يُفترض بعد الحرب أن تمتلك سورية –التي تحتاج إلى عمليّة بناء شاملة تطال البشر والحجر– مقوّمات عديدة تسمح لها بالرهان على إحداث خرقٍ في المجال الاقتصاديّ، فيما بات يعرف اليوم باقتصاد المعرفة، واستخدام هذا الخرق لتحقيق النمو المنشود الذي يمكن أن يشكل دعامة النهوض الاقتصاديّ والاجتماعيّ في سورية. إذ تمتلك سورية رغم نزيف الحرب، مخزوناً كبيراً من الشباب المتعلم بأعمار تتراوح بين 18 و30 عاماً، كما تمتلك بنيةً تحتيةً أكاديميةً مقبولة من مؤسسات أكاديمية في كافة المراحل (رغم الدمار والنزيف الذي لحق بها) تسمح بالرهان على إمكانية تطويرها واستخدامها كركيزة أولى للبناء عليها. وهي كلها مقومات تسمح لنا بطرح السؤال الآتي:

كيف يمكنُ لسورية طوال عقدٍ قادمٍ من الزمن أن تستثمر ما تملكه من مقومات في مجال التعليم، للتحوّل نحو اقتصاد المعرفة (وهو الاقتصاد القائم على العلم والمعرفة) والاستثمار في صناعات سورية حقيقية قائمة على إنتاج المعرفة والمعلومة، وهي صناعات باتت تشكل فرصة للكثير من الدول النامية، من أجل إحداث تطور اقتصادي واجتماعي فيها؟

ينبغي من أجل الإجابة عن هذا السؤال إجراء تحليلٍ شاملٍ لواقع التعليم في سورية، بمراحله المختلفة، والبدء بتحديد نقاط قوته وضعفه، وفرص تطويره لوضع استراتيجيات النهوض به، وتعريف الآليات التي ستؤدي إلى هذا النهوض. هذا التحليل الشامل يجب أن يتناول: التعليم المدرسي بمراحله الثلاث، بصفته المسؤول عن تشكيل الخامة الأولى لإنسان مجتمع المعرفة، ومن ثم التعليم الجامعي بمرحلتيه الجامعيتين: الأولى، والثانية التي تشمل الدراسات العليا والبحث العلمي، بصفته المسؤول عن تصنيع المخرجات اللازمة لسوق العمل (بالمعنى العريض) الذي يشمل كافة القطاعات العلمية والبحثية والمهنية، إضافةً إلى التأهيل المستمر والتعلم مدى الحياة الذي يضمن ديمومة التطور العلميّ والمهنيّ والاقتصاديّ في المجتمع.

في هذا السياق، سنركز في هذا العرض على مرحلة التعليم الجامعي بشقيها، استناداً إلى دراسة جزئية محددة تتناول وضع الجامعات بصفتها المُصنِّع الأول لمخرجات التعليم الجامعي بكافة قطاعاته، مع التأكيد على أن وضع الجامعات لا يمكن أن يُدرس خارج سياق واقع التعليم العالي الشامل.

يتبيّن بعد التركيز على الجامعات السوريّة الخاصة والعامة، أنها كمؤسسات تفتقد لأي وجود حقيقي على الساحة الدولية، في حين أنَّ خريجيها ينتشرون في الكثير من الجامعات الغربية والشرقية، ويحققون إنجازات فردية مميزة عندما يخرجون منها إلى مؤسسات أكاديمية خارجية، وهو ما يؤكد أن المشكلة الحقيقية تكمن في الواقع الإداريّ والأكاديميّ لجامعاتنا.

وبما أنَّ الوجودَ الحقيقيَّ للمؤسسات الجامعية اليوم بات ينعكس في عملية تصنيفها ضمن مختلف منظومات التصنيف الأكاديمية، سنركز في الآتي على تحليل أسباب خروج المؤسسات التعليمية السورية خارج معظم التصنيفات الأكاديمية، مستخدمين هذه التصنيفات كأداة لتحليل الواقع الأكاديميّ والبحثيّ في الجامعات السورية، وليس كهدف، ومعتمدين على الخبرة الإدارية الناتجة عن إدارة مؤسسة أكاديمية سورية محلية، كالجامعة الافتراضية السورية، للوصول إلى تحليل الواقع الإداري والأكاديمي والبحثي لجامعاتنا. إذ على أساس تحليل هذا الواقع الإداري والأكاديمي والبحثي لجامعاتنا، يمكن أن نصل إلى تحليل أولي لواقع التعليم العالي في سورية.

