نساء تحدين الأعراف والقوالب التي وضعت من قبل الحرب، ظروفا فرضتها الأزمة كانت نقطة تحول في حياتهن، فكان إصرارهن وقوتهن أساساً لترتكز عليه نساء أخريات، وتساهمن بدورهن في بناء مجتمعهن ابتداءً بأسرهن الصغيرة، في عدة مدن من سوريا.

تحولت المرأة السورية في كثير من الحالات من ربة منزل إلى سوق العمل مجبرة، لا خيار، فأجرة السكن وتأمين الغذاء وشراء مستلزمات منزلية أساسية، إذ أن الكثيرات منهن أنفقن مدخراتهن كاملة حتى اضطررن لبيع خاتم الزواج، مع الأخذ  بالاعتبار أن لا مشكلة في المجتمع السوري غالباً في عمل المرأة، لكن معظم النساء فوق سن العشرين اتجهن للعمل بسبب سوء الأحوال المعيشية وغلاء الأسعار وفقدان المعيل.

رغم الإعاقة تعمل ...

سمر العبد الله البالغة من العمر 50عاماً، رغم إعاقتها وعدم قدرتها على المشي، بسبب إصابتها إثر قذيفة هاون سقطت على منزلها، ورغم مكوثها في البيت لسنوات، إلا أنها لم تكتف بأن تقبع بين الجدران لتنتظر نهاية حياتها

امتهنت الخياطة في سن متأخرة مستفيدة من بعض الورشات التي قدمتها منظمات المجتمع المدني لتمكين المرأة، وفي غضون ثلاث سنوات أصبحت من أمهر الخياطات في مجالها، يقصدها النسوة في حيها بالعاصمة السورية دمشق.

تحدثت سمر، لـ  الأيام، قائلة "لم أفكر أبداً بأنه بإمكاني القيام بشيء مفيد بسبب إعاقتي، ولكن كان لابد من القيام بشيء أقدمه لنفسي للاستمرار في  الحياة، تعلمت الخياطة وكيفية استخدام الماكينة الآلية، وامتهنتها فيما لا يقل عن عام، والآن تتهافت عليًّ نساء الحي لأخيط لهن، وبذلك لم أعد أفكر بكيفية انتهاء حياتي بل أصبح جل تفكيري على كيفية تحسين حياتي، وما يمكنني تقديمه لعائلتي بالمال الذي أجنيه من عملي.

 

في فترة الحرب  ظهرت عدة منظمات وجمعيات اهتمت بتمويل المشاريع الصغيرة، وتهيئة الكوادر بالمهارات المطلوبة كالخياطة وحياكة الصوف وصنع الحلويات ، بالإضافة إلى الأمور المتعلقة بتزيين المرأة

رقية من النساء التي استفادت من هذه الورشات، قالت ، "بعد إصابة زوجي في حرستا، نتيجة المعارك مع العصابات الإرهابية المسلحة، كان لابد لي من إيجاد حل لإعالة أطفالي الصغار، وبعد أن سمعت بالورشات التي يتم تقديمها لتدريب النساء، أتقنت  تعلم الطبخ وصناعة الحلويات المنزلية، وأنا الآن أدير مطبخ لتحضير وجبات الغداء والعشاء، وأقوم بتزويد المحلات  بالمأكولات التي يتم طبخها من قبل مطبخنا، وفرت من خلاله فرص عمل لنساء أخريات، يعملن معي بنفس الورشة

مهن للرجال أصبحت للنساء...

دفعت الأوضاع الاقتصادية المتردية التي يعاني منها كثير من السوريين، بالمرأة السورية إلى دخول ميادين عمل جديدة لم يعتد المجتمع السوري عليها من قبل، وعلى رأسها العمل في المطاعم والمقاهي أو سائق باص أو سرفيس لنقل المواطنين حتى أن البعض أضطر للعمل في مهن قاسية لأنها تحتاج إلى جهد كبير كالبناء ونقل البلوك والأسمنت .

أم يوسف اضطرت للنزوح من حي برزة في دمشق إلى المزة لتبدأ رحلة البحث عن عمل لسد احتياجات عائلتها والحصول على قوتها وهو ما لم تعتده كونها لم تكن من النساء العاملات لاكتفاء عائلتها مادياً، لكنها بدأت العمل في أحد ورشات البناء في مجال تعبئة أكياس الرمل وصب البلوك، لكنها لم تصمد طويلاً بسبب الإجهاد الكبير والمردود الضئيل جداً، إذ كانت تتقاضى مبلغ عشرة آلاف ليرة لتتحول فيما بعد إلى العمل في مجال تصنيع الأجبان وبنفس المردود لكن بجهد بدني أقل.

أجور زهيدة ...

