د. كريم أبو حلاوة

يندرج هذا التقرير في عداد الدراسات والبحوث الوطنية التي تُعنى بظاهرة الهجرة الخارجية، لكنه يركز اهتمامه على أهم شرائحها وأكثرها ندرة ومدعاة للجدل والاهتمام، وهي النخب والكفاءات العلمية والمهنية التي يشار إليها بهجرة الأدمغة أو العقول "Brain Drain". ورغم أنَّ الظاهرة ليست جديدة، إلا أنها توسعت مع انفتاح الفضاء المعولم على حرية حركة السلع والبضائع والأموال والأخبار والصور، ولم يبقَ مقيداً إلا حركة العمالة والأشخاص. لكن النخب كانت مستثناة من هذا التقييد، إذ تستطيع العمالة الماهرة والخبيرة والعالية التأهيل الانتقال بسهولة ويسر بين البلدان والقارات.

يكتنفُ البحثَ في موضوعِ الكفاءاتِ السوريّةِ المهاجرة الكثيرُ من الغموض والتعقيد، بسبب ندرة المصادر الموثوقة رقميّاً وتحليليّاً، وهو ينطوي على مغامرة علميّة في مجال لم يلقَ الاهتمام الكافي، ولم يحظَ بدراسات تفصيليّة يمكن البناء عليها إلا بشكل محدود جداً، ذلك استناداً إلى أكبر عدد من البيانات والبحوث والتقارير الوطنية والدولية ذات الصلة، وإخضاعها لرؤية نقدية تهدف إلى توظيف الأرقام والمعطيات الكمية المتاحة في إطار رؤية تنموية تستخدم منهجية متعددة المستويات أتاحتها التغيرات التي تسم ثورة العلوم الإنسانية والاجتماعية العاصفة، جرّاء تعدد العوامل التي أنتجت الظاهرة وتداخل الاقتصاديّ مع الاجتماعيّ وتفاعلهما مع العامل السياسيّ الذي أصبح جوهريّاً أكثر مع الأزمة والحرب التي عاشتها سورية.

يهدف التقرير إلى فتح النقاش حول موضوع هجرة الكفاءات وانتقال النخب، والآثار العميقة المترتبة على وجودها واستمرارها على السياسات التنموية الوطنية، راهناً ومستقبلاً، لذلك يتوجّهُ إلى كافة المعنيين في دوائر صنع القرار والسياسات، وإلى المهتمين بقضايا الهجرة والباحثين عن كيفيات إدماجها في استراتيجيات وسياسات التنمية، وإعادة البناء التي تركز على الإنسان والمجتمع على أساس التفكير بالإعمار المادي والاقتصادي، فضلاً عن بناء المورد البشري الأكثر أهمية.

كشفت دراسة سورية صدرت مؤخراً عن خسائر الحرب والأزمة، أن هجرة الكوادر تعد الخسارة الأكبر، لأنها شكّلت نزفاً مركّباً للاقتصاد الوطنيّ يصعب تعويضه قريباً، إضافة إلى الوقت والمبالغ الهائلة التي نحتاج إليها لإعادة تأهيل كوادر جديدة. وتقدّر الدراسة تلك الخسائر بـ 40 مليار دولار، منها 8 مليارات دولار خسائر اقتصادية مباشرة، و7 مليارات دولار خسائر الدولة؛ بسبب نزف طاقاتها المهاجرة مع تكلفة تأهيلها، فضلاً عن 25 مليار دولار كلفة إعادة تأهيل مثل هذه الكوادر للإسهام في عملية إعادة الإعمار، الأمر الذي يرفع خسائر سورية جرّاء الهجرة الماهرة لمواردها البشرية إلى ما يفوق 40 مليار دولار[1]، وفي تقديرات أخرى جديدة تقارب 100 مليار دولار. هذا عدا عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن دمار البنى التحتية والمباني وخسائر القطاعات الاقتصادية المختلفة التي تقدّر بـ 400 مليار دولار.

فما الأسباب المؤدية إلى هجرة الكفاءات ونزيف الأدمغة؟ وما النتائج المترتبة على هذا النوع من الهجرة على مستوى الإنتاج والبحث العلميّ والتنمية البشريّة والتحويلات المالية للمهاجرين ونقل الخبرات العلمية، وانعكاس هذه الجوانب على البلد الأم من خلال توفير الظروف المناسبة لإعادة استقطاب الكفاءات عبر بناء استراتيجية وطنية متكاملة للتعامل مع هذه الثروة الوطنية وإدماجها في العملية التنموية؟

 

أولاً- أيُّ نزيفٍ تنمويٍّ؟؟

ليس من المبالغة القول: إنَّ هجرة الكفاءات والعقول تشكّل نزيفاً تنموياً يصعب تعويضه، فالدول التي تفقد أفضل نخبها، ومنها سورية، تعاني من خسارة مضاعفة، فهي من جهة تفقد رأس مالها البشري المتمثل في خبرات وكفاءات وطاقات ثروتها البشرية المتعلمة والمؤهلة، ومن جهة ثانية تفقد جزءاً كبيراً من رأسمالها المعرفيّ الذي يجدد الحياة ممثلاً في خسارة أفضل عقولها وأكثرها تنوراً وإبداعاً، هذا فضلاً عن خسارة طاقات ديمغرافية شابة تعرف بلدانُ الشمال المستقبِلة للهجرات قيمتها وأهميتها في تجديد فتوة مجتمعاتها التي دخلت مرحلة الشيخوخة السكانية، إذ يشكّل كبار السن القاعدة الأعرض من الهرم الديمغرافي.

 

هذا، وقبل ذلك تكون البلدان المصدّرة للكفاءات قد خسرت الأموال التي أنفقتها على تعليم الخرِّيجين في مرحلتي التعليم الجامعيّ وفوق الجامعي أي العالي، ومن المعروف أن أية كفاءة في أيّ مجال تكلف اليوم نحو المليون دولار وأكثر من عشرين سنة، وفوق ذلك يعود المردود الاقتصاديّ لمهاراتها وإبداعاتها إلى البلدان المستقبلة بصورة ربحٍ صافٍ تأخذه البلدان الجاذبة للعقول. الأمر الذي يزيد الفجوة الموجودة بيننا وبين البلدان المتقدمة، وهي فجوة واسعة أصلاً، بسبب النقل المباشر لأهم عناصر الإنتاج وهو العنصر البشريّ. فإذا كان الحجمُ الأكبر من النمو في الاقتصاديات المتقدمة، وهو الذي يفوق 70%، ناجماً عن الاستثمار في المعرفة وبناء العقول، فإن ذلك يعود إلى القيمة المضافة العالية التي يولّدها الاستثمار في الذكاء الإنساني، وهو الذي مثّل ركيزة الانطلاق في بناء اقتصاديات المعرفة[2].

وهنا، تماماً، تكمن العلاقة الجوهرية بين الأدمغة والكفاءات، وبين الإنتاجية النوعية لمجمل عوامل الإنتاج التي أصبح الإنسان أو الاستثمار في طاقاته وقدراته أهم محفز للإنتاجية، كماً ونوعاً، على ما تبين قصص النجاح الموجودة بكثرة في تجارب بلدان عديدة، مثل: كوريا وسنغافورة وماليزيا، وبدرجة أقل في تجارب الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا.

كما أنّه ومع تداخل الزمن المحليّ بالزمن الكونيّ في عصر العولمة، يتعاظم الطلب العالمي على قوة العمل الماهرة والمتخصّصة، وهي كالأموال والأسواق والأفكار تعولمت منذ زمن بعيد، وكل الشركات والدول تفتح لها الأبواب وتقدم لها التسهيلات والامتيازات والأجور المجزية، كما توفر لها بيئة مناسبة للإبداع متمثلة في سقف الحريات المرتفع، ونمط من الرفاه المادي، إلى جانب المختبرات ومراكز البحث والتطوير غير المتوافرة في بلدانها، ما يجعل صعوبة مقاومة هذه الإغراءات أكبر فأكبر، فعوامل الجذب التي تمتلكها البلدان المتقدمة واسعة ومتنوعة، وهي تتنافس في ما بينها لاستقطاب خيرة أبناء البلدان النامية، كما فعلت الولايات المتحدة وكندا، وتحاول ألمانيا أن تحذو حذوهما، بعد أن تبين أن التأثير المباشر لوجود هؤلاء في الاقتصاد والبحث العلمي والتطبيقي قد أسهم في امتلاك البلدان الجاذبة للنخب مزايا تنافسية إضافية.

صحيح أن هذه النخب متطلبة وسقف توقعاتها مرتفع، سواء تجاه نفسها أو تجاه مكانتها الاجتماعية وما تعدّه شروطاً مساعدة على الإبداع والابتكار والتميز، إضافة إلى احتياجها الواضح لمستوى أعلى من الرفاهية، ومدى أوسع من الحريات، وإشباع أعلى "لنرجسيتها"، وهو ما يعدّه بعضٌ جزءاً من متاعبها وخصوصية تفضيلاتها وأمزجتها. لكن من الصحيح أيضاً أن هذا الواقع يستدعي التفكير في توفير ظروف وبيئة مناسبة لعمل هؤلاء، وجذبهم للعودة، أو إقامة علاقات وطيدة مع الوطن الأم، سواء أكان ذلك بصفة فردية، أم بصيغ التعاون العلميّ والاستثماري في زمن عولمة الاتصالات والمعلومات. وهنا يمكن الاستفادة من خبرات وتجارب بلدان لديها طاقة اغترابية كبيرة مثل لبنان الذي خصص العديد من البرامج والمؤتمرات، وقدم تسهيلات مصرفية ومالية للمغتربين، لإدارة تواصلهم مع مجتمعهم. فهم ليسوا ثروة علمية وقدرات ابتكارية فحسب، بل يشكّلون مصدراً لعوائد مادية يمكن الاستفادة منها كاستثمارات أو كتحويلات لأهلهم وذويهم.