كما أنّه من أجل الوصول إلى النتيجة المطلوبة، علينا أن نجيب عن مجموعة من الأسئلة:

  • ماذا تعني تصنيفات المؤسسات الأكاديميّة، وما دلالاتها وصدقيتها؟
  • إذا قبلنا بشروط اللعبة، ما وضع الجامعات السوريّة ضمن هذه التصنيفات، ولماذا اختفت من هذه التصنيفات؟
  • كيف يمكن اتخاذ إجراءات قصيرة الأجل لتحسين وضع الجامعات السورية في هذه التصنيفات؟
  • ما الإجراءات البعيدة الأمد التي يجب اتخاذها؟

 

 

ماذا تعني تصنيفات المؤسسات الأكاديمية، وما دلالاتها وصدقيتها؟

حدثَ في عام 2000 في معرض انعقاد قمة لشبونة[1]، أن وضع رؤساء دول الاتحاد الأوروبي أمامهم هدفاً طموحاً للعقد التالي؛ ذلك "بجعل أوروبا تمتلك اقتصاد المعرفة الأكثر ديناميكية وتنافسية في العالم". اليوم، وبعد مرور عقدين من الزمن، وتحقيق أوروبا للكثير من الأهداف التي وضعتها في تلك القمة، لابدَّ من التذكير بأن عملية التطوير التي قادتها أوروبا باتجاه "اقتصاد معرفة" جديد شكّلت انتقالاً واضحاً لمفهوم الاقتصاد من اقتصاد تقليديّ قائم بأسسه الإنتاجية على المِلْكيّة والعمل والإنتاج بالأسلوب التقليديّ، إلى اقتصاد تقانيٍّ رقميٍّ قائم على إنتاج المعلومة والمعرفة، تحديداً الرقمية منها، ما جعل من الصعب على الكثير من أشكال الوظائف التقليدية أن تستمر اليوم في الاقتصاد الرقميّ، وفرض على الجميع تحدياً وجوديّاً له ثلاثة أوجه:

أولاً، ضرورة تطوير منظومة التعليم ما قبل الجامعيّ والجامعيّ وما بعد الجامعيّ، والاستثمار بها لتأهيل شرائح كبيرة من البشر وتسليحهم بالمعرفة الضرورية، ذلك للمنافسة في سوق العمل الذي ستطغى عليه أعمال جديدة؛

ثانياً، ضرورة تطوير منظومة البحث العلميّ، النظريّ والتطبيقيّ، في الجامعات والمؤسسات العلمية والبحثية، ذلك لضمان عملية توليد مستمرة لاحتياجات معرفية وتقانية وعلمية جديدة، تؤمن الشروط اللازمة لاستمرار دوران عجلة الاقتصاد دون توقف؛

وثالثاً وأخيراً، ضرورة ربط الجامعات بسوق العمل، ذلك لتكون مخرجاتها ذات عائدٍ اقتصاديّ، تخدم الأعمال والوظائف الجديدة المطلوبة، بدلاً من أن تتحول إلى عبء على الدول.

من هذا المنطلق، وفي سعيهم لتحقيق الأهداف الآنفة الذكر، وتقديم آلية تساعد في قياس أداء الجامعات ومدى إسهامها في دوران العجلة الاقتصادية خدمةً لاقتصاد المعرفة الرقميّ، يدعي القائمون على تصنيف المؤسسات الأكاديمية، تحديداً الجامعية منها، أنهم كهيئاتٍ مستقلة يعملون على وضع مؤشرات تساعد في قياس جودة أداء الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، بحيث تتمحور معظمها حول مخرجات البحث العلميّ، وتأثير المؤسسة الأكاديمية في سوق العمل، إضافةً إلى قياس مستوى الأداء الأكاديمي في المؤسسة.

عموماً، يجري حساب هذه المؤشرات بوساطة حساب قيمة رقمية تمثل "مرتبة" المؤسسة أو تصنيفها، مقارنةً بباقي المؤسسات المنافسة. تتضمن الآليات المتبعة معظم أنظمة التصنيف ثلاثة إجراءات أساسية:

  1. تجميع المعطيات المرتبطة بمؤشرات جودة خاصة بالعمل الأكاديمي والبحثي؛
  2. تكميم كلّ مؤشر استناداً إلى قيم المعطيات المرتبطة به؛
  3. وضع أوزان للمؤشرات وتجميعها من أجل حساب "المرتبة" على نحو يساعد في جعل تأثير هذه المؤشرات تراكميّاً، وبحيث تعدل المؤشرات القوية تلك الضعيفة منها (ولو بنسب متفاوتة تتعلق بأوزانها)، ومن ناحية أخرى، يساعد في إنتاج قيمة رقميّة تمثل "المرتبة" أو "التصنيف"، وتساعد في تسويق عملية التصنيف، وتسهيل فهمها من قبل الجمهور المتلقي.

مربع نص: تستند عملية التصنيف ومؤشراتها لمعطيات قابلة للتكميم، وهو ما يجعل من "جودة التعليم" عنصراً مستبعداً، لأن عملية الحصول على قياسات موضوعية للعملية التعليمية تكون صعبة ومكلفة وطويلة الأمد.يجري اختيار المؤشرات على نحوٍ مرتبط ارتباطاً وثيقاً بعناصر أداء المؤسسة الأكاديمية مثل: مدخلات ومخرجات العمليّة التعليميّة، ونتائج الأبحاث وتأثيرها العلمي، والتمويل والهبات التي تحصل عليها المؤسسة، وعلاقة المؤسسة الأكاديمية بسوق العمل وبالصناعة بالمعنى العريض، والسمعة التاريخية للمؤسسة، والجوائز التي نالتها، وعلاقاتها الدولية. وتعكس المؤشرات جودة العناصر الآنفة الذكر بأوزان تتناسب مع أهمية هذه العناصر؛ ذلك تبعاً لرؤية الجهة التي تقوم بعملية التصنيف والتي تفرض بوساطة اختيار المؤشرات وأوزانها، تعريفها الخاص لمفهوم الجودة في المؤسسات الأكاديمية التي يجري تصنيفها، وهو ما يؤثر تأثيراً مباشراً في الخرج النهائيّ، أي على مستوى التصنيف.