بعض الفتيات اضطررن للعمل على الرغم من تواجد رب الأسرة بغرض الحفاظ على مستوى معيشي معين، ومعظم هؤلاء كن من العاملات في سورية، وعملن للحفاظ على تعليم الأطفال وتأمين كافة الاحتياجات الأساسية بالنسبة لهن، بل إن منهن من تركت دراستها الجامعية لوقوع تلك المسؤولية على عاتقها لتتلقى أجراً زهيداً لا يزيد عن 30 ألف ليرة سورية

تقول لبنا ذو 24 عاماً  العمل ليس معيب أبداً المعيب أن نمد يدنا ونقف على أبواب المسؤولين كمتسولين لتأمين وظيفة توقيت في هذا الزمن، تكمل الفتاة الحاصلة على شهادة معهد تجاري ، حاولت كثيراً العمل في الدولة ولكن دون فائدة فما كان مني إلا أن اعمل على سيارة والدي المقعد لنقل البضائع للمحلات .

وفي سياق متصل تؤكد ريما وهي طالبة علم اجتماع سنة 3 أنها لم تستطيع الحصول على فرصة عمل ضمن اختصاصها رغم المحاولات العديدة مع المدارس فما كان منها إلا والعمل في تقديم القهوة والشاي في أحدى الشركات الخاصة .

أكثر المهن التي تمارس ...

وبحسب دراسة اقتصادية تحت عنوان واقع المرأة السورية اليوم،  فإن أكثر المهن التي تمارسها المرأة السورية اليوم، العمل في الأراضي الزراعية (أعمال زراعية) من قطف محاصيل (فريز- خيار-كوسا- فاصولياء- زيتون…)، وتوضيب المحصول في الصناديق الخشبية أو الكرتونية وتتقاضى المرأة أجراً يتراوح بين (450- 600) ليرة سورية لساعة العمل الواحدة، ومن الأعمال الزراعية التي تمارسها المرأة، الحصاد،"حصاد القمح- الشعير"، وتتقاضى أجراً قدره (500) ليرة سورية لساعة العمل الواحدة في بعض المناطق السورية، كما تعمل المرأة السورية في تنظيف الأراضي من الأعشاب والأحجار بأجر قدره (300) ليرة سورية لساعة العمل الواحدة ، البعض اضطررن للعمل في تنظيف المنازل، وتتقاضى الواحدة منهم أجراً يتراوح بين (1500- 3000) ليرة سورية ليوم العمل الواحد بحسب مساحة المنزل، كما أن الكثير من النساء اليوم تجوب الدوائر الحكومية في سوريا لتنظيف المكاتب للموظفين وتحصل على مبلغ (150) ليرة سورية من كل موظف يسمح لها بتنظيف وترتيب مكتبه، ويلاحظ مؤخراً عمل النساء السوريات كمستخدمات في الدوائر الحكومية براتب قدره (23) ألف ليرة سورية قابل للزيادة مع كل ترفيعة ومع القدم الوظيفي، أو كمستخدمة في مراكز الخدمات العامة والمستوصفات والعيادات والمشافي واللافت أيضاً اليوم أن البعض دخلن أعمالاً كانت حكراً على الرجال، كبيع القهوة “المرة” في ظاهرة نادرة في الشارع السوري، بـ (75) ليرة سورية سعر فنجان القهوة. وأيضاً تبيع المشروبات والمثلجات والتبغ في الطرقات.

فرصة العمل الأفضل والمفضلة التي تراها الفتاة السورية مناسبة ، ولكنها غير كفيلة لسد التكاليف والحاجات الملحة المتراكمة،هي العمل في محلات الألبسة والأحذية والإكسسوارات والحلويات، لكنها تتقاضى راتباً شهرياً يتراوح بين 25000- 50000)بحسب المنطقة التي تعمل بها الفتاة .

المجتمع هو المشكلة ...

تؤكد ميساء دهمان عضو غرفة الصناعة  أن المرأة السورية استطاعت في السنوات الأخيرة أن تحقق دورها ومكانتها في المجتمع العملي رغم معارضة الرجل لوجودها بجانبه، لكون الرجل أنانياً بطبعه ويسعى دائماً لمحاربة المرأة الناجحة، مضيفة إن مجتمعنا كسيدات يحتاج لمن يدعمه ويسانده ليتطور بشكل أفضل

وبحسب الدهمان، فأن المجتمع عارض عمل المرأة في البداية لكن مع مرور الوقت اعتاد عليها وشعر أن وجودها بجانب الرجل فيه فائدة للمجتمع، وتضيف في السنوات القادمة لن يبقى هناك ما يدعى سيدات أو رجال أعمال بل سيكون العمل عملاً والصناعة صناعة سواء كان ذلك رجلاً أو امرأة

تكمل الدهمان، اليوم دور المرأة أصبح واضحاً في كل مكان والقوانين والأنظمة لا تفرق بين الناس أو بين الرجل والمرأة،ولكن تعامل الأفراد هو المشكلة فهناك من يقول "خذوهم بالصوت" ويظنون أن المرأة لأنها امرأة، ستتراجع وتركن وتوافق على مطالبهم ، المرأة اليوم أصبحت واعية وتعرف ماذا تريد.

