ. في جانب الإيرادات الضريبية هناك من يزعم أن زيادة الضرائب أو الحدّ من التهرب الضريبي لا يخدم التطور والنمو الاقتصادي. هذا الزعم ليس دقيقاً، فالدول الصناعية المتقدمة والدول حديثة التصنيع لديها عبء ضريبي يبلغ ضعفين ونصف العبء الضريبي لدينا، ولم يؤثر سلباً في تطورها الاقتصادي، بل العكس تماماً. يمكن للمالية العامة أن تَحُد من التفاوت، عن طريق التعامل مع الإنفاق العام والضرائب، إذ يمكن اعتماد الضرائب والتحويلات لإعادة التوزيع المنصف. هذا يتطلب إعادة تصميم السياسة الضريبية وسياسة الإنفاق، وتنفيذ إصلاح شامل للنظام الضريبي (السياسة الضريبية والإدارة الضريبية والإطار القانوني)، وبناء توافق واسع على أهداف الإيرادات، وعلى الإنفاق الكفؤ للإنفاق العام. وهنا يمكن وضع أهداف محددة يمكن الوصول إليها بزيادة التحصيل الضريبي، والامتثال الجمركي وإصلاحات محددة في القوانين تدعم الامتثال، كأن نستهدف رفع نسبة الضرائب إلى الناتج المحلي الإجمالي للوصول إلى عبء ضريبي يصل إلى 25% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2030، مثلاً. هل الأفضل خفض الإنفاق الحكوميّ أم زيادة الضرائب؟ أيهما تأثيره سلبي أو إيجابي أكثر في النمو؟ وفي عجز الموازنة؟  في الحالة السورية ليس المطلوب زيادة الضرائب حالياً على الإطلاق، وإنما المطلوب الحد من التهرب الضريبي المرتفع، كون الزيادة في النسب الضريبية تؤدي إلى تراجع الاستثمار وتقويض النشاط الاقتصادي. قد يؤدي زيادة الإنفاق الحكومي إلى زيادة عجز الموازنة وبالتالي زيادة الدين الحكومي، ولكن الأهمية هي ليست لحجم الدين، وإنما لمجالات استخدام الدين، ونسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي. يمكن تخفيض نسبة الدين إلى الناتج المحلي وفق الآتي: • تخفيض عجز الموازنة وهذا يتم عبر تخفيض الإنفاق الحكومي أو زيادة الإيرادات، وفي الحالة السورية المشكلة تكمن في الإيرادات المنخفضة، وليس في الإنفاق الحكومي المرتفع، لذلك يفضل العمل على زيادة الإيرادات وليس تخفيض الإنفاق الحكومي المتدني أساساً. • سياسة توسعية لزيادة حجم الاقتصاد، وذلك بزيادة الإنفاق الاستثماري الحكومي. تتضمن إجراءات إعادة التوزيع المباشر في الأمد المتوسط، تخفيض العبء الضريبي على دخول العمل، ودخول الشرائح الفقيرة، والحدّ من التهرب الضريبي عند شرائح الدخل الأعلى، برفع العبء الضريبي عن الأرباح والريوع وتخفيضه على الرواتب والأجور بشكل تدريجي. تخفيض الضرائب عن الرواتب والأجور من شأنه زيادة دخول العاملين بأجر وتكون له تأثيرات إيجابية مشابهة لرفع الأجور. هناك ظاهرة عالمية تتبلور منذ أكثر من ثلاثة عقود، وتنطبق على الواقع السوري، تُبيّن أن عدم المساواة في الثروات يفوق عدم المساواة في الدخول ، وانطلاقاً من ذلك، يمكن التوجه لزيادة الضرائب المفروضة على الثروات، كالأراضي والعقارات والتركات، والتشدد في تحصيلها. يمكن لسياسات المالية العامة أن تستهدف الرفع التدريجي لضرائب الملكية –على الأملاك غير المنقولة وبيع الأملاك العقارية والتركات والهبات وتحويلات الأوراق المالية. يمكن أن تفرض الضرائب على الأملاك، طبعاً ليس على كامل الأملاك، وإنما عندما تتجاوز حدّاً معيّناً يمكن تحديده لأصحاب الدخول المنخفضة والثروات المنخفضة ويعفى منها المسنين. هذا النوع من الضرائب يصعب التهرب منه، لذلك يمكن أن تسهم في الحدّ من التفاوت بشكل أفضل من الضرائب الأخرى، ويجب