إضافةً لما سبق، تستند عملية التصنيف ومؤشراتها لمعطيات قابلة للتكميم، وهو ما يجعل من "جودة التعليم" –والذي يُعَدّ منطقياً من أهم عناصر تقييم جودة المؤسسة الأكاديمية– عنصراً مستبعداً، لأن عملية الحصول على قياسات موضوعية للعملية التعليمية تكون صعبة ومكلفة وطويلة الأمد.

بالنتيجة، تكون عملية التصنيف مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنمط القياسات التي تختارها الجهة التي تنفذ عملية القياس، لذا تُقابل عمليات التصنيف بارتياح من قبل الجمهور لما تمثله من نموذج تصنيفيّ وتسويقيّ سهل ومفهوم (يشبه نموذج تصنيف أندية دوري كرة القدم)، مقابل عدم ارتياح مؤسساتيّ، تحديداً من قبل المؤسسات الأكاديمية الأقل حجماً والأكثر حداثةً، فقليل من عمليات التصنيف تأخذ بالحسبان تسوية وضبط حساب مؤشراتها على نحو متناسب مع حجم المؤسسة وحداثتها، وهو ما يجعل التصنيفات تنحاز عموماً للمؤسسات الأعرق والأكبر على حساب المؤسسات الأكاديمية الأحدث والأصغر حجماً.

هذا، ورغم الانتقادات، إلا أنَّ الاهتمامَ بالتعليم والبحث العلميِّ من قبل الأمم المتحدة، ومن قبل النّسبة الغالبة من الدول بحسبانه الركيزة الأساسية في اقتصاد المعرفة وأحد مكوّنات خطط التنمية المستدامة، والعنايةَ بروح المنافسة التي تولدها عملية التصنيف، أدّيا إلى إيلاء الكثير من الاهتمام بالترتيب العالميّ، والتصنيفات لا سيما الأكثر تأثيراً منها، وهي: تصنيف شنغهاي (The Academic Ranking of World Universities - ARWU) وتصنيف التايمز
(Times Higher Education-THE) وتصنيف (Quacquarelli Symonds - QS) حيث باتت تستخدمها بعض البلدان مثل الدنمارك وهولندا كجزء من برامج الهجرة المستندة إلى النقاط، في حين تعترف دول أخرى مثل روسيا تلقائياً بالدرجات العلميّة من الجامعات الأعلى مرتبة. كما تطلب هيئة اعتمادية الجامعات الهندية في الهند أن يجري تصنيف الشركاء الأجانب للجامعات الهندية في قائمة أفضل 500 مرتبة في تصنيف THE أو ARWU، في حين اختار برنامج Science Without Borders  في البرازيل المؤسسات الشريكة الدولية باستخدام تصنيفات THE وQS.

فيما يلي لمحة عن التصنيفات الثلاثة، وهي تصنيف شنغهاي وتصنيف التايمز وتصنيف كيو-إس، إضافةً إلى لمحة عن تصنيف ويبوميتريكس، وهو التصنيف الوحيد الذي تظهر به الجامعات السورية:

تصنيف شنغهاي[2] (Academic Ranking of World Universities)

يُعَدُّ هذا التصنيف الأقدم والأهم (تسويقيّاً) من بين مختلف التصنيفات المعتمدة عالميّاً، أطلقته جامعة شانغهاي جياو تونغ عام 2003، لكن انتشاره الحقيقي عالميّاً بدأ فعلياً عام 2009. في مقالة ظهرت عام 2005 في صحيفة الإيكونوميست البريطانية الشهيرة، نُظِر إلى هذا التصنيفُ بصفته شفّافاً وذا اعتماديّة، يمكن لأصحاب الأعمال الاعتماد عليه من أجل التعامل مع خريجي الجامعات على أساسه في عمليات التوظيف. في عام 2010، وبعد رواج النتائج الخاصة بالتصنيف وترسخ سمعتها، ذهب وزراء التعليم في كل من فرنسا والنروج والدنمارك والصين لمقابلة المسؤولين عن هذا التصنيف، لمناقشة الآليات التي تسمح لجامعات هذه البلاد بتحسين تصنيفها ضمنه.

مربع نص: بقيت جامعة هارفرد في قمة الجامعات ضمن هذا التصنيف، وهو ما جعله يتعرض لانتقادات واسعة كون منهجية التقييم المتبعة فيه متحيزة لعلوم الأحياء والعلوم الطبيعية وللغة الإنكليزية.اعتمدت النسخ الأولى من التصنيف على دراسة اختصاصات محددة في الجامعات، مثل: الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم الحاسوب والاقتصاد والأعمال. واحتاج الأمر حتى عام 2016، ليتم توسيع عمليات التصنيف لتشمل سبعة مجالات هندسية، إذ يعود الأمر في بطء التوسّع نحو اختصاصات كثيرة إلى اعتماد هذا التصنيف بشكل كبير على وجود متخصّصين من حَمَلَةِ جائزة نوبل، وهو ما كان يحصر التنافس بين الجامعات في الاختصاصات التي يوجد بها هذا النمط من الجوائز، دون أن يتمكن القائمون عليه من تحديد كيفية التعامل مع اختصاصات لا يوجد فيها حملة جائزة نوبل.

