خليل صويلح

تقدّم هذه الورقة قراءة بانورامية للروايات السورية التي أُنتجت أثناء الحرب، واستعراضاً لبعض نماذجها، بقصد النظر إلى المنعطف الذي أصاب السرد الروائي، سواء أكان ذلك على صعيد التوثيق والتأريخ، أم لجهة طبقات التخييل، كما تشير هذه القراءة إلى الاصطفاف الإيديولوجي لدى بعض الروائيين على حساب جماليات السرد، ما أوقع هذه الروايات في الارتداد إلى موقع الحكواتي أكثر من انتسابها إلى الفن الروائي، وتالياً فإنَّ هذه النماذج هي حصيلة أوليّة للمخاض بكل ما يحمله من أوجاع.

 

 

مقدمة

يصعب رسم خريطة بتضاريس واضحة للمشهد الروائيّ السوريّ الذي أفرزته الحرب. سنصادف خنادق متقابلة، وحفراً في الطريق، وحواجز، وقنّاصة، ذلك أن المفردات الميدانية لها ما يقابلها في المدوّنة السردية، تبعاً لموقف هذا الروائي أو ذاك، مما جرى ويجري في البلاد طوال الأعوام الثمانية الماضية. تتجلى المعضلة النقدية في فرز ما هو روائيّ محمول على رافعة جمالية، وما هو خطاب إيديولوجي صِرْف مضاد سلفاً لأطروحات كل من لم يركب موجة "الربيع العربي"؛ ذلك أنَّ معظم الروايات التي صدرت في الخارج، كانت أقرب إلى تصفية حساب مع منظومة القيم الوطنية، إذا لم نقل ذات نبرة ثأرية، وتفتقد الصدقيّة كوثيقة جمالية أو بلاغية، فهذا الطراز من الروايات عمل على النظر بعين واحدة في تفسير وقائع الحرب. على أن ذلك لا يعني بأن الصنف الآخر لم يقع في بعض نماذجه في مطب الاصطفاف المضاد، وتبرير مجريات الحرب باللجوء إلى الشعاراتية والهتاف العالي وتمجيد العنف. ولكن قبل ذلك ينبغي إزاحة عشرات العناوين التي اكتفت بسرد حكاية ما، دون أن تتوغل بطبقات السرد الأخرى لجهة المعمار الروائي وتعدد الأصوات، مكتفية بصوتٍ واحد، وحقيقة واحدة غير قابلة للجدل، وبناء عليه يمكننا القول: هناك حكواتي، وهناك روائي.

 

 

أولاً- بين الحكواتي والروائي

حكواتيون أتوا الكتابة الروائية بسطوة مواقفهم السياسية، دون أن يتمكنوا من أدوات الصنعة ومتطلبات السرد الروائي، يكفي أن تمتلك حكاية عن عبور البحر باتجاه دول اللجوء كي تظن بأنك روائيّ، وغالباً ما تكون هذه المدوّنات شبه شفوية، وتعمل على تمجيد الذات في المقام الأول باختراع بطولات وهمية للراوي/الحكواتي. هكذا سنقرأ عشرات "الروايات؟" لأسماء مجهولة، لم تكن يوماً جزءاً من المتن الروائي السوريّ، وتالياً، فهي أقرب إلى المذكرات المشتهاة بقصد الاستثمار الإيديولوجي والسياسي المدفوع الثمن من جهات ومنظمات غامضة، أو أنها صكوك براءة من تواريخ مثقلة بالعار الشخصيّ.

مستطيل مستدير الزوايا: هناك روايات "ديلفري" سورية أشبه بالوجبات الجاهزة، أو أنها أتت كتصفية حساب مؤقّتة. ولعل أسوأ ما يفرزه الأدب هو الثأرية بقصد مكاسب إيديولوجية طارئة على أصحابها.والحال فنحن إزاء نصوص روائية هجينة وحائرة بين التوثيق ومتطلبات التخييل الروائي، بالإضافة إلى جرعات كبيرة من الديماغوجية لتصريف فائض الثأر من السلطة لتصدير موقف مضاد واستثماره آنياً، وبناء على ذلك، فإن ركاماً هائلاً سيذهب إلى سلة النفايات، بوصفه غرضاً يصلح للاستعمال مرّة واحدة لا أكثر، رغم حفلات الصخب الإعلامي حول هذه الروايات، وترجمتها إلى لغات عالمية، وذلك من موقع التضامن مع خطابها "الثوري" أكثر منه تشريحاً نقدياً لماهية الرواية، إلا أن هذا الصخب انطفأ باكراً بانطفاء الرافعة الإيديولوجية لمثل هذه النصوص العرجاء التي اتكأت في الأصل على عكاكيز من القصب الدعائي، وانشغال الميديا الجديدة بشؤون أخرى.