الأخذ بالحسبان، أنه قد يكون هناك بعض الصعوبات في تطبيق هذا النوع من الضرائب، بسبب عدم القبول الشعبي لها. تخفيض الضرائب عن السلع الغذائية الضرورية (الوقود، الخبز، ...) التي تشكل جزءاً كبيراً من سلة الفقراء، لا يؤدي، على الأرجح، إلا إلى مستوى ضئيل من إعادة التوزيع، لأن الأغنياء يستهلكون هذه السلع رغم أن نسبتها منخفضة إلى ميزانيتهم ولكن كميتها كبيرة، لذلك ربما تكون تحويلات الدخل أفضل من الدعم لأن تكلفتها أقل. ويمكن لتكنولوجيا المعلومات المساعدة في وصول تلك التحويلات إلى مستحقيها. إنَّ مبدأ الضريبة التصاعدية يشكل ركناً أساساً من أركان السياسة الضريبية، ولكن هذا المبدأ يُخترق فعلياً، والتطبيق الشفاف والنزيه للضرائب التصاعدية يتطلب برنامجاً يعمل على تطوير ضرائب أكثر تصاعدية، فعلياً وليس ورقياً. يمكن احتساب ضرائب تصاعدية حقيقية على الأرباح الحقيقية وعلى رواتب السوبر مدراء التنفيذيين لبعض المؤسسات المالية وغير المالية، التي تأخذ شكل شركات مساهمة تطرح أسهمها للاكتتاب العام، إذ تبلغ الرواتب لبعض المدراء التنفيذيين في بعض المصارف الخاصة التي تطرح أسهمها للاكتتاب العام، وسطياً، بحدود 150 مليون ليرة سنوياً. يمكن لسياسة المالية العامة أن تستهدف فرض ضرائب إضافية على السلع المؤذية للصحة العامة، كالتبغ، والكحوليات، والسكر، والدهون غير المشبعة، والملح، مثلاً، ويمكن زيادة الدعم لبعض السلع المفيدة للصحة العامة ومصادر الطاقة النظيفة، كالغاز الطبيعي ومنتجات الألبان والفواكه ومصادر البروتين المغذي واللقاحات. وهذا من شأنه أن يحسن الصحة العامة من جهة ويحسن الإيرادات الضريبية من جهة أخرى. عادة ما يؤدي تحرير الحساب الرأسمالي وضبط أوضاع المالية العامة (خفض الإنفاق وزيادة الضرائب) إلى بعض المزايا، ولكنه يؤدي أيضاً إلى زيادة عدم المساواة، وهذا لا يعني أنه يجب عدم ضبط أوضاع المالية العامة، وإنما يجب ألا تركز المالية العامة على الكفاءة فقط، بل على الإنصاف في التوزيع أيضاً.   ‌ب. في جانب الإنفاق الحكومي يمكن رفع المستوى المعيشي للفئات الفقيرة، دون رفع الأجور أو الدخول النقدية لهذه الفئات، بل بالإنفاقِ الحكومي وتقديم الخدمات والمرافق العامة التي تلبي احتياجاتهم. ولكي تستطيع المؤسسات الحكومية القيام بدورها في تقديم الخدمات العامة يتطلب ذلك تخفيض حجم التهرب الضريبي وليس زيادة الضرائب. يمكن اعتماد قنوات إعادة التوزيع المتمثلة بأدوات المالية العامة التي يكون لها نتائج قريبة الأجل وأخرى طويلة الأجل: ولا يتم ذلك بالضرورة بزيادة الدخول النقدية، بل بفعل الإنفاق الحكومي وتوفير وإتاحة الفرص للجميع وعلى قدم المساواة، على أساس: • الاستثمار في رأس المال البشري وزيادة الإنفاق الحكومي على تحسين جودة التعليم لتوفير تعليم أفضل للجميع، وعلى برامج تدريبية لرفع مستوى المهارات، فالتغيرات التكنولوجية المتسارعة وزيادة الطلب على المهارات الغنية بالتكنولوجيا يتطلب إعادة تأهيل واكتساب مهارات جديدة عدة مرات للجيل الواحد طوال حياته. وهذا يتطلب إنفاقاً حكوميّاً على برامج تدريبية مستمرة وإعادة تأهيل مدى الحياة للأجيال المتعاقبة للتمكن من التكيف مع متطلبات سوق العمل. • زيادة الإنفاق الحكومي على الرعاية الصحية، والحماية الاجتماعية والبنية التحتية: لا يمكننا استغلال إمكانياتنا الاقتصادية الكاملة بدون الاستثمار في تعليم المواطنين السوريين وضمان صحتهم وأمنهم المادي. تنفق