يعتمد التصنيف في تحديده لمرتبة الجامعة، أساساً، على مجموعة من المؤشرات بأوزان مختلفة، تعطي بتجميعها مستوى التصنيف: عدد الخريجين الذين يحملون جائزة نوبل أو جوائز علمية مرموقة (10%)؛ نوعية الجوائز المقدمة (20%)؛ عدد الإشارات المرجعية في منشورات Thomson-Reuters لباحثي الجامعة (20%)؛ المقالات التي ينشرها الباحثون باسم الجامعة في المجلات والمؤتمرات، تبعاً لمستوى تصنيف هذه المجلات والمؤتمرات (20%)؛ المقالات التي ينشرها الباحثون باسم الجامعة في اختصاصات علوم الأحياء والعلوم الطبيعية حصراً تبعاً لمستوى تصنيف هذه المجلات والمؤتمرات (20%)؛ عدد الباحثين الموجودين في الجامعة (10%).

كما أنّه لتحديد عناصر التقييم، جرى في عام 2018 مثلاً استطلاع رأي أكثر من 3500 أستاذ ينتمون إلى مجالات اختصاصية مختلفة من أفضل 100 جامعة في العالم، ويشغلون مناصب رؤساء إدارات علمية أو عمداء كليات ممن يتمتعون بالنفوذ العلمي والسمعة الجيدة. تم نشر الأسماء والمؤسسات التي يعمل بها جميع المشاركين وأسئلة الاستطلاع دون نشر إجاباتهم. طَرَحَ الاستطلاع مجموعتين من الأسئلة غير الإلزامية. يطالب السؤال الأول المشاركين بإدراج أهم المجلات العلمية ذات التأثير في مواضيعهم التخصصية الأساسية. ويطرح السؤال الثاني على المشاركين تحديد الجوائز الدولية الأكثر تأثيراً وصدقيّة في مواضيعهم التخصصية الأساسية. وقد طُلب من الباحثين في علوم الكمبيوتر والهندسة أيضاً، تسمية مؤتمرات المستوى الأعلى في هذا الموضوع. استناداً إلى إجابات الأساتذة، تم تحديد ترتيب المجلات والمؤتمرات والجوائز كل منها في عدة مستويات، وفقاً لإجابات الأساتذة والمتخصّصين؛ ذلك قبل حساب مؤشرات التقييم تبعاً لتصنيف المؤتمرات والمجلات والجوائز التي حصلت عليها الجامعةُ أو كلياتُها أو باحثوها.

بالنتيجة، طوال سنوات عديدة، بقيت جامعة هارفرد في قمة الجامعات ضمن هذا التصنيف، وهو ما جعله يتعرض لانتقادات واسعة كون منهجية التقييم المتبعة فيه متحيزة لعلوم الأحياء والعلوم الطبيعية وللغة الإنكليزية، بسبب اعتماده في تقييمه، أساساً، على منشورات ومؤتمرات باللغة الإنكليزيّة. كما أن تحيزه الواضح للمؤسسات الأكاديمية التي يعمل بها باحثون حائزون على جائزة نوبل أو حاصلون على جوائز كبرى، يبخس من مكانة الكثير من المؤسسات الأكاديمية والبحثية التي تمتلك أعمالاً وأبحاثاً قيّمة، دون أن يفوز باحثوها بجوائز قد يخضع الحصول عليها في الكثير من الأحيان لاعتبارات ليست بالضرورة علمية فقط. علاوة على أن هذا التصنيف لا يقيس نوعية وجودة التدريس في المؤسسة، ولا تطور الأبحاث في مجالات العلوم الإنسانية أو الهندسية، كما هو الحال بالنسبة لعلوم الأحياء والعلوم الطبيعية التي أفرد لها التصنيف مؤشراً خاصاً بوزن كبير.

تصنيف التايمز[3] (Times Higher Education University Ranking -THE)

قامت دورية (Times Higher Education -THE) بين عامي 2004 و2009 بنشر التصنيف السنويّ للجامعات في العالم بالتعاون مع مؤسسة (Quacquarelli Symonds - QS). يتضمن التصنيف لائحة الـجامعات الـ 200 الأفضل في العالم في منشور ورقيّ تم توزيعه عالميّاً على مختلف الجهات المهتمة بالموضوع، إضافةً إلى إعلان الـ 500 جامعة الأفضل في العالم بوساطة موقع تصنيف (QS) على الوب.