أن تعيش الحرب وجهاً لوجه، وتتوقّع أن تموت في كل لحظة بقذيفة أو انفجار أو جلطة دماغية، سيتطلب سرداً يواكب هذا الجنون، وهذه البلاغة في صناعة القتل، ونمو الوحش البشري على حساب آدميته. هذه التحولات تحتاج إلى معايشة مباشرة، وإعادة إعمار تخييلية؛ ذلك أن المسألة ليست بامتلاك حكاية عن الحرب، إنما في كيفية تركيبها وتفكيك مفاصلها وتزييت عجلاتها بما تتطلبه الرواية كرواية بصرف النظر عن محتواها.

عموماً، هناك روايات "ديلفري" سورية أشبه بالوجبات الجاهزة، أو أنها أتت كتصفية حساب مؤقّتة. ولعل أسوأ ما يفرزه الأدب هو الثأرية بقصد مكاسب إيديولوجية طارئة على أصحابها.

 

 

ثانياً- المؤرخ والسياسي

في هذا السياق، اعتنى الناقد والروائي نبيل سليمان أكثر من غيره بما أسماها "روايات الزلزال السوري"، مبتعداً عن معجم التخوين والاصطفاف القبلي، واتهم بعض الروايات بأنها طائفية (السوريون الأعداء) لفواز حداد، تمثيلاً لا حصراً، وأحصى نحو 20 رواية كُتبت في ظل هذا الزلزال، ملتمساً ما انطوت عليه من «خطاب فنّي حار، بل مدمّى، تتضاعف ضرورته في هذا المآل التدميري الذي آلت إليه سورية، على أي مستوى شئت، وأنّى أدرت وجهك، أو قلّبت بصرك، أو كتبت، أو قرأت». ووصف هذه الروايات بأنها اعتنت بأولوية الواقع الأغنى أو الأغرب أو الأكبر من كلّ خيال «ويمكن للمرء أن يؤشّر بقوة إلى ما في هذه الروايات من سَيريّة أو تشغيل للحبر أو تعرية للطائفية أو العسكرة أو الديكتاتورية. وإذا كان في هذه النصوص ما يكبر به الوعد الروائي، فلا ريب في أن الوعد سيكبر في المجهول من مخطوطات تنكتب أو تنتظر النشر، وبخاصة ما قد يكون منها لأصوات جديدة وشابة». ويشير نبيل سليمان إلى أنه أنجز خلال الحرب روايتين هما: "جداريات الشام- نمنوما"(2014)، و"ليل العالم"(2017)، رصد في الأولى وقائع السنة الأولى من الزلزال السوري؛ بينما تناول في الثانية مدينة الرقة بعد أن غزتها التنظيمات التكفيرية. «وإذا بالرواية التي انتظرتها أكثر من أربعين سنة تنكتب، وبها تتجدد مغامرة مثل هذه الكتابة التي يتحاشاها كثيرون، بدعوى الانتظار حتى (تختمر) التجربة وتنتهي المرحلة، تماماً مثلما يسقط كثيرون في مهاوي المباشرة والثأرية ومنافسة الصحافي أو المؤرخ أو الناشط أو السياسي» يقول.

 

 

ثالثاً- نماذج روائية

من جهتها، أنجزت شهلا العجيلي روايتين عن الحرب: "سماء قريبة من بيتنا"(2015)، و"صيف مع العدو"(2018)، كانت مدينة الرقة جغرافيتهما الروائية، كمسقط رأس وملعب طفولة، قبل أن تغادرها إلى مدنٍ أخرى لتشتبك مع معنى الفقدان والمنفى واللجوء، كما ستنبش تاريخ هذه المدينة التي اجتاحها البرابرة الجدد، وجوهر الحرب التي لا تكتفي بحصد الأرواح، إنما تعتمل داخل النفوس على هيئة سرطان يفتك بجسد بطلتها.