البلدان المتقدمة ما بين 20 و27% من الناتج المحلي الإجمالي على الحماية الاجتماعية، دون أن يؤثر ذلك سلباً في نمو تلك البلدان. وتستطيع الغالبية العظمى من البلدان النامية، بما فيها سورية، سد فجوة الحماية الاجتماعية وتقديم الحماية الأساسية بتخصيص 5%  إضافية فقط من ناتجها المحلي . وإذا كان الهدف من تقديم الحماية الاجتماعية هو حماية الفقراء، فإن سبب تقديم الدعم الاجتماعي هو معالجة حالات إخفاقات السوق، فالسوق في أغلب الأحيان تفتقر إلى الكفاءة. والحماية الاجتماعية تسهم في دعم النمو، بحسب العديد من الدراسات . الحماية الاجتماعية الفعالة هي تلك التي تساعد للفقراء على توليد الدخل بتحويلات نقدية وعينية. • توفير وسائط نقل عامة أقل تكلفة ومتاحة للجميع داخل المدن وبين المدن. كإجراء قصير الأمد: يمكن أن يكون تأمين وسائل نقل جماعية داخل المدن الكبرى (باصات للنقل الداخلي)، لا تكلف سوى مليارات قليلة، خطوة ضرورية ويجب أن تكون سريعة لتخفف العبء المادي ولتأمين وصول المواطنين إلى أعمالهم ومنازلهم بكرامة وبسعر معقول. خطوة من هذا النوع تكلفتها محدودة ومردودها الاقتصادي والاجتماعي عالٍ جداً.  • هل الأفضل تقديم إعانات للفقراء وللعاطلين عن العمل؟ أم القيام بسياسات تنشيطية تسهم في خلق فرص عمل جديدة، وإيجاد وظائف جديدة، والتدريب على مهارات جديدة والاستثمار في التعليم وفي البنية التحتية؟ هناك أكثر من مدخل للتنشيط المالي، من أهمها: - تخفيض الضرائب، وهذا لا يتناسب مع الواقع السوريّ، لأن الضرائب بالأساس منخفضة، والعبء الضريبي منخفض. - زيادة الاستثمار في البنية التحتية، وزيادة الانفاق الحكومي. يمكن أن يكون للاستثمار الحكومي في البنية التحتية الأثر الأفضل على نمو الناتج المحلي الإجماليّ، بحسبان أنَّ له تأثيرات انتشارية ومكاسب محلية على وحدات قطاع الأعمال الخاص والعام، تتمثل بتخفيض التكاليف (تكاليف النقل والنفاذ إلى الأسواق المحلية واسواق الدول المجاورة، وبالتالي إنتاجية أعلى واسعار أقل).   • من المهم تحديد أولويات الإنفاق الحكومي، على سبيل المثال، هل من الأولويات تخصيص مبلغ 14 مليار ليرة سورية لتجميل نهر بردى؟ أم الأولوية لتخصيص المبلغ نفسه لشراء باصات نقل داخلي ضمن مدينة دمشق وحل الاختناق الشديد تحت جسر الرئيس؟    موارد غير ضريبية لتمول الإنفاق الحكومي • تملك الحكومة السورية ومجالس المدن مناجم كامنة وفرصاً ضائعةً غير مستغلة على شكل عقارات وموارد طبيعية (مبان قديمة، أراضٍ غير مستغلة، شركات حكومية متوقفة ومغلقة، حقوق ملكية المساحات الأرضية، المرافق ... إلخ) يمكن استغلالها بشكل مُحوكَم لتوليد القيم المضافة، وتوليد دخول وإيرادات ترفد الموازنة العامة للدولة، وتُمكّن من خفض الضرائب على دخول العمل، وتمويل تكاليف البنية التحتية. هل تملك مجالس المدن قوائم بمخزون المدن السورية من الأصول التي تملكها أو تعرف قيمة هذه الأصول أو التغيرات التي تطرأ على هذه الأصول؟ بالتأكيد تبلغ قيمتها آلاف المليارات من الليرات السورية. هذا الواقع يتطلب: إعادة تقييم الأصول الحكومية وفق القيمة السوقية للتمكن من إدارتها بشكل جيد، وإحداث صندوق للثروة الوطنية على شكل شركة قابضة مملوكة للدولة لها فروع في كل محافظة، تتولى الإشراف على تطوير إدارة واستثمار الأصول العامة في المدن السورية، أو شركة حكومية في كل محافظة. • يمكن أن نقتدي بالرأسماليين مصّاصي الدماء، كما يحب بعضٌ تسميتهم، ونفعل كما فعلوا بعد الحرب العالمية الثانية، في بعض الدول الصناعية المتقدمة، إذ فرضوا ضريبة ثابتة ولمرة واحدة على الثروات المتراكمة بسبب الوضع الاستثنائي في زمن الحرب، فمثلاً، فرضت فرنسا ضريبة مقدارها 20% على الثروات التي تم مراكمتها في زمن الحرب. • التوقف عن الدعم المعمّم، الذي لا يستفيد منه الفقراء سوى بنسب متواضعة، والتحول إلى الدعم الاستهدافي والتحويلات النقدية المباشرة، وإنفاق أموال الدعم على الاستثمار في البنية التحتية والتعليم والصحة، بحيث تستفيد منها شرائح أوسع من المجتمع السوري. في عام 2008 حصل 40% من السكان الأكثر فقراً في سورية على 18% من إجمالي الدعم المقدم للمشتقات النفطية، وفي مصر استفاد 40% من السكان الأكثر فقراً على 3% فقط من الدعم المقدم لأسعار المشتقات النفطية، في حين كان وسطي ما حصل عليه 40% من السكان الأكثر فقراً في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بحدود 44% من الدعم المقدم للخبز والطحين . • الأفضل الحدّ من كل الإعفاءات الضريبية الموجهة لتشجيع الاستثمار، وبدلاً من ذلك توجيه الإيرادات الضريبية التي كانت توجه للحوافز الضريبية إلى التعليم والتدريب والصحة وإعادة بناء المؤسسات، لأن ما يهم المستثمرين ويجذبهم هو مؤسسات قوية وقاعدة قوية لرأس المال البشري تستطيع استيعاب المعارف والتكنولوجيا الحديثة، أكثر من اهتمامهم بالإعفاء الضريبي.  - إجراءات وسياسات أخرى تسهم في الحدِّ من التفاوت إضافةً إلى ما سبق، توجد قنوات أخرى يمكن أن تساعد في الحدّ من التفاوت في التوزيع والحدّ من الفقر في الأمدين المتوسط والطويل: ‌أ. الإصلاح المؤسساتي: إن المؤسسات الضعيفة تسيء توزيع الدخول والثروات، وتسيء إدارة الموارد على حساب السلم المجتمعي والكفاءة والنمو الاقتصادي، لذلك من الأولويات إصلاح المؤسسات. لقد أثبتت الوقائع أن عدم القدرة على تنفيذ السياسات والبرامج يكون بفعلِ البنية المؤسسية الضعيفة، وبما أن المؤسسات الضعيفة تسيء توزيع الدخول والثروات فهذا يتطلب إصلاح البنية المؤسساتية، لناحية البنية التنظيمية وأنظمة العمل والهيكل والتوصيف الوظيفي ومنظومة الشفافية والرقابة والمساءلة والمحاسبة، وآليات قياس كفاءة وفعالية المؤسسات. تعد الثقة بالمؤسسات والسياسات وصناع السياسات قوة دافعة للنشاط وللنمو الاقتصادي، وضعف الثقة يعني العكس. هل مجتمع الأعمال العام والخاص لديه الثقة الكافية بالسياسات وبصناع السياسات؟ هذا يتطلب تقاليدَ وضوابطَ ومؤسساتٍ، تتحدّد على أساسها كيفية ممارسة السلطة، بكلام آخر يتطلب حوكمة وسيادة القانون . المؤسسات المحوكمة والقوية تساعد، إلى حد بعيد، في الحد من الفساد واقتصاد الظل اللذين يتسبّبان بشكل كبير في زيادة حدة التفاوت في التوزيع. التكنولوجيا الرقمية مهمة بالتأكيد ويمكن استخدامها للحدّ من الفساد في مجال التهرب الضريبي، مثلاً، ولكن إصلاح المؤسسات أهم بكثير، ودورها أكثر أهمية. ‌ب. الإنتاجية: يساعد رفع مستوى إنتاجية عناصر الإنتاج في زيادة الثروات والدخول. وانطلاقاً من مبدأ فيزيائي يقول "عند ارتفاع منسوب المياه ترتفع كلّ السفن"، فيمكن أن يساعد ذلك للتخفيف من الفقر، ولكن ليس بالضرورة أن يؤدي ذلك إلى مستوى أفضل من الإنصاف وعدالة أكثر في التوزيع، كما أثبتت دراسات عديدة ، وبالتالي لا بد من التدخل الحكومي، لأن مسألة التوزيع هي مسألة سياسية أكثر منها مسألة اقتصادية. ‌ج. شمولية