في تشرين الأول/أكتوبر من عام 2009، انفصل التصنيفان (THE) و(QS)، والتحقت دورية (THE) بمؤسسة (Thomson Reuters) لإنشاء لائحة جديدة من 800 جامعة تُعدّ الأفضل للعام الدراسي 2015/2016 والـ 980 الأولى للعام 2016/2017. كما أعلنت (THE) في عام 2010 عن منهجية التصنيف التي اتبعتها والتي تضمنت ثلاثة عشر مؤشرَ أداء مستقلاً، وهو يشكل مضاعفة لمؤشرات الأداء الستة التي كانت معتمدة بين عامي 2004 و2009، عندما كانت (THE) مشتركة مع QS في عملية التصنيف، وقد أدت عملية مناقشة منهجية التصنيف لاحقاً إلى تجميع المعايير المستخدمة في خمسة مؤشرات واسعة لحساب المرتبة النهائية التي تستحقها الجامعة.

يستبعد التصنيف الجامعات التي لا يوجد فيها دراسات جامعية أولى، كما يستبعد الجامعات التي يصنف إنتاجها العلمي بمتوسطه أقل من 150 بحث سنويّاً. وتعتمد المنهجية المتبعة على استبيان يشمل 10323 أكاديميّاً من 133 دولة تنفذه بثماني لغات مؤسسة Ipsos لاستطلاعات الرأي من أجل تقييم مؤشرات تتعلق بالبيئة التدريسية في الجامعات المدروسة (30%)؛ وعدد الأبحاث المنفذة (30%)؛ وسمعة الأبحاث ومرجعيتها (30%)؛ والعلاقات الدولية (7.5%)؛ والعائد من الصناعة (2.5%). وقد صنفت المنهجية المتبعة هارفرد كجامعة تمتلك الاسم الأقوى في العالم، وكانت الجامعات الست الأولى هي: هارفارد، MIT، ستانفورد، كامبريدج، أوكسفورد، يو-سي بيركلي.

تصنيف كيو-إس[4] (Quacquarelli Symonds World University Rankings)

أقلع هذا التصنيف عام 2004 بشكل مشترك مع تصنيف التايمز السابق لينفصل عنه بعد ذلك عام 2009، ويصبح واحداً من التصنيفات الثلاثة الأكثر أهميّة التي تتطرق لترتيب الجامعات في العالم، وحسب مؤسسة Alexa لقياس الولوج إلى الإنترنت، يُعَدُّ هذا التصنيف وموقعه من أكثر التصنيفات مشاهدةً، ويقوم منذ عام 2016 بتصنيف أكثر من 900 جامعة في العالم.

مربع نص: يقوم هذا التصنيف بإصدار تصنيفات فرعية للجامعات حسب المناطق، مع تعديل في أوزان بعض المؤشرات، وإدخال مؤشرات جديدة فيها.يستخدم هذا التصنيف، كغيره، معطيات مرتبطة بحساب مؤشر السمعة الأكاديميّة، ويتم تجميع المعطيات التي تشكل أساس حساب هذا المؤشر، وتقييم قيمها بشكل تبادليّ من قبل أكثر من 75 ألف أكاديمي وباحث، إذ يشكل وزن هذا المؤشر نحو 40% من القيمة الكلية لمرتبة أي جامعة. كما يتم حساب مؤشر السمعة الوظيفية للخريجين عبر تجميع معطيات من 35 ألف شخص يتعاونون مع المؤسسة في مختلف قطاعات العمل لتحديد سمعة خرِّيجي أي جامعة ضمن المؤسسات التي يعمل بها هؤلاء الخريجون، إذ يشكل وزن هذا المؤشر نحو 10% من القيمة الكلية لمرتبة أي جامعة. كما يدخل في حساب التقييم مؤشر يرتبط بالنشرات الدولية للباحثين وبعدد مرات الإشارة في لائحة Scopus للمجلات المحكّمة لباحثين وأكاديميين من الكليات المختلفة، حيث يكون وزن هذا المؤشر 20%، كما يتم إدخال مؤشر يرتبط بعدد الطلاب الكلي وبنسبة أستاذ لطالب في حساب التقييم، ويكون له وزن 20%، إضافةً إلى عدد الفروع الخارجية والاتفاقيات الدولية وعدد الطلاب الأجانب، ويكون لهذا المؤشر وزن يصل إلى 10%.

يقوم هذا التصنيف أيضاً بإصدار تصنيفات فرعية للجامعات حسب المناطق (جامعات أميركا اللاتينية، جامعات شرق آسيا، جامعات المنطقة العربية ... إلخ) مع تعديل في أوزان بعض المؤشرات، وإدخال مؤشرات جديدة فيها. فعلى سبيل المثال، يدخل في تصنيف الجامعات العربية معيار الحضور على الإنترنت بنسبة 10%، ويدخل معيار عدد حاملي شهادة الدكتوراه بالنسبة لعدد العاملين في الجامعة بنسبة 10%، في حين ينخفض وزن مؤشر السمعة الأكاديمية إلى 30%، ومؤشر الإشارات المرجعية في المجلات المحكّمة عالمياً إلى 10%.

كما يصدر التصنيف تقييمات متعلقة بمجال تخصّصات (الهندسة، الطب، العلوم الطبيعية، العلوم الإنسانية، ... إلخ)، إذ ظهر في التصنيف الأخير للجامعات العربية بعض الجامعات اللبنانية والخليجية في مراتب متقدمة، وظهرت تصنيفات لجامعات من مختلف الدول العربية، كالجزائر وتونس والسودان، مقابل عدم ظهور أي جامعة سورية فيه.