ثانياً- تقديرات حجم هجرة الأدمغة السورية

عرفت سورية العديد من موجات الهجرة. لم تكن كلها بطبيعة الحال نخبوية أو خبيرة. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر، بدأت هجرات واسعة إلى كندا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية. وفي أوائل الستينيات من القرن العشرين، شهدت سورية موجات هجرة محدودة لأصحاب الرساميل، ولبعض الأفراد المؤهلين، إلى دول الجوار وأوروبا والأمريكيتين، وبعد منتصف السبعينيات، اتسع نطاق الهجرة إلى دول الخليج لفئات متوسطة التأهيل، وإلى أوروبا وأمريكا لفئات عالية التأهيل من أطباء ومهندسين ومتخصصين علميين من كافة الاختصاصات. لكن هذه الهجرات لم يجرِ رصدها وتتبعها، إذ لا تتوافر بيانات رسمية عن حجم هذه الهجرات، وأماكن وجود السوريين حول العالم ومستويات تأهيلهم، رغم بعض المحاولات الجزئية التي قامت بها وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، ووزارة المغتربين التي حاولت التواصل مع المغتربين السوريين، وأقامت مؤتمرين لهذا الغرض خرجا ببيانات سياسية والتزامات بتسهيل زيارة المغتربين لوطنهم، فضلاً عن تسهيلات أخرى مرتبطة بالجندية وغيرها[3]. لكن هذه الجهود لم تسفر عن توفير إحصائيات وأرقام توضح حجم الاغتراب السوري وتوزعه. وبقي الأمر يخضع لبيانات وتقارير وتقديرات متفرقة: وطنية، وإقليمية، ودولية.

تشير الأرقامُ التي قدمتها دراسة لخبراء الهجرة والتنمية في الأمم المتحدة إلى أن نسبة المهاجرين السوريين ممن هم في المستوى التعليميّ الثالث (الجامعي وما فوق) إلى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD في العام 2000 تشكّل 35.1% من إجمالي عدد المهاجرين السوريين ذلك العام، والذين يمثلون 0.9% أي أقل من 1% من مجمل المهاجرين الأجانب في بلدان منظمة التعاون، والذين يشكلون نسبة 11.8%، لكن نسبة 3.7% من هؤلاء المهاجرين توازي أقرانهم في سورية، وهم بذلك يقتربون من نسبة مهاجري المستوى التعليمي الثالث من أقرانهم في مصر والمقدر بـ 3.6%، في حين بلغت نسبة من يحملون الشهادة الثانوية وما فوق بـ 31.2% من إجمالي عدد المهاجرين، ما يعني أن مستوى الاتجاه العام لهجرة الكفاءات، ومن هم في طورها، وفق مؤشر مستوى التعليم، تشكل أكثر من ثلاثة أخماس المهاجرين السوريين إلى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية[4].

قدّرت دراسة للبنك الدولي أن عدد المهاجرين السوريين الذين تلقوا تعليماً ثلاثياً، أي تلقوا كل مراحل تعليمهم في سورية، يمثلون 5.2% سنوياً من إجمالي عدد المهاجرين السوريين حتى عام 2005، وهو المقدّر وفق الدراسة بـ 480.708 مهاجراً. وأن نسبة الأطباء السوريين الذين تلقوا تعليمهم في سورية، وهاجروا إلى خارج دول منظمة التعاون والتنمية، أي إلى دول مجلس التعاون الخليجي بشكل خاص[5]. ما يعني أن نسبة الأطباء المكونين في النظام التعليمي السوري الذين يهاجرون من سورية هي أضعاف النسبة المحددة في التقرير المتوسطي للهجرة؛ إذ تبين مصادر الجمعية الطبية العربية الأمريكية أن عدد الأطباء السوريين في الولايات المتحدة يفوق 6000 طبيبٍ من أصل 15.000 طبيب عربي، بينما يقدر عدد الأطباء السوريين المقيمين في ألمانيا بـ 18000 طبيب من أصل الجالية السورية المقدر بـ 59 ألفاً حتى العام 2008[6].

ورغم صعوبة الحصول على أرقام وبيانات موثوقة بعد بدء الأزمة والحرب على سورية، إلا أن المعلومات المتوافرة لدى وزارة التعليم العالي تشير إلى أن نسبة المعتبرين بحكم المستقيلين والمفصولين من الخدمة من أعضاء الهيئة التدريسية لا يتجاوز 16.3%، مع ملاحظة اختلاف هذه النسبة من جامعة إلى أخرى، وحتى من كلية إلى أخرى في الجامعة نفسها، مع الإشارة إلى أن الأنظمة النافذة تسمح بغياب 20% من أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات.

لكن المؤكد أن النزيف في فئتي الأطباء والمهندسين كان الأعلى، إذ كشف مصدر في نقابة أطباء ريف دمشق عن مغادرة 800 طبيب من أصل 2000 بسبب الأزمة والحرب. وكان نقيب أطباء سورية قد كشف في وقت سابق أن الأطباء المغادرين طيلة مدّة الأزمة قد تجاوز 7 آلاف طبيب، منهم 382 من دمشق وحدها[7].

هذا، إضافة إلى أعداد غير معروفة من أصحاب الكفاءات والمواهب من مختلف التخصصات العلمية والفنية والمهنية والفكرية والمالية التي نفتقد معرفة توزعهم الجغرافي، رغم معرفة أن تركزهم الأعلى كان في ألمانيا التي لا تخفي حاجتها إلى عقول هؤلاء وفتوتهم وأثرهم الديمغرافي في المجتمع الألمانيّ.

استطلعت دراسة لمعهد بحوث العمالة (IAB)، والمكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين (BAMF)، والمعهد الألماني للبحوث الاقتصادية (DIW  برلين) الكفاية العلمية للاجئين السوريين الذين تقدموا بطلبات للحصول على اللجوء في ألمانيا ما بين 2013-2016، وخلصت إلى النتائج الآتية:

  1. 40% حاصلون على الشهادة الثانوية فما فوق.
  2. 22% حاصلون على الشهادة المتوسطة.
  3. 21% حاصلون على التعليم الأساسي من دون شهادة.
  4. 5% ليس لديهم أي تحصيل علمي.

والنتيجة نفسها تقريباً نجدها في الشكل التوضيحي الآتي:

 

شكل رقم (1)

مستويات التأهيل العلمي للبالغين من طالبي/طالبات اللجوء السوريين عام 2015[8]

 

وقد استطاع موقع "داد" للتبادل الطلابيّ، أن يستقطب أكثر من مليون ونصف المليون من العلماء والباحثين من معظم دول العالم إلى ألمانيا، وأن يوفر لهم فرص التعليم والعمل، بوصفهم العناصر الأنشط والأكثر تأهيلاً، بل الأكثر رغبة في الهجرة[9].

 

 

ثالثاً- نحو استراتيجية وطنية للتعامل مع النخب والكفاءات

يقتضي التفكير باستراتيجية وطنية للتعامل مع النخب وجذب الكفاءات الإقرار بأهمية أصحاب هذه القدرات، وتجاوز النظرة الضيقة التي ترى في النخب فئة متعالية ومتطلبة، بل و"نقاقة". وهذه النظرة صحيحة جزئياً، فـ للنخب مطالبها ورؤيتها الخاصة، ولها –بخلاف بقية الشرائح الاجتماعية– تطلعات يصعب الوفاء بها دائماً، لكنها، وبسبب خصوصية أوضاعها ونوعية معارفها وشعورها بالتميز والاختلاف، تشعر بصعوبات في التكيف والتأقلم مع بيئات عمل تقليدية تحكمها قواعد العمل البيروقراطي، بينما هي بحاجة متنامية إلى التقدير والاعتراف بأهمية جهدها وضرورة تقديره مادياً واجتماعياً، مع توفير الحريات الأكاديمية اللازمة لإبداعها، وبما يضمن تواصلها وتفاعلها مع البيئة العلمية الدولية، لتتمكن من مواكبة المستجدات المتسارعة في حقول المعرفة المختلفة. نعم للنخب مشاكلها وأمراضها ونرجسيتها، وهي لا تخفي حاجتها للتميز، لكن هذه الخصائص جزء من منظومة عملها ذي الطابع الابتكاري القادر على توليد قيم مضافة مستمرة. فتطوير رأس المال البشري وتحويله إلى رأسمال معرفي منتج مدى الحياة، يتطلب إيجاد منظومة حديثة للتعليم والبحث والإبداع. وبالمثل فإن بناء اقتصاد وطني يمتلك مزايا تنافسية يستثمر في القدرات البشرية ولا يكون النمو الاقتصادي الكمّي، على أهميته، غايته وهدفه الوحيد، يتطلب حسن الاستفادة من المؤهلات والكفاءات والنخب. فالعقول مثل القلوب تذهب حيث تلقى الاهتمام والتقدير، وحيث تنمو وتزدهر وتحقق ذاتها بالعطاء[10].