في "صيف مع العدو" ترصد حكاية ثلاث نساء، نتعرف فيها على مئة عام من تاريخ المنطقة العربيّة وما حولها، عبر سرد للتحوّلات الاجتماعيّة، والقضايا الوجدانيّة، وأطياف الحروب. وتوضح في شهادة لها عن رواية الحرب بقولها: «ليس النصّ الروائيّ إعلان بيانات أيديولوجيّة من وجهة نظري، وليس وثيقة أخلاقيّة أيضاً، فالوثائق لا تنجو من التزوير، والرواية مقاربة صادقة للحياة، وإدانة للقبح والقسوة وقسريّة التحوّلات، وبالمناسبة هي ليست دعوة للتضحية أيضاً»، وتضيف: «العالم الروائي ينبني على الدراما، وإذا قام صانعها بمحاباة أحد العناصر الدراميّة أو تغييب آخر، سيسبّب إخفاقاً معرفيّاً وجماليّاً على حدّ سواء».

وفي روايته "كتاب دمشق: حاء الحب راء الحرب" يستعيد هزوان الوز تاريخ دمشق بالاتكاء على شذرات من الكتب التراثية التي تناولت تاريخ هذه المدينة بالتوازي مع وقائع راهنة عاشتها دمشق في السنوات الأخيرة، بوساطة رصده حكاية صحافي يكشف قضايا فساد فيختفي أثره، وذلك عبر إيقاعٍ صوفي ينطوي على طهرانية عالية في تشريح النزيف السوريّ، وقراءة طبقات الألم في وطن «أثخنته الحرب بغير خنجر في جسده، حتى كادت تحوّله إلى أشلاء يتناهبها الحريق من جهاتها جميعاً». وسوف يسجّل وقائع أخرى في ثلاثيته "معرض مؤجل" عبر شخصيّة الراوي الذاتيّ وهي الشخصيّة المركزيّة التي تهيمن هيمنة شبه مطلقة على مقدّرات السرد في الرواية، سواءٌ أكان ذلك برواية الحدث، أم وصف مجرياته، أم التدخّل في توجيهه وإدارته وتمثيله سردياً وثقافياً ورؤيوياً، كما تتعرّض الرواية للحرب التي أشعلت الوطن (سورية) بمزيد من المآسي والأوجاع والشهداء والتدمير والخراب، الحرب التي شقّت الصفوف وألهبت التنازع الهُويّاتي الذي كان مطموراً أو (مؤجّلاً) تحت فضاء الحدّ الأدنى المحروس من العيش، إذ يقذف الراوي الذاتيّ حُزماً من الإشارات الدالّة –تصريحاً وترميزاً– في مناطق مفصليّة من حرارة السرد وتوهّجه، وهو يتحكّم بمقود السرد، ويسيّره وفق مقصديّة واضحة، بحيث تكشف هذه الإشارات عن وجهة نظر الراوي في إشكاليّة الهُويّة في طبقتها العليا (المثاليّة) وطبقتها الدنيا (الفعليّة)، وبما يتشظّى بين الطبقتين من مواضعات وأخلاقيّات وسلوكيات فرضتها الحرب وكوّنت على أساسها تقاليد جديدة للأشياء، على النحو الذي يجعل بطل الرواية بطلاً مهزوماً في سلّم مستطيل مستدير الزوايا: من المؤكد أن أي رسالة لا قيمة لها، في الرواية، إذا لم تكن محمولة على بنية فنية تسعى إلى تجديد الكتابة الروائية نفسها. وهذا يعني أن على الروائي أن يبحث عن وسائل التلقي الفنية القادرة على جعل الرسالة في روايته، مرشحةً للحياة.

الخيارات.