الخاص يفضل توظيف النساء ...

فرص كثيرة متاحة أمام النساء في ظل هجرة قسم كبير من الشباب وذهاب القسم الآخر إلى الخدمة الإلزامية، بحسب قول دكتورة  أمينة الحاج اختصاص علم اجتماع لـ " الأيام" قد تكون فرص العمل متاحة ولكن كلها محفوفة بالمخاطر والتنازلات التي أجبرت عليها النساء بسبب غياب المعيل وعدم القدرة على الخروج

وتكمل الحاج ، نجد أنّ بعض الشركات والمؤسسات يفضلن توظيف النساء على الرّجال فيلجأ صاحب العمل إلى توظيف شابات تفضيلاً منه للاستقرار , وفي ذات السياق نجد أنّ الشركات الخاصة تعمد إلى إعطاء راتب أقل للفتيات في بعض الأحيان، مستغلّة الحاجة التي تدفع المرأة للعمل، وقلّة الوعي بمستوى الرّاتب الشهري الّذي يمكنها الحصول عليه.

وأضافت الحاج، أن الظروف السيئة التي أفرزتها الحرب أرغمت بعض الأسر التي كانت مصنفة على أنها محافظة ومنغلقة، على أن تسمح لبناتها بالعمل، وهذا طبيعي عند النظر إلى الغلاء الذي يطبق فكيه على كل من يعيش داخل الأراضي السورية،  مما خلق عجز الكثير من الأسر على تأمين متطلباتها.

إشكاليات في هذه المرحلة ...

و رغم أن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل  كانت قد أصدرت، قرار متعلق بنظام تشغيل النساء، والمتضمن الظروف والشروط والأحوال التي يجري فيها تشغيل النساء، إضافةً إلى الحقوق المترتبة على صاحب العمل، إلا أنه لم يصدر أي إحصائية رسمية خلال الأزمة بخصوص نسبة عمالة المرأة في سوريا، إلا أن المؤشرات في الواقع تتحدث عن زيادة واضحة في عمالة المرأة نتيجة خروج نسبة ذكور كبيرة من سوق العمل فكل رجل مقابل سبع نساء، وفقاً للهيئة السورية لشؤون الأسرة ، حيث يشير الدكتور محمد عبود اختصاص اقتصاد في جامعة البعث   أن قوة العمل النسائية باتت تعادل أربعة أضعاف الرجال، إلا أن كل ليرة تنفق على مشروعات المرأة تعود على الدولة بأربع ليرات.

وأضاف العبود، إننا نعاني من اختلالات في سوق العمل من ناحية المتقدمين حيث يتركز أغلبهم على الإناث بنسبة كبيرة، ومحذراً من بروز إشكاليات في مرحلة الانتعاش الاقتصادي ومرحلة إعادة الإعمار في حال لم يتم تدريب المرأة.

وأكمل العبود، فرضت ظروف الوقت الراهن على النساء السوريات تجربة مختلف أنواع المهن، بما فيها البناء والكهرباء والتمديدات الصحية وجلي البلاط والعمل على الجرارات والسياقة، إلى جانب أعمال مارستها سابقاً كالخياطة والزراعة والتعليم وغيرها، فالكثير من النساء يبحثن عن أعمال لا تناسب مؤهلاتهن وهذا ما يشكل خطراً كبيراً على كرامة المرأة، وما يجعل منهن يقعن ضحية أصحاب النفوس الضعيفة الذين يستغلون حاجة المرأة للعمل باستغلالها جنسياً أو بأشياء أخرى".

أخيراً ...

وفي النهاية قصص رويت وأخرى لم تروى بعد، مشقات وصعوبات تواجهها المرأة لتحمي أولادها وتعوضهم عما فقدوه خلال الحرب، لكن بالرغم من كل ما تشكله الحرب من مأساة، إلا أنها كانت دافعاً كبيراً للنساء لاكتشاف إمكانياتهن، والدخول في عوالمِ لم يخضنها بكثرةٍ من قبل، لتحقق بعضهن استقلالاً مادياً وتمكيناً اقتصادياً وعلمياً لم يكن ضمن الخيارات المتاحة فيما سبق لشريحةٍ واسعة، فهل ستساهم هذه التغيرات في منح النساء فرصةً أوسع في تقرير المصير، ودخول مجالات صناعة القرار، وإعادة إعمار البلاد بعد انتهاء الحرب؟

سيريا ديلي نيوز- نور ملحم


التعليقات