هذا، وعلى الصعيد العمليّ، تضمّن البحث المعنون بانعكاسات الهجرة ونزوح الكوادر الوطنية على أداء قطاعات الصحة والتربية والتعليم العالي، ولأول مرة مقترحات خاصة بالحدّ من هجرة الكوادر السورية، وتحديد للعوامل الطاردة للكفاءات العلمية، وهي:

  • انعدام الاستقرار الأمني (فجوة الأمان).
  • انخفاض مستوى دخل الفرد.
  • ضعف البحث العلمي ومؤسساته.
  • فقدان آفاق الإبداع والتطوير، بما في ذلك البحث عن عمل لائق يحقق الأجر العادل والديمومة والحماية من الاستغلال[11].

كما دعا التقرير إلى بناء استراتيجية تهدف إلى تعزيز قدرات الكوادر الوطنية في قطاع التعليم العالي؛ ذلك بغرض دعم العقول العلمية وتصليب صمودها وتثبيتها في الساحة الأكاديمية السورية، مع أخذ الفجوة العلمية والزمنية التي تفصلها عن أقرانها في الخارج، وتوفير كافة الإمكانيات لتقليص تلك الفجوة؛ ذلك بوساطة:

  • إجراء مسوحات القُوى العاملة لإحصاء كافة أصحاب الكفاءات العلمية في الداخل، ومعرفة أعدادهم، وتقدير احتياجاتهم، وتوفير الإمكانيات اللازمة لذلك. فضلاً عن حصر أعداد الكوادر الوطنية المهاجرة، وتخصيص بنك معلومات لهذه المهمة بالتعاون مع إدارة الهجرة والجوازات ووزارة الخارجية والمغتربين.
  • توفير الدعم الحكومي الكامل في إجراءات حماية الكوادر الوطنية والحفاظ على حياتها وأمنها ومؤسساتها.
  • إعادة النظر في سلم الرواتب والأجور التي تُمنح للكوادر الوطنية ومحاولة تقاربها مع الجامعات الخاصة والدول المجاورة، عبر تقديم الحوافز التشجيعية والمادية، خصوصاً بما يرتبط بالبحث العلمي والإنتاج، مع تحسين الأوضاع المادية لأصحاب الكفاءات بما يتلاءم مع الجهد المبذول[12].

 

  1. الرأسمال الفكري والرأسمال البشري في سورية

لم يعد مفهوم الثروة مقتصراً على الثروة المالية والقدرات المادية، فمنذ التحول إلى الرأسمالية الصناعية، تكوّن تحالف جديد يجمع بين رأس المال والعلم، وبين أصحاب المعارف والمفكرين ومنتجي المعرفة، وأصحاب رؤوس الأموال وأصحاب الأعمال. واكتشف كل طرف أن مصلحته تكمن في الجمع بين القوة الاقتصادية وقوة المعرفة. وكان من أبرز نتائج ثورة العلم والتقنية وتطبيقاتها، إلى جانب المتغيرات العولمية وظهور الاقتصادات المبنية على المعرفة، ارتفاع الأهمية النسبية للأصول غير المادية/المعنوية، إذ يبين التحليل أن تلك الأصول غير الملموسة هي المعرفة المتراكمة في عقول الموارد البشرية، والناتجة عن الممارسة الفعلية للعمل وتبادل الأفكار والخبرات مع الزملاء، ومتابعة المنافسين، فضلاً عن جهود التدريب والتنمية والتطوير التي تستثمر فيها مبالغ طائلة، لأنها هي الثروة الحقيقة للدول والشركات، وهي ما نطلق عليه رأس المال الفكري الذي أصبح اليوم ميداناً للمنافسة الحقيقية بين الدول والشركات، في محاولتها بناء وتنمية رأسمالها الفكري بكل الوسائل الممكنة.

يُعرّف الرأسمال الفكري على أنه "مجموعة الأفكار والمعارف الإبداعية التي يمتلكها الأفراد، وتنطلق من فلسفة المجتمع، وتنسجم مع أهداف المؤسسة، ولا تتوافر لنظرائهم في المؤسسات المماثلة الأخرى، ومن ثم تسهم في تطوير أداء المؤسسة، وتحقق لها عوائد مالية ومعنوية تميزها عن غيرها"[13]. وبحسب هذا التعريف يتكون رأس المال الفكريّ من رأس المال البشريّ، إضافة للرأسمال الهيكلي الذي يتضمن المعارف التي تبقى في المؤسسة وتشمل القدرات التنظيمية وقواعد ونظم المعلومات والإنفاق على البحث والتطوير والعلامات التجارية. لهذا تُجمع غالبية الدراسات على أن رأس المال الفكري يتعامل مع الإدارة العليا والاستراتيجية، ويركز على خلق القيمة، ويهدف إلى زيادة الأصول والموارد الفكريّة، بهدف زيادة القدرات وتمكين إدارة المعرفة، وعبر وسائلها التشغيلية، من خلق وحيازة وتحويل واستخدام المعرفة[14]. ما يعني أننا أمام إدراك متزايد لأهمية دور المعرفة وقوة المعرفة كأحد أهم عوامل القوة في عالم اليوم، وفي المستقبل أيضاً.

  1. الرأسمال البشري

شكّلت اقتصاديات المعرفة والمجتمع القائم على المعرفة مرحلة جديدة في تطور منظومة علاقات القوة، من العسكرية إلى الاقتصادية إلى قوة المعرفة ومجتمع المعرفة بحسبانه المرحلة العليا في تطور المجتمعات، وهو ذلك المجتمع الذي يعتمد في نمط وجوده وسيطرته على إنتاج ونشر واستثمار المعرفة بكفاءة في جميع مناحي الحياة. الأمر الذي دفع البلدان والمجتمعات إلى التسابق في حيازة المعرفة وتوظيفها، سعياً وراء القيمة المضافة العالية الناتجة عن الاستثمار في الذكاء الإنساني ومناجم العقول، بوصفهما ثروة لا تنضب، فأصبح الإنسان وسيلة للتنمية وغاية لها في آنٍ معاً[15].

وفقاً لهذه الرؤية، يشير مفهوم الرأسمال البشري إلى التوليفة التي تجمع المعرفة والتعليم والجدارة والكفاءات الجوهرية للأفراد في ميدان العمل والإنتاج. إذ يعرّف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي رأس المال البشري بأنه "كل ما يزيد من إنتاجية القوى العاملة من خلال القدرات والمهارات المعرفية والتقنية التي يكتسبونها، أي من خلال العلم والخبرة"[16]. فما حالة ومؤشرات رأس المال البشري في سورية؟ وإلى أي حدّ يمكن التعويل عليه كأحد المداخل المحتملة لبناء مستقبل سورية؟؟

إنَّ نظام التعليم، بمراحله المختلفة، إلى جانب أنشطة البحث والتطوير والتدريب، يشكل أهم مرتكزات بناء رأس المال البشري، فقد راكمت سورية طيلة بضعة عقود جملة من النجاحات في توسيع التعليم ومده ليشمل غالبية المناطق في المدن والأرياف، وليكون إلزامياً ومجانياً ومتاحاً للجنسين دون تمييز. إلا أن نقاط القوة في هذا النظام التعليمي بدأت تتراجع وتفقد تدريجياً الزخم الذي أحدثته في المجتمع والاقتصاد، وخصوصاً بعد الأزمة، إذ يخلو التصنيف الجديد لجودة التعليم الذي أصدره المنتدى الاقتصادي العالمي عام 2017، والذي شمل 137 دولة، من ذكر دولتي سورية والعراق اللتين غابتا عن التصنيف الذي يرتب دول العالم على أساس اهتمام الدول بكل عناصر العملية التعليمية من معلمين ومدارس وطلاب، إضافة إلى حجم الإنفاق على التعليم بالنسبة للناتج القومي، أي إن الوصول إلى قدرات بشرية منافسة يستند بصورة أساسية إلى جودة التعليم، وهو أمر لا يتحقق إلا بتوفير تعليم ذي مخرجات نوعية لمتلقيه، بل إن المسألة تتجاوز ذلك للوصول إلى امتلاك استراتيجيات لتطوير الرأسمال البشري الذي يعتمد على هيكل الدولة الديمغرافي، فكل دولة قد تقع في خطر تأسيس "أجيال مفقودة" إذا فشلت في اعتماد نهج أكثر شمولية، يراعي المواهب ويأخذ بالحسبان نهجاً استباقياً لإدارة وتسهيل الانتقال من التعليم إلى ميدان العمل، وإلى التعلم المستمر واكتساب المهارات والخبرات.

هذا، ومن منظور استشرافي، لا بد من وضع الاستثمار في التعليم على سلّم الأولويات الوطنية؛ ذلك لأنَّ الإنفاق على التعليم الأساسي والثانوي والعالي ادّخارٌ في المستقبل يفوق بأهميته ونتائجه الادّخار المباشر.