ويتناول ممدوح عزّام في روايته "أرواح صخرة العسل" حكاية ثلاثة أصدقاء ونشأتهم في قرية متاخمة لمركز المدينة، وعلاقاتهم بمن حولهم من جيران ومسؤولين، تتحوّل إلى رمز للحياة في سورية كلها بأبعادها وتحولاتها المختلفة، وكيف تكون النشأة والطفولة مؤثرة وفارقة في حياة أصحابها وحاضرهم ومستقبلهم، منذ التحاقهم بالمدرسة وعلاقتهم بمعلميهم ومدير مدرستهم، وكيف يمكن تربية الأطفال والطلاب على السمع والطاعة، أو على أن يصبحوا وشاة يكتبون التقارير عن زملائهم وأصدقائهم، وكيف تتحوّل تلك الممارسات والتصرفات في ما بعد إلى وصمة عارٍ تلاحق أبناء القرية كلها. هنا نقع على صورة أخرى من صور المجتمع السوريّ وحياته وتغيّرات أفراده في إطار تلك الحرب اللعينة التي فرضت نفسها عليه، ولم يجد أحدهم مفرّاً من مواجهتها، حتى كانت نهايتهم المأساوية بسبب تلك الحرب. يقول ممدوح عزّام في توصيف الرواية السورية اليوم: «همّ الروائي الأول هو أن يكتب جيداً»، كما ألمحَ إلى ذلك معظم الكتاب. أي أن يكون البحث في هموم الكتابة الفنية له الأولوية على ما عداه من المسائل الأخرى المتعلقة بالمحتوى والمضمون. ومن المؤكد أن أي رسالة لا قيمة لها، في الرواية، إذا لم تكن محمولة على بنية فنية تسعى إلى تجديد الكتابة الروائية نفسها. وهذا يعني أن على الروائي أن يبحث عن وسائل التلقي الفنية القادرة على جعل الرسالة في روايته، مرشحةً للحياة. وهنا يختلف الروائي عن التسجيلي أو المؤرخ. فعمله قائمٌ على الاختيار الفني والقطع واللصق من أحداث الواقع، بقدر ما هو قائم على ابتكارات المخيلة التي قد تروي ما لم يحدث على الأرض واقعياً. ولهذا يوجه كُتَّابٌ كثيرون هذا التحذير للروائي: لا تجعل من روايتك وقوداً لأي قضية. ليست الرواية حطباً يمكن استخدامه لإشعال أي مدفأة فكرية مهما كانت نبيلة. فالقضية ترتقي، وتصير أكثر نبلاً، وقوة، وحضوراً، حين تعبّرُ عنها رواية جميلة تراها من موقع الند.

في روايته الأولى "حقول الذرة"(جائزة الطيب صالح) يرصد سومر شحادة جوانب من الفاجعة السورية، وذلك بالاشتغال على أنساق معرفية، تحرّك وعي الشخصيات التي سنراها تتفاعل مع الأحداث بصور مختلفة، ما قادها إلى نهايات عبثية. نحن إزاء حالة مثقف يعيش حالات ذهنية شائكة، دون الاندفاع إلى التجريب الفعلي للمواقف وتداعياتها، فيرث التبعات النفسية للهزائم دون أن يخوض حروباً حقيقية. يوضح شحادة ذلك بقوله: «إنّها تبحث في الموت الذي لم يوظفه أحد، أستطيع الادعاء، في كونها رواية الموتى الذين أنكرهم الجميع، ليصيروا في الرواية أصحاب السلطة العليا حتى على الكاتب».

ويضيف في شهادة له «أعتقد أنّ السؤال ينبغي أن يكون بأي شكل سنروي ما يحدث، وربما من أين نبدأ؟ في المحصلة، مطلوب من الرواية اليوم، لا أن توثِّق، وإنّما أن توجه أسئلة مغايرة لما توثِّقه الكاميرات، أن تقدم رؤى، إن كان جائزًا أن نطلب شيئًا من نصّنا، فإنّه الرؤى».