الخدمات المالية : توسيع نطاق الوصول إلى الخدمات المصرفية والمالية والاستفادة منها، وتحسين فرص الوصول إلى التمويل الصغير، وتوسيع نطاق الائتمان الصغير والمتناهي الصغر للفقراء في مختلف المناطق الحضرية والريفية، من شأنه أن يسهم في تحسين سبل العيش، وخلق فرص العمل وزيادة النمو والحد من الفقر. بمعنى آخر إمكانية الوصول إلى نظام مالي رسمي آمن وبتكاليف معقولة، سيسهم في زيادة الاستثمار، وتأسيس الأعمال الخاصة وتعزيز الإنتاجية والنمو الاقتصادي. الإشراك والشمول المالي مفيد للأفراد وللشركات ومفيد للاقتصاد الكلي.    رابعاً- معيقات تعيق عملية تصحيح مشكلة التوزيع قد يكون هناك بعض المعيقات التي تعيق عملية الحدّ من التفاوت في التوزيع، ولكن هذه المعيقات ليست قدراً، بل هي مشاكل قابلة للحل، وكون "الحياة عملية مستمرة لحل المشاكل"، فإنه يمكن حلها من خلال برامج عمل حكومية يمكن أن يُعمل عليها في إطار المشروع الوطني لسورية ما بعد الحرب. من أهم تلك المعيقات:  1. الفساد واستحواذ شبكات الفساد على قسم من مفاصل الدولة الحيوية، وتدني فعالية المؤسسات الحكومية في السيطرة على الفساد. يضاف إلى ذلك حجم اقتصاد الظل، الذي يعد، في جزء كبير منه، المولود الطبيعي للفساد، ويستحوذ على نسبة عالية من حجم الاقتصاد السوري. الفساد واقتصاد الظل يشكلان تحدياً جِدِّياً امام تصحيح التفاوت في التوزيع.  2. البنية المؤسسية الضعيفة: تدني المساءلة، والبنية المؤسساتية الهشة في كثير من مؤسسات الدولة وضعف الحوكمة المؤسسية، وتدني مستوى الشفافية وسيادة القانون. 3. الحصار والعقوبات الاقتصادية والسياسية، والسعي الحثيث لأعداء سورية لإطالة زمن الحرب، والعمل على زيادة تفاقم المشكلات الاقتصادية وغير الاقتصادية.    الخاتمة إنَّ الدافع للاهتمام بمشكلة توزيع الثروات والدخول، ليس بسبب البعد الأخلاقي، وليس لأن هذا الأمر يعدّ صواباً من الناحية الأخلاقية فقط، بل لأن متطلبات النمو واستمراريته ومتطلبات التنمية المستدامة بمعناها الواسع، تستدعي إيلاء هذه المشكلة عناية خاصة، تحديداً بعد ثماني سنوات من الحرب. وهذا يتطلب حزمة من الإجراءات والسياسات المتكاملة، المالية وغير المالية، على المدى القصير، وعلى الأمَدَيْن المتوسط والطويل، ولا يتوقع من حزمة الإجراءات والسياسات هذه، أن تحدث فرقاً واضحاً، إلا بعد عدة سنوات.   المراجع باللغة العربية الكتب 1. أفهيلد، هورست. اقتصاد يغدق فقراً. ترجمة: عدنان عباس علي. الكويت: عالم المعرفة، 2007. 2. بالون، إم. جي.. الهيمنة والمساواة في السيادة. ترجمة: أحمد سعود حسن. دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، 2015. 3. بيكيتي، توماس. رأس المال في القرن الواحد والعشرين. ترجمة: وائل جمال وسلمى حسين. القاهرة: دار التنوير للطباعة والنشر، ط 1، 2016. الدوريات والندوات والمواقع الإلكترونية 1. "التصدع الاجتماعي في سورية-أثر النزاع في رأس المال الاجتماعي"، المركز السوري لبحوث السياسات، 21 حزيران/يونيو 2017. http://bit.ly/2Q3uhhe 2. أليتشي، علي. "الفجوة"، مجلة التمويل والتنمية، المجلد 53، العدد 4، 2016. 3. باستالي، فرانشيسكا، ديفيد كودي، سانجيف غوبتا. "حصة عادلة"، مجلة التمويل والتنمية، صندوق النقد الدولي، كانون الأول/ديسمبر 2012. 4. خضور، رسلان. "الآثار الاقتصادية والاجتماعية لاقتصاد الظل"، ندوة الثلاثاء الاقتصادية السادسة عشرة، جمعية العلوم الاقتصادية، دمشق، 2017. 