فبمقدار ما تخصص موارد مالية وفنية للتدريب والتأهيل ولتعليم الموارد البشرية، ونستثمر في تنمية الرأسمال البشري وتجويد نوعيته، بمقدار ما نملك رؤية تنموية تبحث عن الجدوى الاقتصادية والاجتماعية التي تتمثل في تعظيم طاقات البشر وحسن الاستفادة من إمكانياتهم راهناً ومستقبلاً[17].

احتلت سورية مراتب متفاوتة في مؤشرات جودة التعليم، إذ يتقدم مؤشر جودة النظام التعليميّ 13 مرتبة ليحتل 96/142 (2011-2012)[18]، إلى أن أعلن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس خروج سورية من مؤشر جودة التعليم عام 2016، لعدم التزامها بمعايير الجودة في التعليم[19].

كما احتلت سورية مراتب متأخرة في مؤشرات التدريب، إذ احتلت المركز 110/142 في مؤشر توافر الخدمات التدريبية المخصصة ذات الجودة العالية، كما احتلت المركز 140/142 في مؤشر مدى تدريب الموظفين نظراً لضعف الاستثمار في تدريب الموظفين وتنمية مهاراتهم والمحافظة عليهم. في حين تبوأت سويسرا المركز الأول في هذا المؤشر، واحتلت الدول الاسكندنافية مراتب متقدمة فيه. وبالمقابل احتلت الدول العربية مراتب متفاوتة، إذ حصلت السعودية على المركز 28/142، ولبنان 98/142، وتركيا 96/142، والأردن 103/142. ويبين الشكل رقم (2) عدداً من مؤشرات التعليم والتدريب لسورية بالمقارنة مع عدد من الدول العربية عام 2012[20].

 

 

الشكل رقم (2)

عدد من مؤشرات التعليم والتدريب لسورية بالمقارنة مع عدد من الدول العربية عام 2012

 

تشير الأرقام في الشكل إلى الترتيب بين 142 دولة.

المصدر: التقرير الوطني لتنافسية الاقتصاد السوري

 

وبالمحصلة، لم يتمكن النظام التعليميُّ في سورية، رغم نجاحاته النسبية في خفض نسب الأمية ونشر التعليم وتوفيره لقطاعات واسعة من السوريين في المدن والأرياف، من التحول إلى محفز للنمو الاقتصادي، وإلى محرك أساس لدفع الإنتاجية وزيادة الدخل القومي، أي إن مردوديته الاقتصادية بقيت ضعيفة، ولم تنعكس بصورة فعالة على مستوى معيشة خرّيجيه الذين أُجبروا على البحث عن فرص وأعمال إضافية لرفع دخلهم، الأمر الذي أثر، وبشكل سلبي وعميق، في العملية التعليمية ونوعية مخرجاتها، بل امتد ذلك الأثر إلى تدني مكانة العلم والمعرفة اجتماعياً، أي إن العائد من التعليم قد تراجع مادياً واجتماعياً، فأخذت النخب المتعلمة تشعر بالهامشية والاغتراب، وتغير نظرتها إلى نفسها وأدوارها بالتوازي مع تغير نظرة المجتمع لها.

 

الشكل رقم (3)

 

      يوضح الشكل السابق أنَّ المستوى التعليميّ لقوة العمل السوريّة وبنسبة أكثر من 50% ما زال في مستوى الثانوية وما دون، الأمر الذي يدلل على انخفاض الطلب في سوق العمل على الشرائح الأكثر تعليماً، أي معاهد متوسطة وجامعية وفوق جامعية.

هذا، ولأن العمليّة التعليميّة منظومة، فإنَّ النجاح في إحدى حلقاتها لا يوصل إلى قطف الثمار وحده، إذ لا تنفصل قضايا تمويل التعليم وتشجيع البحث العلميّ على البحث المستمر عن تجويد مستواه وعائديته، فالتعليم الذي لا يرتبط بسوق العمل سرعان ما يصطدم بمشكلة البطالة، وينتج فجوة بين مخرجاته وحاجات السوق المرنة والمتغيرة، وبانخفاض العائد الاقتصادي ومن ثم الاجتماعي وحتى العائد الشخصي من التعليم، تظهر توجهات وخيارات بديلة عند الشباب. وهي ليست أفضل بالضرورة؛ لأنها غالباً ما تنشأ تحت ضغوط الحاجات والميل الاستهلاكي الطاغي، فتستسهل غالبية هؤلاء المهن والأعمال ذات الدخل الأعلى، بصرف النظر عن استدامتها ومشروعيتها ومدى ملاءمتها لقدراتهم وميولهم. وهكذا يفقد التعليم قدرته على أن يكون رافعة لصعود الهرم الاجتماعي واكتساب مزايا أو مكانة أعلى، وبذلك تخسر الطبقة الوسطى فاعلية التعليم والمعرفة، وهي أهم عناصر قوتها.

يشكو رأس المال البشريّ في سورية[21] من مشكلة أخرى لا تقل تأثيراً عن تلك المتصلة بالتعليم والتدريب والبحث العلمي والعائد من التعليم، فضلاً عن بيئة العمل التي تحتضن الموارد البشرية، وهي مشكلة هجرة النخب والكفاءات والعقول التي تسبب نزيفاً تنموياً وبشرياً حاداً للرأسمال البشري في سورية، كمحصلة لتفاعل العوامل السابقة من طرف، وكواحدة من نتائج انتقال النخب والكفاءات في سوق العمل الدولية والإقليمية من طرف آخر. إذ تخسر البلدان المصدرة للأدمغة بعضاً من أفضل مواهب وقدرات ومهارات أبنائها، إلى جانب خسارتها للموارد المالية والوقت اللازمين لتأهيل وتعليم هؤلاء، فضلاً عن فقدانها للأثر التراكمي لوجود هؤلاء المبدعين في مجتمعها واقتصادها وإداراتها. ورغم الأثر الإيجابي الذي تتركه تحويلات هؤلاء المغتربين المالية، فإن الكسب الحقيقي يحصل للبلدان الجاذبة للكفاءات، بسبب المزايا التي تمتلكها والتسهيلات والإغراءات التي تقدمها للنخب، سواء أكانت مالية أم بحثية أم حضارية، وهذا تجسيد للقول المشهور: "إن العقول مثل القلوب تذهب حيث تلقى الاهتمام والتقدير".

لم تستثمر سورية في مغتربيها ولم تتمكن من بناء صلات وروابط دائمة معهم، إذ اقتصر الاهتمام بهم على قيام وزارة المغتربين على التواصل معهم وإقامة مؤتمرين لهم أسفرا عن تسهيل زيارة المغتربين لوطنهم وحل بعض مشكلاتهم، لكن هذه الجهود لم تصل إلى بناء قاعدة بيانات عنهم، ولا عن تصور أو خطة للاستفادة من إمكانياتهم، رغم وجود منظمة "نوستيا" التي أقامها العلماء والفنيون السوريون للاهتمام بشؤونهم في بلدان الاغتراب.

 

رابعاً- التجربة الهندية في التعامل مع هجرة الكفاءات والأدمغة

بعد أن أصبحت ظاهرة انتقال العمالة الخبيرة والماهرة جزءاً من ملامح الاقتصاد العالمي الجديد، تنامى الاهتمام بها، سواء من طرف الدول الجاذبة للهجرة أو من طرف الدول المصدرة لها. مع ملاحظة الأثر الكبير الذي تتركه ثورة العلم وتكنولوجيا الاتصال على مفهوم العمل في الزمن الما بعد حداثي، إذ أصبح المكان ليس عنصراً أساساً في العمل الفكريّ والذهنيّ، الأمر الذي نلاحظه عند إجراء مسح لأصول وجنسيات العاملين في الشركات الكبرى. فشركة مايكروسوفت مثلاً، الأشهر في عالم البرمجيات، تضم بين خبرائها ومهندسيها وفنّييها ما يربو على 70% ممن هم من أصول غير أمريكية، أي كندية، ومكسيكية، وبرازيلية، وجنوب أفريقية، وهندية، وصينية، وتركية، وعربية، وماليزية، إضافة إلى الجنسيات الأوروبية. وبطبيعة الحال، فإن هؤلاء ينتشرون على امتداد جغرافيا العالم، رغم تبعيتهم المباشرة لإدارة الشركة التي تمتلك العديد من الفروع والمكاتب حول العالم أيضاً.

ثمّة العديد من التجارب التي تقدم نماذج نجاح في التعامل مع هجرة الأدمغة والكفاءات، مثل التجارب الإنكليزية في خمسينيات القرن العشرين، والتجارب الهندية وأوروبا الشرقية سابقاً، وجنوب أفريقيا والبرازيل والمكسيك ومصر وإيران وتركيا وسورية ودول المغرب العربي. إلا أن التجربة الهندية هي الأكثر فرادة، سواء لجهة الحجم الكبير للعمالة الهنديّة المهاجرة حول العالم، والتي تربو على 25 مليوناً حسب التقديرات الرسمية، وهي على الأرجح أكثر من ذلك حسب تقديرات أخرى، أو لجهة تخصيص سياسات وتوجهات تثبتها الحكومة الهندية للتعامل مع هؤلاء، بوصفهم شريان الاقتصاد الهندي، ورافعة تنموية فعالة.