ويتابع «ما حدث في سورية منذ اللحظات الأولى بدا أنّه يحدث كي يمحو ما قبلهُ. في الكتابة حصل أمرٌ مشابه، إذ جعل الكثيرون من كتاباتهم نوعاً من التشفي من ماضيهم خصوصاً، من كان مرتبطاً مع السلطة، صارت الكتابة لديهم نوعاً من التبرُّؤ مما قد شكّل خطابهم. وفي غمرة ذلك التبرُّؤ تنحّى ما هو فنيّ أمام حشدٍ من الأدوات السياسية والطائفية، وليّ عنق الفنّ لصالح الإيديولوجيا. لقد بنت هذه العقلية مشهداً غير متوازن، وتمت إعادة إنتاج ما كان يعتقد الآخرون أنّهم يقومون بإزالتهِ من ماضيهم. عوضاً عن العبور إلى ما هو إنساني وراء المتاريس؛ لقد بات مجرد البقاء في سورية تهمة ترمى في وجه من بقي، وصار كلّ خروج من البلد نكراناً لأهلها. لماذا نفعل هذا؟ ألا توجد طريقة لإيقاف سيل التشوهات الآخذ بالتشكل؟».

وفي رواية "وادي قنديل" لـ نسرين خوري، تعود الراوية ثريا إلى سورية بحثاً عن ذكرياتها القديمة التي لا يمكن أن تتذكرها؛ وهي الناجية الوحيدة (بمعجزة) من غرق مركب (في الخامسة من عمرها) فانتشلها ساحل لارنكا القبرصي وتبنتها "ماما ساتي" التي أصبحت أمها.

تعثر "ثريا" على مذكرات كاتبة سورية اسمها غَيم حداد تجد الكثير مما تجهله عن الحياة السورية قبل وبعد الحرب، وتتعرف على شخصيات مختلفة البيئات والانتماءات، فتندمج مع تلك الحياة المغيّبة عنها وتتآلف مع جذرها السوري الذي انقطعت عنه بعد غرق المركب وهي في الخامسة من عمرها، لتتشكل فيها ذاكرتان واحدة قبرصية وأخرى سورية، وتستدرج الكاتبة بذكاء عبر مخطوطة المذكرات الكثير من الحياة اليومية السورية كأنها كتبتها لجيل ضاع أو غرق أو هاجر أو غيبته الحرب قسراً.

هكذا تشكّل المخطوطة-المذكرات، ثيمة سردية مهمة كذاكرة مكان حرصت أن يبقى شاخصاً على مدار الرواية بصوتين: الأول، صوت ثريا الباحثة عن سوريتها الغريقة في لارنكا القبرصية؛ والثاني، صوت المخطوطة الذي مثلته كاتبة سورية هي غَيم حداد التي وثّقت المكان بطريقتها السلسة الممتعة، وهي تتناول شرائح اجتماعية حرصت أن تكون في صدر المذكرات بإحساس كاتبة حاولت ونجحت في إبقاء الحياة السورية المحلية بين سطورها، قبل أن تحرقها الحرب "في لعبة سردية دقيقة بين كاتبتين إحداهما نسرين ذات الصوت السارد الباحث عن الحقيقة الروحية والجمالية مهما كانت الظروف، والأخرى غَيم ذات الصوت المتواري خلف المذكرات ليندمج الصوتان معاً في سيرة مكان وحياة وبلاد".

 

 

رابعاً- المؤرخ وعالم الاجتماع

أما كاتب هذه السطور، فقد أنجز روايتين في ظلال الحرب هما: "جنة البرابرة"(2014)؛ و"اختبار الندم" (2017). وهنا شهادة شخصية في توصيف هاتين المغامرتين:

«لم أكن مهيأً لكتابة رواية عن الحرب، إلى أن سمعت هدير أول حوّامة بالقرب من نافذة غرفتي على سطح بناية في وسط دمشق. بدأ مخاض الكتابة على هيئة يوميات كنوع من العلاج المؤقت لمرضٍ مباغت. كانت أخبار التظاهرات والقتل والقنص تملأ الشاشات. بسقوط أول قذيفة على سطح البيت المقابل لبيتي، أدركت أن الأمر لم يعد مزاحاً. هكذا انخرطتُ في كتابة "جنّة البرابرة" بقصد تشريح فكرة الخوف. أن تباغتك قذيفة، وأنت ذاهب إلى موعد، أو وأنت عالق في زحام سيارات أمام حاجز أمني.