تصنيف ويبوميتريكس[5] (Webometrics World University Ranking)

ظهر هذا التصنيف في عام 2004 بإشراف المجلس الوطني الأعلى للبحث العلمي في إسبانيا، ويُعَدُّ من التصنيفات الثانوية عالمياً، نظراً لتثقيله الكبير لمعايير الانفتاح والحضور على الإنترنت، بوساطة مواقع الوب الخاصة بالجامعات، على عكس بقية التصنيفات التي تولي العمل البحثيّ والأكاديميّ والمعايير التقليديّة كنسبة أستاذ لطالب، وعدد المنشورات المحكمة، وعدد المشاريع البحثية، وعدد الجوائز المرموقة، أهمية أكبر، وتعطي نسبة لا تتجاوز عادةً 10% إلى 20% لحجم الحضور والانفتاح على الإنترنت.

مربع نص: تظهر الجامعات السورية فقط في هذا التصنيف في مراتب تتراوح بين 5000 إلى 12000 تبعاً لوجود الجامعة وحضورها على الإنترنت.يعطي التصنيف معلومات عن أكثر من 12 ألف جامعة من بين 20 ألف حول العالم، تبعاً لحضورها على الشبكة العنكبوتية كمحتوى الموقع من المعلومات والمقالات المنشورة، وحضوره بالنسبة لمستخدميه ومقدار ظهورهم للعموم، بوساطة الروابط التي تشير للموقع وحجم الشريحة التي يؤثر فيها.

تجري إعادة النظر في التصنيف مرتين في العام في شهري كانون الثاني/يناير وتموز/يوليو، ورغم اختلاف مؤشراته وأوزانها عن بقية التصنيفات، إلا أن الجامعات الأميركية الكبيرة الحجم تظهر في مقدمة الجامعات في هذا التصنيف، وتأتي الجامعات الفرنسية والألمانية والإيطالية المتوسطة الحجم في المستوى الثاني. وتظهر الجامعات السورية فقط في هذا التصنيف في مراتب تتراوح بين 5000 إلى 12000 تبعاً لوجود الجامعة وحضورها على الإنترنت. كما أن الجامعات الـ 500 الأفضل في العالم في بقية التصنيفات، تحتل المراتب الأولى أيضاً في هذا التصنيف، وهو ما يعطيه صدقيّة معقولة مقارنةً بالبقية، ويجعل منه أداة مقبولة لدراسة وضع الجامعات السورية، كونه التصنيف الوحيد الذي تظهر فيه هذه الجامعات.

 

 

لماذا تختفي الجامعات السورية من التصنيفات العالمية؟

يتضح أن التصنيفات ليست دائماً ذات مرجعية علمية فقط، إذ تتدخل في بعض الأحيان مؤثرات ذات طابع ثقافيٍّ سياسيٍّ، ولكنها بكل الأحوال تبقى أداة تسمح لنا بقياس أداء الجامعات.

للأسف، لا تملك الجامعات السوريّة حالياً أي قدرة على المنافسة في التصنيفات الأكثر أهميّة في العالم، بسبب ضعف الانفتاح على العالم الخارجيّ، وتراجع الظهور على شبكة الإنترنت، وضعف البحث العلمي فيها، وندرة تعاونها مع الجامعات الكبرى، وانحسار عملية النشر باللغة الإنكليزية خاصةً، وعدم وجود باحثين أصحاب جوائز عالمية مرموقة، ناهيك عن ارتفاع أعداد طلاب الجامعات السورية، تحديداً في مدّة الحرب، مقابل انخفاض عدد الأساتذة بسبب النزيف المستمر في كوادر هذه الجامعات على نحو يمنع الحصول على أي نسبة أستاذ/طالب مقبولة.

فإذا ما راجعنا المؤشرات التي يجري على أساسها حساب التقييمات، لوجدنا الإجابة عن السؤال المطروح في عنوان هذه الفقرة، إذ يمكن تقسيم المؤشرات السابقة إلى ثلاثة مستويات:

مستوى أول، مازلنا بعيدين عن تحقيقه، وهو يحتاج إلى تغييرات بنيوية عميقة على مستوى منظومة التعليم العالي السورية، سنستعرضها في القسم الأخير من هذه الدراسة؛

ومستوى ثانٍ ظرفيّ، يرتبط بالتغييرات البنيوية التي نتحدث عنها، ولكنه يرتبط أيضاً بتصويب بعض النشاطات في الجامعات السورية على نحو يساعدها في تحقيق مستوى أفضل من الانفتاح على محيطها أولاً، وعلى العالم ثانياً، وهو أمر رغم أنه مازال صعب التحقيق في بلدٍ يخرج من حربٍ قاسية استمرت ثماني سنوات متواصلة، إلا أنه ممكن في حال توافرت الإرادة وتوافر الدعم اللازم من قبل الجهات الوصائية على التعليم العالي؛ ومستوى ثالث، يمكن العمل عليه حالياً، ويمكن أن يسهم في تخفيف الفجوة بين الواقعِ الحاليّ والمأمول تحقيقه.