يمثّل الهنود العاملون في الخارج، أو ما يعرف (NRI) بالهنود غير المقيمين، ثروة وظاهرة ذات أهمية خاصة للهند. الأمر الذي دفع الحكومة إلى تخصيص وزارة شؤون الهجرة عام 2004، بهدف التواصل بين الهنود المهاجرين ووطنهم، ومن أجل ذلك تمّ تقديم عدة تسهيلات وحوافز، هدفت إلى تشجيعهم على الاستثمار في الهند، وخصوصاً في مجال البنية الأساسية الصناعية، كي يتمكنوا من الإسهام في مستقبل الهند، ولا يشعروا بأنهم غرباء عن وطنهم.

ينتشر الهنود المهاجرون في عديد من دول العالم، إلا أن العدد الأكبر منهم يتركز في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والمملكة المتحدة ودول الخليج والكاريبي وماليزيا. وبدءاً من ستينيات القرن العشرين، تغيرت نوعية المهاجرين الهنود، فأصبحوا ممن تلقّوا تعليماً عالياً وذوي مستوى مهارات مرتفع. فالأطباء الهنود، تمثيلاً لا حصراً، ينتشرون بأعداد كبيرة في المملكة المتحدة، كما أن أعداداً أكبر منهم توجّهت إلى الولايات المتحدة.  وكان هؤلاء ممن تلقوا تعليماً راقياً ومهارات كبيرة، إذ يعيش اليوم ما يقارب 3 ملايين من أصل هندي في أمريكا، ويتفوق معدل التعليم بينهم على المعدل الأمريكي العام[22].

واشتملت موجات الهجرة التي شهدها النصف الثاني من القرن العشرين على أعداد متزايدة من المهندسين والعلماء والأطباء الذين كانوا يبحثون عن مستقبل اقتصادي/مادي أفضل. وفي السنوات الأخيرة أصبح الهنود من مصممي ومطوري البرامج الحاسوبية، وجزءاً من اقتصاد المعرفة في العالم، وتم توظيف أعداد كبيرة منهم في شركات وادي السيليكون الغربي الأمريكي، إضافة إلى مهاجرين برعوا في قطاع الأعمال والتجارة والخدمات السياحية وصناعة الماس، فضلاً عن نحو 1.5 مليون هندي في كندا، إلى جانب العمالة غير الماهرة التي توجهت إلى دول الخليج العربيّ[23].

كان من مهام وزارة الهجرة الهندية توقيع مذكرات تفاهم مع دول غرب آسيا، من أجل حماية حقوق العمال الهنود في تلك الدول. وفي العام 2006، قررت الحكومة الهندية تشغيل شعبة السياسات الخارجية في وزارة شؤون المغتربين؛ ذلك لتسهيل وتعزيز حركة الهجرة من الهند إلى أسواق العمل الخارجية. كما جرى تشكيل هيئة حكومية مستقلة، من أجل معالجة كافة القضايا المرتبطة بهجرة العمالة الهندية، وتشمل صياغة سياسات تضمن إدارة فعّالة للهجرة، وصياغة برنامج لتحقيق رخاء المهاجرين. كما تتعاطف الدولة مع الجهود المبذولة من قبل المهاجرين في الخارج للارتباط بالوطن الأم. هذا إلى جانب العديد من المؤتمرات، بدءاً بالعام 2003 لمناقشة القضايا التي تهم الجالية الهندية، والقضايا التي تتعلق بتنمية وتطوير الهند ودور المهاجرين في البرامج والاستثمارات التي أسهم المهاجرون في نقلها إلى الهند[24].

هذا، وبحسب وزير شؤون الهجرة الهندي، فإن تحويلات الهنود المقيمين في الخارج بلغت عام 2008 (43.5) بليون دولار، ووفقاً لتقرير البنك الدولي، تتصدر الهند دول العالم في حجم تحويلات المغتربين، وتأتي الصين في المرتبة الثانية بحجم تحويلات مقداره 25.7 بليون دولار، تليها المكسيك بـ 25 بليون دولار، ثم الفلبين 17 بليون دولار، وفرنسا بـ 12.5 بليون دولار[25].

 

 

 

الشكل رقم (4)

مقارنة بين نمو الاقتصاد الهندي والصيني

 

 

إضافة إلى وجود هجرة عكسية في الهند يعود بسببها الهنود للبحث عن فرص عمل في الهند التي تُعَدُّ واحدة من أسرع اقتصاديات العالم نمواً إلى جانب الصين[26].

وبالنتيجة، نجحت التجربة الهندية بمعنيين: الأول، إعداد وتأهيل عدد كبير من الخبراء والعلماء والتقنيين الهنود للعمل في السوق الدولية وبالمواصفات المطلوبة، وهؤلاء شكلوا بتحويلاتهم المادية مصدر دعم كبير للخزينة الهندية ولعائلاتهم من جهة، والثاني، أن المعاهد والجامعات ومراكز الأبحاث الهندية تمتلك قدرات كبيرة تمكنها من تعويض الفاقد الاغترابي وتزويد الاقتصاد الهندي بالفاقد العالي الناجم عن هجرة الكفاءات. أي أن التجربة الهندية حولت المشكلة إلى حل عندما استفادت من تمويلات مغتربيها المادية، وعندما استقطبت بوساطتهم كماً كبيراً من الاستثمارات والمشاريع الجديدة، كما أنها تمكنت بسببٍ من نظامها التعليمي الفعال الكفء من تعويض فاقد النخب والكفاءات، الأمر الذي لم يترك آثاره السلبية على نشاطها الاقتصادي. لكننا في سورية لم ننجح في هذين الأمرين، وبقينا نعاني من شح في تهيئة النخب، ولم نستفد من الآثار الإيجابية المترتبة على وجودها بالقدر الكافي.

 

خامساً- هجرة النخب والحرب: معطيات راهنة وقلق مستقبلي

لعل من النافل القول: إن الحرب التي شنت على سورية وفيها، تنتمي إلى حروب الجيل الرابع، الحروب ما بعد الحداثية بكل أدواتها العسكرية والأمنية والاقتصادية والإعلامية والعلمية، وهي تستهدف كل نقاط القوة وعوامل البقاء عند الدولة والمجتمع. وفيما يتصل بموضوع الكفاءات والكوادر العلمية، كانت تجربة العراق أكثر مرارة وقسوة، إذ خسرت عدداً كبيراً من علمائها ومبدعيها، وبأشد الأساليب وأكثرها عنفاً، بدءاً باغتيال أعداد متزايدة منهم على يد الموساد الإسرائيلي وأعوانه، مروراً بإجبار البعض الآخر على ترك البلد والمغادرة، وصولاً إلى إغراء قسم ثالث في العمل مع الشركات والدول الكبرى. والهدف واحد، هو تفريغ العراق من ثروته البشرية وعلمائه وفنّييه وإعادته إلى حظيرة التخلف، وبالتالي انتزاع أحد أهم عوامل قوته ونهوضه.

وشيء من هذا القبيل أيضاً، حدث في سورية، وإن بطرق وأساليب مغايرة بعض الشيء، إذ أجبرت النخب الفكرية والعلمية والفنية السورية في مناطق سيطرة الجماعات الإرهابية المسلحة على الخروج من مدنها ومناطقها، سواء باتجاه المحافظات الأخرى أو خارج البلاد، وقد تم استهداف وتصفية بعض منها علناً. ومع تطور مخاطر الحرب، وبفعل العمل النشط للميديا والحملات الإعلامية المركزة، سرى شعور من الذعر الجمعي وحمى الهجرة والمغامرة بين السوريين تحديداً في الأعوام 2015-2016، وتدفقت أمواج اللجوء والهجرة عبر المتوسط ودول الجوار باتجاه أوروبا بعامّة، ونحو ألمانيا بخاصّة، واللافت أن هذه الموجة الكبيرة من الهجرة واللجوء شملت لأول مرة شباباً وأطباء ومهندسين وعلماء وفنانين وأساتذة جامعات ومهنيين من مختلف المناطق، بما فيها المناطق الآمنة نسبياً التي بقيت تحت سيطرة الدولة، وفقدنا أعداداً غير معروفة، لكنها كبيرة من خيرة النخب السورية، والهدف الأبعد هو تفريغ البلد من كوادره، وتحويله إلى دولة "فاشلة"، بعد أن أخفق مشروع تدمير الدولة السورية وهزمها عسكرياً.

فمن بين أكثر من 900 ألف سوري استقروا في ألمانيا حتى العام 2017، يوجد أكثر من 40% من هؤلاء من أصحاب المؤهلات العالية، إضافة إلى أعداد أقل اتجهت إلى بقية البلدان الأوروبية والولايات المتحدة وكندا[27].

وقد أخذت هجرة الكفاءات تشكل إحدى أهم خصائص الهجرة الخارجية في سورية التي تعمقت في مرحلة الأزمة والحرب، وازدادت حدّتها، في ظل اشتداد المنافسة الدولية، على استقطاب الكفاءات ورأس المال البشري المؤهل. وتشير الدراسات إلى أن نسبة السوريين المهاجرين الحاصلين على شهادة التعليم الجامعيّ العالي تتجاوز 35% من إجمالي المهاجرين[28] الذين تحتاجهم سورية في مرحلة ما بعد الحرب. وهؤلاء ثروة وطنية فتية، إلى جانب كونهم كوادر وكفاءات وموارد بشرية وعلمية، يصعب على النظام التعليمي السوري تعويض وتأهيل كوادر مماثلة في مدّة قصيرة.