5. خضور، رسلان. "دور التطور التكنولوجي والعولمة في تغيير مبدأ ندرة الموارد"، مجلة العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال، الجامعة اللبنانية، 2018. 6. سيشون، مايكل. "توفير المستوى الأساسي من الحماية الاجتماعية"، مجلة التمويل والتنمية، كانون الأول/ديسمبر 2018. 7. صابوني، عماد. "إصلاح القطاع العام الاقتصادي"، محاضرة قدّمت في ندوة حوارية في مقر جمعية العلوم الاقتصادية، 19آذار/مارس 2019. 8. صندوق النقد الدولي. "التقرير السنوي- بناء مستقبل مشترك". واشنطن: 2018. 9. لوستيغ، نورا. "الأكثر تفاوتاً على الأرض"، مجلة التمويل والتنمية، أيلول/سبتمبر 2015. 10. هيئة التخطيط والتعاون الدولي، "التقرير الوطني للتنمية المستدامة"، 2018.  باللغة الإنكليزية الكتب 1. Clements, Benedict J. et al. Inequality and Fiscal Policy. Washington: International Monetary Fund, 2015. 2. Milanovic, Branko. Global Inequality: A New Approach for the Age of Globalization. Massachusetts: Harvard University Press, 2016. 3. Ostry, Jonathan D., Andrew Berg, Charalambos G. Tsangarides. Redistribution, Inequality and Growth. Washington: IMF, April 2014.  الدوريات والمواقع الإلكترونية 1. Berg, Andrew G., Jonathan D. Ostry. “Equality and Efficiency”, Finance & Development, Vol.48, No. 3, September 2011. 2. Bourguignon, François. “Spreading the Wealth”, Finance & Development, Vol. 55, No. 1, March 2018. https://www.imf.org/external/pubs/ft/fandd/2018/03/bourguignon.htm 3. Coady, David, Valentina Flamini, Louis Sears. "The Unequal Benefits of fuel subsidies: Evidence for developing countries", International Monetary Fund (IMF), November 2015. http://bit.ly/2LVaySa  4. Dang, Hai-Anh H., Elena Ianchovichina. “Welfare dynamics with synthetic panels: The case of Arab world in transition”, World Bank, No. 7595, 2016. http://documents.worldbank.org/curated/en/785401468000267287/pdf/WPS7595.pdf 5. Kuznetsm, Simon. “Economic Growth and Income Inequality”, The American Economic Review, Vol. 45, No. 1, March 1955. 6. Ostry, Jonathan D.. “Growth or inclusion”, finance &development, Vol.55, No. 2, June 2018. 7. Rothstein, Bo and Eric M. Uslaner, “All for All: Equality, Corruption, and Social Trust”, World Politics, Volume 58, Number 1, October 2005. 8. Schneider, Friedrich, Andreas Buehn, Claudio E. Montenegro. “Shadow economies all over the world: new estimates for 162 countries from 1999 to 2007”, The World Bank, July 2010. http://documents.worldbank.org/curated/en/311991468037132740/pdf/WPS5356.pdf 9. Sdralevich, Carlo A. et al. “Subsidy Reform in the Middle East and North Africa: Recent Progress and Challenges Ahead”, International Monetary Fund (IMF), 9 July 2014. http://bit.ly/2Q8aA7Y 10. Selingo, Geff. "The missing middle class on college campuses", LinkedIn, 8 May 2017. https://www.linkedin.com/pulse/missing-middle-class-college-campuses-jeff-selingo 

سيريا ديلي نيوز - مركز دمشق للأبحاث والدراسات "مداد"


التعليقات