أدت التطوراتُ في الحربِ السوريّة إلى نوعٍ من التحوّل في قراءة وتقدير شريحة قد تكون كبيرة من السوريين لحالة الحرب الدَّائرة في بلدهم، ومن ثم للموقف بين المجتمع والدولة، من أولوية نسبية للعوامل الخارجية إلى أولوية نسبية للعوامل الداخلية، بدا ذلك في صورة واضحة على شكل انتقاداتٍ حادّةٍ وغير مسبوقة للسياسات الحكومية ونمط استجابتها للحرب. الأمر الذي وضع فواعل السياسة أمام مدارك تهديد كبيرة، وجَدَّدَ الأمل لدى أعداء النظام السياسي والدولة بإمكانية مواصلة الحرب بأدوات أخرى لتحقيق ما لم تحققه الحرب نفسها.
كيف حدث ذلك التحول في الموقف، ولماذا لم يتمكن أهل الإيالة (النظام السياسي والدولة) من بناء مستوى أكبر من "الثقة" بينهم وبين أهل العيالة (فواعل المجتمع والاقتصاد والثقافة وغيرها)، ولماذا لم يتمكنوا من "الموازنة" بين سقف التوقعات المرتفع وحدودِ القدرات والإمكانات المنخفضة نسبياً، وكيف يمكن تفسير "انكشاف" المشهد في سورية على مصادر تهديد غير مسبوقة، وهل كان "الجهل" بالواقع أو "عدم معرفته" بشكل دقيق فرصة للنظام السياسي والدولة بالفعل، ليتحول الموقف بعد ذلك إلى تهديد بسبب اتضاح الرؤية؟
وما الاستجابة الممكنة حيال ذلك التهديد، والحديث هنا يتناول رؤية ومنطق استجابة وليس برنامجاً أو خطة استجابة؟ وفي ظلِّ ضيق الخيارات والبدائل وتراجع قدرة البلد وقدرة (وربما إرادة) الحلفاء على الفعل، وفي حال استمر انحباس السياسات، ربما تكون "المخاطرة" –بما هي إقدام على تغيير الرؤية والنمط– أهم استجابة ممكنة في الوقت الراهن.
لا تصدُر التجاذبات الحاصلة بين الإيالة (الدولة) والعيالة (المجتمع) تجاه تحديات الحرب من رؤيتين مختلفتين للحرب في سورية، لكن المرجعية الواحدة غير كافية لتدارك التوتر وربما الخلاف، إذ من الممكن أن تحدث اختلافات وتبدلات تضع الطرفين في مواجهة لا تحمد عقباها.
يبدو أن حجم وطبيعة التحديات في المشهد السوريّ لم تكن واضحة أو معروفة لدى شريحة قد تكون كبيرة من المتلقين السوريين وحتى لدى جانب من فواعل السياسة وبيروقراطية السياسة العامة والحكم، ما تسميه الدراسة أثرَ "ستارِ الجهالة" باستعارة تعبير معروف لـ جون رولز، غير أنَّ "انكشاف" المشهد عن تحديات كبيرة من الداخل والخارج، سبّب حالة من الإحباط وضَعَّفَ الثقة بالسياسات الحكومية، وزاد من حالة من اللايقين تجاه التطورات الراهنة والمحتملة للأوضاع في سورية.
وقد وصف الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك الحرب في سورية بأنها "صراع زائف"، بمعنى أن "لا موضوعَ" سوريّاً للصّراع، أو لا فواعل سورية حاضرة على طرفي الصراع. ويمكن القول –بشيء من التعميم الحذر– إنَّ البعد السوريّ هو أقل الأبعاد حضوراً وتأثيراً في الحرب الدائرة اليوم، ما يحيل إلى أن ديناميات استمرار الحرب هي ديناميات إقليمية ودولية بصورة رئيسة، وهذا إذ يطمئن من جهة أن لا فواعل سورية كبيرة منخرطة بقوة في الحرب، إلا أنه من جهة أخرى يثير مخاوف كبيرة من أن الفواعل الدولية وإلى حدٍّ ما الإقليمية هي المتحكمة بالحرب.
لعلَّ المهمة الأكثر إلحاحاً وأهمية وأولوية وصعوبة في سورية اليوم هي تغيير النمط، والإقدام على التفكير من خارج الأطر التقليدية، أي استعداد فواعل الحكم وأهل الإيالة والعيالة معاً لتدبر سبل غير نمطية للتعاطي مع تحديات الحرب وتحديد أولويات ما بعد الحرب.
إنَّ "تجسير" أو "تدبير" الفجوة بين أهل الإيالة/الدولة وأهل العيالة/المجتمع يتطلب توافر وتضافر جهود كبيرة على هذا الصعيد، بما في ذلك تفكيك سُتُر وحُجُب الجهالة والجهل وسوء الفهم والتقدير بين الطرفين، ومراجعة نظم القيم وأنماط التفكير حول مفاهيم أساسية، مثل: السلطة والدولة والمجتمع والعلاقات والتفاعلات الاجتماعية وغيرها. وقد أظهرت التحولات العملية والمقاربات النظرية والفكرية في عالم اليوم أن معنى السلطة والدولة يتطلب مراجعة عميقة وملحة، إذ لم تعد مفاهيم السلطة والقوة والمعنى على حالها.
إن التغيير مرهون بالإرادة والاستعداد والإقدام على الفعل، بدءاً من مراجعة المدارك والسياسات، إلى اختيار بدائل وخطط استجابة، إلى إقامة جسور التواصل والتراسل والتفاعل بين الإيالة والعيالة أو الدولة والمجتمع، موضوع هذه الدراسة، بالإضافة إلى أنماط التفاعلات الإقليمية والدولية، إذا كان لا يزال ثمة فرصة لفعل شيء قبل أن يصدمنا قطار جيجيك.
تتألف الدراسة من مقدمة وثمانية محاور، أولاً- في المقاربة ويتضمن: أولوية الانتقاد على الاعتقاد، والنظر والعمل، الغموض الأصلي واللانمطية، أعماق الظاهرة، ثانياً- الجيد الكامن في السيء، ثالثاً- الثالث المرفوع! رابعاً- الضوء الذي في آخر النفق ويتضمن: خطاب الأمل، وكيف كنا وكيف صرنا! وقطار آخر النفق! و"ما باليد حيلة"، وما بعد الحرب هو الحرب، وخطاب الرئيس الأسد؛ خامساً- ستار الجهالة ويتضمن: الستار الصالح، وستار الغفلة، ومرة أخرى، خطاب الأسد، وميزان التبعات، وميزان الصدق-الكذب، سادساً- المخاطرة، سابعاً- لينين الحكيم، ثامناً- الإشارات والتنبيهات، وأخيراً خاتمة.
 

لتحميل المادة كاملة : الإِيَالَةُ والعِيَالَةُ: الثِّقَةُ والأَمَلُ والجَهَالَةُ والمُخَاطَرَةُ في الحَربِ السُّورِيَّة - د.عقيل سعيد محفوض

 

سيريا ديلي نيوز_ مركز دمشق للأبحاث والدراسات مِداد


التعليقات