وسواء تعلقت الأسباب الكامنة وراء هجرة العقول بالعوامل الشخصية المتصلة بالطموح والرفاهية المادية وتقدير الذات، أو ارتبطت بالخوف والهروب من الخدمة العسكرية والقلق والبحث عن الآفاق، أو تعلقت ببيع الأحلام والأوهام وتصوير الخروج من البلد على أنه الخلاص، والوصول إلى أوروبا بوصفه الفردوس المفقود، أو حاجة هؤلاء أو بعضهم إلى المزايا والتقدير وحريات البحث والتفكير والوصول إلى نمط عيش أكثر رفاهية، أو كان الأمر يصب في صالح سياسات تريد إضعاف البلد وتفريغه من طاقاته، أو سواها من الأسباب، فقد أصبحت ظاهرة الهجرة أمراً واقعاً، وينبغي علينا تقصّي ودراسة أسبابها ونتائجها وتأثيراتها المديدة في مستقبل سورية، وفي الاقتصاد والمجتمع.

في دراسة أعدها المعهد الوطني للإدارة العامة (INA) حول انعكاسات هجرة ونزوح الكوادر الوطنية على أداء قطاعات الصحة والتربية والتعليم العالي، بينت النتائج أن هناك تناقصاً في الأعداد الإجمالية لأعضاء الهيئة التعليمية والفنية، مع تركز النقص في أعضاء الهيئة التعليمية والفنية للكليات النظرية!، وأن أكثر الجامعات تأثراً بالنقص الإجمالي هما جامعتا دمشق والبعث، إذ تركز الانخفاض في الكليات النظرية بشكل يفوق الانخفاض في الكليات التطبيقية. كما تركز الانخفاض في جميع الكليات وكل الدرجات العلمية، وفي كل الجامعات بين الذكور. أما بالنسبة للمراتب العلمية لأعضاء الهيئة التعليمية، فكانت مرتبة أستاذ وأستاذ مساعد الأكثر انخفاضاً، ما يعني أننا خسرنا الأساتذة الأكثر خبرة وقِدماً. وقد وصلت نسبة النقص في جامعتي دمشق وحلب حتى عام 2016 إلى 43.43% في جامعة دمشق، و45.48% في جامعة حلب[29].

انعكست هجرة الكوادر والنخب العلمية أثناء الأزمة والحرب بصورٍ متعددة، لكن تأثيرها في مؤشرات الجامعات كان الأوضح، سواء من حيث نقص الكوادر، أو من حيث نوعية هذه الكوادر، الأمر الذي كان له أثرٌ سلبيٌّ على نوعية التعليم.

 

  1. مشكلة نقص الكوادر

يمكن فهم النقص الحاصل في إجمالي الكوادر التدريسية (مدرس – أستاذ مساعد – أستاذ) طيلة سنوات الأزمة السورية (2011 -2015) بانخفاض أعداد كافة المراتب العلمية في الهيئة التعليمية (مدرس – أستاذ مساعد – أستاذ) بنسبة (33.1%، 40%، 36.1%) على الترتيب. وأثّر استمرار نقص الأساتذة المساعدين طيلة سنوات الأزمة على إجمالي الهيئة التعليمية، رغم الزيادة الطفيفة في أعداد الأساتذة عام (2013) والأساتذة والمدرسين عام (2014). كما هو مبين بالشكل.

 

 

 

 

 

الشكل رقم (5) تطور أعداد أعضاء الهيئة التعليمية الإجمالي والتفصيلي (مدرس-أستاذ -أستاذ مساعد (

 

المصدر: فريق البحث اعتماداً على بيانات وازرة التعليم العالي

 

كما يمكن تفسير النقص في أعضاء الهيئة التعليمية (أستاذ – أستاذ مساعد – مدرس) طيلة سنوات الأزمة بأسباب تتعلق بالأزمة السورية بالدرجة الأولى، حيث شكل نقص أعضاء الهيئة التعليمية لأسباب (استقالة-بحكم المستقيل– إجازة بدون أجر – الندب – الإعارة – التقاعد) نسبة (29.5%) من إجمالي الهيئة التعليمية المذكورة حتى عام (2016) شكلت نسبة بحكم المستقيل منهم (55.1 %) من إجمالي النقص كما هو موضح بالشكل الآتي:

 

 

 

 

 

 

الشكل رقم (6) نسبة النقص والقائمين على رأس عملهم (أستاذ-أستاذ مساعد-مدرس) من الإجمالي حتى عام 2016

 

المصدر: فريق البحث اعتماداً على بيانات وازرة التعليم العالي، ص 299.

 

  1. النوعية

تأثرت نسب المراتب العلمية المختلفة بالنقص الذي طال الهيئة التعليمية والفنية، وكانت أكثر المراتب العلمية تأثراً بالنقص هي مرتبة أستاذ مساعد، حيث انخفضت طيلة سنوات الأزمة بنسبة (41.7%) عام (2016) عما كانت عليه عام (2010). يمكن تبرير هذا النقص بعدة أسباب:

  1. أسباب تتعلق بالأزمة، إذ شكلت حالات النقص بحكم المستقيل التراكمي طيلة سنوات الأزمة (12.7%) من إجمالي الهيئة التعليمية بمرتبة أستاذ مساعد، كما يوضح الشكل (7).

 

 

 

 

الشكل رقم (7) نسبة القائمين على رأس عملهم والنقص في مرتبة أستاذ مساعد التراكمي حتى عام 2016

 

المصدر: فريق البحث اعتماداً على بيانات وازرة التعليم العالي، ص 312.

  1. احتمال نقص مرتبة أستاذ مساعد بسبب ترفع بعض الأساتذة المساعدين إلى مرتبة أستاذ بعد استكمال الشروط اللازمة، وهو ما يبرر الارتفاع الجزئي في مرتبة أستاذ خاصة في ظل غياب مسابقات تعيين أعضاء هيئة تدريسية طيلة سنوات الأزمة. كما يوضح الشكل (8).

الشكل رقم (8) نمو مرتبتي أستاذ وأستاذ مساعد طيلة سنوات الأزمة السورية

 

المصدر: فريق البحث اعتماداً على بيانات وازرة التعليم العالي، ص 313.

 

 

وتقترح الدراسة لتحسين جودة التعليم ما يلي:

  • مراجعة المنتج التعليمي المباشر وهو الطالب.
  • مراجعة المنتج التعليمي غير المباشر
  • اكتشاف حلقات الهدر وأنواعه المختلفة.
  • تطوير التعليم بوساطة تقويم النظام التعليميّ، وتشخيص القصور في المدخلات والعمليات والمخرجات حتى يتحول التقويم إلى تطوير حقيقي وضبط فعلي لجودة الخدمة التعليمية.

هذا فضلاً عن استخدام نظام إدارة المعلومات التعليمية (EMIS) من أجل التخطيط والرصد وصنع القرارات.

إضافة إلى تفعيل عمل مركز القياس والتقويم التابع لوازرة التعليم العالي والقيام بالمهام المنوطة إليه وأهمها:

  • التأسيس لنموذج وطني للقياس والتقويم في التعليم العالي.
  • الارتقاء بالأداء التعليمي ونشر الممارسات الجيدة في مؤسسات التعليم العالي السورية.
  • إعطاء التعليم العالي في سورية بعداً تنافسياً على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية.
  • بناء قاعدة بيانات شاملة وعالية الاعتمادية تمكن وازرة التعليم العالي من تصنيف البرامج الأكاديمية ومؤسسات التعليم العالي[30].

بينما خسر القطاع الصحي نسبة كبيرة من كوادره التي كانت أحد أسباب نقص الخدمات الطبية في أثناء الحرب، إذ تشير التقديرات الصادرة عن النقابات المعنية إلى هجرة نحو ثلث الأطباء، وخمس الصيادلة (أي 33% و20% على التوالي). هذا التغير أدى إلى ارتفاع متوسط عدد السكان لكل طبيب بشكل كبير في سنوات الحرب من 623 مواطناً لكل طبيب عام 2010، إلى 730 مواطناً لكلّ طبيب عام 2015[31]، ذلك بسبب الهجرة الواسعة للأطباء خارج سورية التي فاقت في معدلاتها معدل هجرة السكان. الأمر الذي يفسّر جزئياً، إلى جانب ظروف الحرب الأخرى، انخفاض معدل العمر المتوقع عند الولادة بين الرجال والنساء، وهو مؤشر تنموي إجمالي يدلل على تراجع كل مكونات الحالة الصحية والمعيشية، بما في ذلك مستوى أو نوعية الخدمات الطبية والوعي الصحي والغذاء والأمان وسواها.

    تعود أهمية هذه الأبحاث، على محدوديتها واقتصارها على قطاعات معينة وهي الصحة والتعليم، واقتصارها على رصد هجرة الكفاءات حتى العام 2015، إلى ضرورة متابعة وتقصي ومسح بقية القطاعات العلمية والاقتصادية والتنموية، وعلى الأخص المهنية منها، لمعرفة مدى الضرر الذي أصاب كوادرها ورأسمالها البشري. هذا، ورغم اختلاف الأرقام ومصادرها، وبغض النظر عن نسبة المهاجرين وأعدادهم، فقد بات مؤكداً أننا في مواجهة تحوّل نوعي سلبي للأسف، سيرخي بظلاله على الواقع لمدّة ليست بالقليلة. ولعلَّ الخطوة الحاسمة في هذا الاتجاه هي البدء بالتعرف الفعلي على واقع ومستوى الكفاءات السورية، رغم ندرة البيانات وشح المعلومات وتناقضها أحياناً، والتفكير في السياسات اللازمة.