مستطيل مستدير الزوايا: نصّ الحرب، بالنسبة للروائي السوريّ اليوم، سيبقى وشماً في الجبين لحقبة طويلة، نظراً للمخزون الثقيل الذي خلفته هذه الحرب على الأجساد والأرواح معاً.كنت أرسم سيناريو متخيّلاً لكيفية طيران الأجساد لحظة انفجار القذيفة. سيتطور النص على مراحل باستخدام مفردات لم أستعملها قبلاً، مثل: الحاجز، القنّاص، الاختفاء القسري. وسأبتعد عن "عنتريات" البطل الروائي لمصلحة حكايات كانت تتناسل من كل الجهات بأقسى أنواع الهلاك، ثم تحوّلت مناماتي إلى كوابيس. الحيرة بين عمل المؤرخ، وعمل عالم الاجتماع، قادتني إلى يوميات حلّاق دمشقي، عاش في القرن الثامن عشر، بظروف مشابهة لما نعيشه اليوم، كتبها بعنوان "حوادث دمشق اليومية"، ثم سأستنجد بابن خلدون لترميم طبائع البشر في لحظة بدويّة متوحشة. بين هذين الخطين، كنت أدوّن يومياتي طوال سنتين من عمر الحرب، ببسالة راوٍ يعيش في ظل حرب مدمّرة، من دون ادعاءات فرديّة، أو اختراع بطولات كتلك التي تحدث في مواقع التواصل الاجتماعي على بعد آلاف الأميال، فقد كان الموت أليفاً كقطة تتناول حساءها على الأريكة المجاورة، وكان عليّ أن أدين العنف لدى الطرفين بجرعات عالية، من دون ثأرية، ولمصلحة كتابة سردية محمولة على رافعة وثائقية، فأن تكتب عن منطقة روائية غير مسبوقة، تحتاج إلى تقنيات موازية، وهذا ما سعيت إليه بابتكار سرديات متجاورة. كنت أظن أنني دفعت فاتورة الحرب تماماً، لكنني بعد نقاهة طويلة إلى حدّ ما، دهمني نصّ آخر هو "اختبار الندم"، ففيما كانت "جنة البرابرة" مشغولة بالمشهد الخارجي للحرب، ذهبت روايتي الثانية إلى فحص الطعنات الداخلية للشخوص، وتلك الندوب العميقة في الأرواح المهزومة، كمحاولة لترميم العطب أو فضح أحوال الجسد، ومعنى العار، جنباً إلى جنب مع فحص اللغة نفسها وضرورة تقشيرها من فائض البلاغة الجوفاء والانتهاك الإنشائي، وتالياً مقاومة لغة العنف بلغة محسوسة وبصرية لا تقبل المراوغة أو عمليات الفوتوشوب الإيديولوجية. سنحتاج وقتاً طويلاً للنجاة من أعباء النصّ الطارئ للحرب، قبل الغوص في بئر آثامه العميقة، وتنظيف هذه البئر من شوائب الاعتداء على مفاهيم السرد، بقوة الموقف من الحرب وحسب. شخصياً، أخشى نصوص الكراهية والبطولات الخرقاء لروائيين طارئين، أتوا وليمة لم يشاركوا في طهوها، وادّعوا أن الآخرين مجرد ضيوف عليها. لكن نصّ الحرب، بالنسبة للروائي السوريّ اليوم، سيبقى وشماً في الجبين لحقبة طويلة، نظراً للمخزون الثقيل الذي خلفته هذه الحرب على الأجساد والأرواح معاً. على منوال مخلفات الحرب سنقع على نصوص مشابهة، بعكاز، أو ذراع مبتورة، أو حالة عمى مؤقت».

 

 

إشارة ختامية

لعلَّ ما أفرزته روايات الحرب، بصرف النظر عن فتنتها الروائية أو خيباتها السردية، فَحَصَ الشخصية السورية سوسيولوجيّاً في المقام الأول، في قراءات متعددة تنطوي على عتبات جديدة تنسف ما قبلها لجهة التأريخ أولاً، والانفتاح على فضاءات لم نخبرها قبلاً في معنى الحرب وتوابعها ثانياً، بالإضافة إلى حضور الذات المهشّمة والهشّة، أو الخارقة على صعيد الإنشاء السردي وحسب، إذ تكفّل الراوي، في أغلب الروايات المهاجرة، القيام بأفعال بطولية مزيّفة تبعاً للأجندة الدعائية التي ينتسب إليها.

مركز دمشق للأبحاث والدراسات

مِداد

سيريا ديلي نيوز


التعليقات