تتساوق المعطيات السابقة مع محاولات النقابات والجامعات والمؤسسات البحثية لتقدير أعداد الكفاءات التي غادرت سورية في مرحلة الأزمة والحرب، إذ يقدّر عدد الأطباء، ومن مختلف التخصصات، الذين غادروا بـ 584 طبيباً، إضافة إلى 2250 طبيب أسنان. أما أساتذة الجامعات، ومن مختلف الكليات، فقد بلغ 1220 أستاذاً، إلى جانب نحو 150 من حملة الدكتوراه الذين يعملون خارج الجامعة، أي في المؤسسات والوزارات المختلفة[32].

بينما يقدّر عدد المهندسين بـ 8521 مهندساً على تنوع تخصصاتهم. ولعل الرقم الأكبر بين حملة الإجازة الجامعية تجاوز 21480 مجازاً. هذا إضافة إلى أعداد كبيرة جداً من الموفدين السوريين إلى الجامعات العالمية للحصول على درجات الماجستير والدكتوراه. تقول الإحصاءات إن نحو 70% منهم لا يعودون إلى سورية. ويُرجّح أن هذه النسبة قد ارتفعت كثيراً في سنوات الحرب[33].

أما أكثر القطاعات التي لا نعرف الكثير عن كفاءاتها ومواهبها ونخبها، سواء على مستوى الأرقام التي غادرت أو على مستوى توزع المهن والصنائع والمهارات، فهو القطاع المهني الذي يضم المهن الحرة والأعمال اليدوية الماهرة وكبار الحرفيين في مختلف مجالات العمل والإبداع، كالعمارة والفنون البصرية والأعمال اليدوية الماهرة والفسيفساء والنقش على الخشب والموزاييك والأرابيسك والسيوف الدمشقية والنحاسيات وصياغة الذهب والفضة والأنسجة (الدامسكو والبروكار) والمفروشات، فضلاً عن مهن البناء وفنون الطعام وغيرها الكثير. هذه المجالات الإبداعية تحتاج إلى دراسة ميدانية مستقلة لمعرفة أعداد وتوزع ومهن العاملين فيها، ونسبة الفاقد في كل مهنة، لأننا في مرحلة إعادة الإعمار القادمة سوف نفتقد وجودهم وخبراتهم.

توضح الأرقام والمعطيات السابقة الحجم الكبير للمشكلة التي نواجهها اليوم وفي المستقبل، وتؤكد أن هجرة الأدمغة شكلت وسوف تشكّل إحدى نقاط الضعف الشديدة والسلبية على الأداء الاقتصادي والتنموي لسورية ما بعد الحرب. ومن المتوقع أن يمتد أثر خسارة هذا المورد البشري على الأجيال القادمة، وخصوصاً في المؤشرات الأساسية للنجاح التنموي المتصلة بالدخل وفرص العمل والاستثمار والتعليم والصحة ونوعية الحياة. ولا يقل عما سبق تأثيراً وحساسية فقدان الدور التنويري والتأثير الإيجابي الذي يلعبه هؤلاء في أماكن وجودهم كنماذج نجاح وقدوة.

 

سادساً- نتائج وتوصيات البحث

لم يُعد خافياً أن المعرفة قوة، وأنها باتت تشكّل أحد أهم مكونات القوة في عالم اليوم، الأمر الذي يفسر تسابق الدول والشعوب والشركات ومراكز الأبحاث والجامعات على إنتاج وتوظيف ونشر المعرفة بكفاءة، إذ إن القيمة المضافة العالية للاستثمار في المعرفة، وبالتالي في الإنسان، تفوق بأضعاف الاستثمار في بقية النشاطات الاقتصادية. فالثروة اليوم وفي المستقبل هي في الذكاء والمهارات الإنسانية، بل هي في اكتشاف مناجم العقول والإبداع الذي لا ينضب.

تمثّل العناية بالنخب والكفاءات السورية المهاجرة فرصة تنموية ضيعتها الحرب بتبعاتها ونتائجها الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، لكنها وفي الوقت نفسه دللت على ضرورة الاهتمام برأس مالنا المعرفي والبشري، ممثلاً بهذه العقول وإبداعاتها، نظراً لدورها الحيوي في رسم ملامح مستقبل سورية ومصير أجيالها القادمة، وذلك بوساطة:

  • تكوين مرصد وطني للكفاءات والعقول الوطنية المقيمة والمهاجرة، وحصر أعدادها وتوزعها الجغرافيّ حول العالم، وتخصصاتها، والاقتراح على الإدارة العليا الاستراتيجية للمعرفة كيفيات وسبل الاستفادة منها.
  • تشكيل إدارة استراتيجية للمعرفة، بمختلف فروعها، تضع السياسات والخطط والبرامج المتعلقة بالجماعة العلمية السورية وبشؤونها ومتطلبات نجاحها، وتتمكن من الإلمام بواقع مؤسسات إنتاج ونشر وتوظيف المعرفة ومعالجة جوانب قصورها وضعفها، لتتمكن من القيام بوظائفها بالصورة المطلوبة.
  • إعادة النظر جذرياً، بهدف تقييم واقع النخب وتحديد مشكلاتها، ومشاركتها في اقترح حلول لاستعادة مكانتها في المجتمع، وللاستفادة من طاقاتها وخبراتها في استحداث نماذج نجاح بالمعاني الاستثمارية والتنموية.
  • إجراء بحث ميدانيّ على المستوى الوطنيّ، لتعرّف واقع المهن الحرة والخبرات النادرة في مختلف أنواع النشاط المهني، لإعادة بناء هذه المهارات، لأننا بأشد الحاجة إليها اليوم وفي المستقبل، خصوصاً أنها، وفي غالبيتها العظمى، تعمل في النشاط الاقتصادي غير المنظم، ولا نملك معلومات أو أرقاماً أو إحصاءات كافية عنها، بعكس المشتغلين في القطاع المنظم العام والخاص.
  • العمل على رفع العائد على التعليم، بشقيه المادي والاجتماعي، وجعله مجزياً ومحفزاً من أجل استعادة دور العلم في المجتمع، والارتقاء بمكانة المعلمين وبناة العقول، على غرار ما فعلت التجارب التنموية الناجحة في العالم. والبداية العملية تتمثل في رفع مستوى دخل ومعيشة هؤلاء.
  • الاستفادة من التجارب الناجحة في إدارة العلاقة مع العقول، على غرار ما فعلت دول مثل جنوب إفريقيا والبرازيل والهند وسواها. مع التركيز على التجربة الهندية التي كانت رائدة في بناء صلات مباشرة ومستمرة مع نخبها، الأمر الذي أفضى إلى حل الكثير من مشكلاتها، وشجعها على الاستثمار في بلدها الأم بمعارفها وخبراتها وأموالها أيضاً، فأصبح الاقتصاد الهندي من أكثر الاقتصادات الجديدة نمواً وجذباً للاستثمارات.
  • تفهم وإدراك خصوصية النخب الفكرية والعلمية والفنية، وحاجتها إلى الاعتراف والتميز والتقدير، ذلك أن السوق الدولية المعولمة للعمل، تحاول دائماً استقطابها وجذبها، كما تعمل على توفير كل مستلزماتها المتصلة ببيئة العمل، والحريات البحثية، وبمستوى المعيشة والرفاهية. ذلك لأنها مصدر قوتها ومكمن قدراتها التنافسية بسبب أفكارها وابتكاراتها وبراءات الاختراع والاكتشافات العلمية والعملية التي جعلتها هدفاً للتسابق بين الدول الشركات. ولعل ما لا يقل عما سبق أهمية، حاجة مجتمعاتنا إلى دورها التنويري وثقافتها الواسعة وخبراتها التي أنضجتها التجارب والتفاعلات الثقافية والحضارية مع الثقافات الأخرى.
  • توفير الحماية الأمنية والمجتمعية للكوادر الخبيرة، سواء من الابتزاز أو الإغراء أو حتى القتل، كما حدث مع العلماء العراقيين الذين اضطهدوا وشرّدوا وقتلوا على أيدي الموساد الإسرائيلي وجماعات التطرف. وكما جرى مع العديد من المواهب والكفاءات العلمية السورية التي عانت من الترويع والتهجير والقتل والاغتيال، إذ يعرف الإسرائيليّ مثلما تعرف الجماعات الإرهابيّة قيمتها بالنسبة إلى الوطن، لذلك كان الهدف حرمان الوطن من قوتها وخبراتها في شتى المجالات.

 

 

المراجع

  1. "التعليم بين التحليل النمطي وأفق الأهداف"، مركز دمشق للأبحاث والدراسات، سلسلة قضايا تنموية، العدد الثالث، آب/أغسطس 2018.
  2. "الهجرة الخارجية السورية، موجاتها، عواملها وآثارها"، ورقة خلفية مقدمة من منظمة الهجرة الدولية للخطة الخمسية الحادية عشرة، دمشق 2010.
  3. "انعكاسات هجرة ونزوح الكوادر الوطنية على أداء قطاعات الصحة والتربية والتعليم العالي"، البحث التطبيقي للدورة الثانية عشرة، المعهد الوطني للإدارة العامة INA، دمشق، 2016.
  4. "هجرة الكفاءات والعقول من المسؤول عنها؟"، مجلة جهينة، العدد 83، 23 شباط/فبراير 2016. https://jouhina.com/magazine/print.php?id=3554
  5. الإبراهيم، رحاب. "خسائر الحرب السورية قاربت 1170 مليار دولار"، صحيفة الأخبار، العدد 3076، 11 كانون الثاني/يناير 2017. https://al-akhbar.com/Syria/224584
  6. أبو حلاوة، كريم. "أين العرب من مجتمع المعرفة"، المجلس الأعلى للثقافة، مؤتمر الترجمة ومجتمع المعرفة، القاهرة، 2006.
  7. أبو غمجة، نصر الدين محمد. "هجرة العقول العربية"، مجلة الدراسات المستقبلية، المجلد 17، الإصدار 16، 2016.
  8. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003.
  9. التقرير الاقتصادي لمشروع (سورية 2025)، دمشق، 2007.
  10. داؤد، صفوان. "عن هجرة حاملي المعرفة في سورية"، مركز دمشق للأبحاث والدراسات (مِداد)، 26 تموز/يوليو 2017. https://goo.gl/eDJXVc
  11. قومان، مناف. "التجربة الهندية: مسيرة الهند من بلد فقير إلى سابع أكبر اقتصاد في العالم"، نون بوست، 5 تموز/يوليو 2017. http://www.noonpost.org/content/18727
  12. مرزوق، نبيل. "هجرة الكفاءات وأثرها على التنمية الاقتصادية"، جمعية العلوم الاقتصادية، ندوة الثلاثاء الاقتصادية الثالثة والعشرون، دمشق 2010.
  13. المرصد الوطني للتنافسية، "التقرير الوطني لتنافسية الاقتصاد السوري 2012"، سورية: 2012.
  14. منتدى دافوس، مؤشرات جودة التعليم، دافوس، 2016.
  15. نقابة الأطباء والصيادلة، وأرقام من التعليم العالي والجامعات السورية وتقديرات الباحث، 2018.
  16. نقابة المهندسين، معطيات وزارة التعليم العالي، دمشق 2018.
  17. الهلالي، الهلالي الشربيني. "إدارة رأس المال الفكري وقياسه وتنميته"، مجلة بحوث، جامعة المنصورة-كلية التربية النوعية، العدد 22، تموز/يوليو 2011،
  18. الهيئة السورية لشؤون الأسرة، "التقرير الوطني الثاني عن حالة سكان سورية 2010"، دمشق: نيسان 2010.

 

  1. “Finding their way: labour market integration of refugees in Germany”, OECD, 2017.
  2. “Indians 3rd-largest group affected by UK's immigration scandal”, the economic times, 22 Aug 2018. https://economictimes.indiatimes.com/nri/working-abroad/indians-3rd-largest-group-affected-by-uks-immigration-scandal/articleshow/65505131.cms
  3. “Shaping the future: along term perspective of people and job mobility for the Middle East and North Africa”, World Bank, 2005.
  4. Dumont, Jean Christophe. “Immigrants from Arab countries to the OECD: from the past to the future”, United Nations Secretariat, Beirut, 15-17 May 2006.
  5. Sabharwal, Neelam D.. “Migration in a Globalised World: India’s Experience”, EURA-NET Forum Debate, 12 Sep 2016. https://blogs.uta.fi/eura-net/2016/09/12/migration-in-a-globalised-world-indias-experience/
  6. Tejada, Gabrielaet al. Indian Skilled Migration and Development. New Delhi: springer 2014 edition, 8 April 2014.

 


[1] رحاب الإبراهيم، "خسائر الحرب السورية قاربت 1170 مليار دولار"، صحيفة الأخبار، العدد 3076، 11 كانون الثاني/يناير 2017. https://al-akhbar.com/Syria/224584

بينما تقدّر الإسكوا هذه الخسائر بـ 400 مليار دولار في اجتماع عقدته مؤخراً وضمّ حوالي 50 خبيراً سورياً ودولياً في مقر الأمم المتحدة في بيروت، 7-8 آب/أغسطس 2018.

[2] التقرير الاقتصادي لمشروع (سورية 2025)، دمشق، 2007، ص 83-85.

[3] نبيل مرزوق، "هجرة الكفاءات وأثرها على التنمية الاقتصادية"، جمعية العلوم الاقتصادية، ندوة الثلاثاء الاقتصادية الثالثة والعشرون، دمشق 2010، ص 6-7.

[4] Jean Christophe Dumont, “Immigrants from Arab countries to the OECD: from the past to the future”, United Nations Secretariat, Beirut, 15-17 May 2006.

[5]  “Shaping the future: along term perspective of people and job mobility for the Middle East and North Africa”, World Bank, 2005.

[6] http://www.irinnews.org/report.aspx?reportid

[7] "هجرة الكفاءات والعقول من المسؤول عنها؟"، مجلة جهينة، العدد 83، 23 شباط/فبراير 2016. https://jouhina.com/magazine/print.php?id=3554

[8] المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين (BAMF)/تحليل موجز، العدد رقم 4، 2016، ص 7.

[9] صفوان داؤد، "عن هجرة حاملي المعرفة في سورية"، مركز دمشق للأبحاث والدراسات، 26 تموز/يوليو 2017. https://goo.gl/eDJXVc

[10] نصر الدين محمد أبو غمجة، "هجرة العقول العربية"، مجلة الدراسات المستقبلية، المجلد 17، الإصدار 16، 2016، ص 13.

[11] "انعكاسات هجرة ونزوح الكوادر الوطنية على أداء قطاعات الصحة والتربية والتعليم العالي"، البحث التطبيقي للدورة الثانية عشرة، المعهد الوطني للإدارة العامة INA، دمشق، 2016، ص 352.

[12] المرجع السابق، ص 253.

[13] الهلالي الشربيني الهلالي، "إدارة رأس المال الفكري وقياسه وتنميته"، مجلة بحوث، جامعة المنصورة-كلية التربية النوعية، العدد 22، تموز/يوليو 2011، ص 23.

[14] كريم أبو حلاوة، "أين العرب من مجتمع المعرفة"، المجلس الأعلى للثقافة، مؤتمر الترجمة ومجتمع المعرفة، القاهرة، 2006.

[15] المرجع السابق، ص 14.

[16] برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003، ص 9.

[17] الهيئة السورية لشؤون الأسرة، "التقرير الوطني الثاني عن حالة سكان سورية 2010" (دمشق: نيسان 2010)، ص 133.

[18] المرصد الوطني للتنافسية، "التقرير الوطني لتنافسية الاقتصاد السوري 2012" (سورية: 2012)، ص 191.

[19] منتدى دافوس، مؤشرات جودة التعليم، دافوس، 2016.

[20] "التقرير الوطني لتنافسية الاقتصاد السوري"، مرجع سابق، ص 194.

[21] المكتب المركزي للإحصاء، المجموعة الإحصائية للعام 2017.

[22] زوشما راماتشاندران، "الهنود العاملون في الخارج... ذراع جديدة للنمو الاقتصادي"، مركز الجزيرة للدراسات، 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2009، ص 7.

[23] المرجع السابق، ص 9.

للمزيد من التوسع انظر:

Gabriela Tejada et al, Indian Skilled Migration and Development (New Delhi: springer 2014 edition, 8 April 2014).

[24] البنك الدولي، الكتاب الإحصائي للهجرة والتمويلات المالية من الخارج لعام 2009.

[25] Neelam D. Sabharwal, “Migration in a Globalised World: India’s Experience”, EURA-NET Forum Debate, 12 Sep 2016. https://blogs.uta.fi/eura-net/2016/09/12/migration-in-a-globalised-world-indias-experience/

[26] World Bank, Bloomberg, 2018, p. 36.

[27] “Finding their way: labour market integration of refugees in Germany”, OECD, 2017.

[28] "الهجرة الخارجية السورية، موجاتها، عواملها وآثارها"، ورقة خلفية مقدمة من منظمة الهجرة الدولية للخطة الخمسية الحادية عشرة، دمشق 2010.

[29] "انعكاسات هجرة ونزوح الكوادر الوطنية على أداء قطاعات الصحة والتربية والتعليم العالي"، البحث التطبيقي للدورة الثانية عشرة، المعهد الوطني للإدارة العامة INA، مرجع سابق، ص 312.

[30] "انعكاسات هجرة ونزوح الكوادر الوطنية على أداء قطاعات الصحة والتربية والتعليم العالي"، مرجع سابق، ص 356.

[31] "التعليم بين التحليل النمطي وأفق الأهداف"، مركز دمشق للأبحاث والدراسات، سلسلة قضايا تنموية، العدد الثالث، آب/أغسطس 2018، ص 36.

[32] نقابة الأطباء والصيادلة، وأرقام من التعليم العالي والجامعات السورية وتقديرات الباحث، 2018.

[33] نقابة المهندسين، ومعطيات وزارة التعليم العالي، دمشق، 2018.

 

مركز دمشق للأبحاث والدراسات

التعليقات