يضم المستوى الأول المؤشرات التالية التي تبدو الجامعات السورية بعيدةً عنها تماماً، علماً أن بعض جامعاتنا، كجامعة دمشق بخرِّيجيها المنتشرين في مختلف أنحاء العالم وبعدد الباحثين الموجودين فيها، تحديداً في الاختصاصات العريقة كالطب والقانون، قادرة على أن تنفذ خروقات في هذه المجالات:

 

  1. عدد الخريجين الذين يحملون جائزة نوبل أو جوائز علمية مرموقة؛
  2. نوعية ومستوى الجوائز المقدمة لخريجين من الجامعة؛
  3. عدد الإشارات المرجعية لباحثي الجامعة في منشورات رفيعة المستوى مثل Thomson-Reuters؛
  4. المقالات التي ينشرها الباحثون باسم الجامعة في المجلات والمؤتمرات الرفيعة المستوى تبعاً لمستوى تصنيفها.

 

من ناحية أخرى، يضم المستوى الثاني المؤشرات التي تبدو الجامعات السورية قادرةً على الوصول إليها بجهودٍ محدودة؛ ذلك في حال توافرت العوامل التي تسمح بتطوير عمل وأداء الجامعات أكاديمياً ضمن سياسة شاملة لتطوير التعليم العالي، فالمؤشرات الآتية تحتاج، أساساً، إلى تعميق الانفتاح والتعاون مع الجامعات الأخرى في المنطقة والإقليم أولاً، ومن ثم العالم، وإلى تعميق التواصل مع الخريجين المغتربين في كافة أنحاء العالم، وإلى مدّ جسور التواصل مع سوق العمل والإسهام في تطويره، بالإضافة إلى تحقيق توازن بين سياسة التعريب من ناحية والاهتمام بتعليم اللغات الأجنبية، تحديداً الإنكليزيّة منها، لما لتأثير النشر العلمي باللغة الإنكليزيّة من أهميةٍ وتأثير في ارتفاع مستوى التصنيف وزيادة مرجعية الأبحاث. من هذه النقاط نستذكر:

  1. عدد الفروع الخارجية والاتفاقيات والعلاقات الدولية؛
  2. الإنتاج العلمي بمتوسط لا يقل عن 150 إلى 200 بحث سنوياً؛
  3. سمعة الأبحاث ومرجعيتها؛
  4. البيئة التدريسية في الجامعات؛
  5. عدد الطلاب الكلي ونسبة أستاذ/طالب؛
  6. السمعة الوظيفية للخريجين؛
  7. العائد من الصناعة والعلاقة مع سوق العمل.

أما المستوى الثالث، فيضم المؤشرات التي يمكن الرهان عليها حالياً لتحقيق قفزة معقولة في مستويات التصنيف، وهي مؤشرات تضم:

  1. عدد الباحثين الموجودين في الجامعة وعدد الأبحاث المنفذة؛
  2. الحضور على الإنترنت؛
  3. عدد حاملي شهادة الدكتوراه بالنسبة لعدد العاملين في الجامعة.

 

بالنتيجة، لا بدَّ من الاعتماد على البنود السابقة من أجل اتخاذ إجراءات قصيرة ومتوسطة الأمد لمعالجة ما يمكن معالجته حالياً، وردم الفجوة الموجودة بين مستوى جامعاتنا ومستوى العديد من الجامعات في المنطقة على الأقل.

 

 

ما الإجراءات المتوسطة والقصيرة الأمد لتحسين تصنيف الجامعات السورية؟

يمكن اتخاذ إجراءات متوسطة وقصيرة الأمد لتحسين وضع الجامعات السورية في التصنيفات العالمية عموماً، وفي تصنيف ويبوميتريكس على وجه الخصوص، بحسبانه التصنيف الوحيد الذي تظهر به جامعاتنا، ويمكن الرهان على هذا التحسن في تصنيف ويبوميتريكس كخطوة أولى باتجاه تصنيفات أفضل؛ ذلك بوساطة:

  • إعادة النظر في سياسة الاستيعاب المتبعة في الجامعات الحكومية التقليدية بشكل متدرج؛ ذلك مع توافر أنماط متعددة من التعليم في سورية كالتعليم الموازي والمفتوح والافتراضي والخاص، بهدف إعادة النظر في العدد التراكمي الهائل لأعداد الطلاب في الكليات الجامعية، والسعي للاقتراب قدر المستطاع من نسبة أستاذ/طالب تكون منطقيّة، وهو أمر لا بدَّ من تحقيقه لتأمين حدٍّ أدنى من الاعتمادية في جامعاتنا. فوجود كليات هندسية بأعداد طلاب تتجاوز 6000 طالب وبكادر تدريسي لا يتجاوز 20 عضو هيئة تعليمية، أو وجود أكثر من 50 ألف طالب في كلية واحدة ضمن جامعة هو أمر يتجاوز كل معايير الاعتمادية المقبولة. كما يساعد هذا الأمر في تحسين البيئة التدريسية في الجامعات، وتوفير مناخ مقبول للطالب ضمن المحاضرات والمخابر والتعامل مع الطلاب بصيغ فردية إنسانية عوضاً عن صيغة إدارة الحشود المتبعة حالياً في جامعاتنا.
  • البدء بالخروج من عقلية الحرب التقشفيّة والسماح للجامعات بالتحرك اعتماداً على مواردها الذاتية الكبيرة بهدف زيادة التعاون الدوليّ، تحديداً مع جامعات من الدول الصديقة المتقدمة علمياً، كإيران والهند وروسيا، بوساطة اتفاقيات تعاون تسمح بإنشاء مخابر ومجموعات بحثية في مختلف المجالات، وتسمح بالحصول على إنتاج علميّ مرجعيّ يمكن نشره في مؤتمرات ومجلات علمية محكمة، ما يزيد من مرجعية أعمال الجامعة، كما يمكن الاستفادة من خبرة هذه الدول في دراسة آليات تطوير القطاعات الإنتاجية في سوق العمل السورية، وإيجاد الحلول لتطويرها وربطها بالمؤسسات الأكاديمية.
  • السعي لإعادة الانفتاح على برامج التعاون الأورومتوسطية أو برامج التعاون مع المنظمات الدولية والاهتمام بهذه البرامج ومحتوياتها، ما يعطي للجامعة مرجعية، ويساعد في تعزيز معيار التأثير (Impact).
  • مربع نص: تأتي ضرورة الاهتمام بالرقمنة والأتمتة والتعليم المتمازج والإلكتروني في الجامعات، سعياً لتخفيف العبء اللوجستي على الجامعات، ولجذب اهتمام المتعلم، وإعطائه المعلومة بصيغة حديثة جذابة تتوافق مع ما يحصل عليه في حياته العادية.السعي للانفتاح على المتعلم بوساطة محاولة اللحاق به تقانياً، إذ يتقدم المواطن (الطالب/المتعلم) من فئة الشباب السوريّ، عموماً، بمراحل على مؤسساته في استخدام الأدوات الإلكترونية ووسائل التعلم الحديثة وتقانات المعلومات والاتصالات في سبيل الوصول للمعرفة، يقابل هذا المستوى المتقدّم للمتعلم انكماش المؤسسات التعليمية والكادر التدريسي فيها، ورفضها بناء أي صيغة تواصل مع هذا المتعلم، وإصرارها على مقاربة العملية التعليمية بالصيغة التقليدية. من هنا تأتي ضرورة الاهتمام بالرقمنة والأتمتة والتعليم المتمازج والإلكتروني في الجامعات، سعياً من ناحية لتخفيف العبء اللوجستي على الجامعات، تحديداً في البرامج ذات الطابع النظري، وسعياً من ناحية أخرى لجذب اهتمام المتعلم، وإعطائه المعلومة بصيغة حديثة جذابة تتوافق مع ما يحصل عليه في حياته العادية، عندما يستخدم التقانات الحديثة. لذا لا بد للجامعات لتحقيق هذا الهدف من الاهتمام أولاً بمواقعها وتحويلها لبوابات معلومات، وتقديم خدمات تعليمية بالأسلوب المعياري المتبع حالياً في جامعات العالم، والاهتمام بالمحتوى الرقمي التعليمي وتجديده باستمرار، وحسبانه نقطة التقاء مستمرة بين الطالب والمؤسسة، وهو ما يعزز معايير الانفتاح (Openess).
  • نشر الإنتاج العلمي والأكاديمي للجامعة بشكل مفتوح على الموقع، وهو ما يعزز معيار الحضور (Presence) على الإنترنت. إذ يتجه العالم اليوم نحو مجتمع المعرفة ونحو اقتصاد المعرفة، وهما مصطلحان يعنيان الانفتاح وتأكيد مبدأ بسيط يحكم المؤسسات الأكاديمية والعلمية: (يجب أن تكون المعرفة مجانية وفي متناول يد الجميع، أما الاعتمادية فتخضع لاعتبارات أكاديمية واقتصادية، كأن تكون مدفوعة الثمن وتخضع لاختبارات صارمة). من هذا المنطلق، بدأت جامعات كثيرة بنشر إنتاجها العلمي بصيغ المشاع المبدع، وبدأت بنشر مناهجها الدراسية مجاناً لطلابها ولغير طلابها، ويُعَدُّ مشروع المصادر التعليمية المفتوحة لمعهد MIT الأميركي، المبادرة الأولى في هذا المجال، إذ تُعَدُّ مثل هذه الخطوات (تحديداً في المؤسسات الأكاديمية التي تسعى لإثبات وجودها)، خطوات حيوية، لأنها تسمح بإعطاء صورة واضحة عن المستوى العلميّ والأكاديميّ للمؤسسة.

وتتمتع الجامعات السورية في هذا المجال بأفضلية مهمة تتمثل في كونها الجامعات الوحيدة تقريباً في المنطقة التي اعتمدت اللغة العربية كلغة تدريس وبحث علمي في جامعاتها، وهو ما يجعلها قادرة، بفعل الاهتمام بنشر إنتاجها العلمي بشكل مفتوح، على إحداث خرق في مجال إغناء المحتوى الرقميّ العربيّ المعرفيّ العلميّ والتعليميّ، وإظهار ريادتها في هذا المضمار، وهو أمر له أهميته الكبيرة؛ ذلك أنه سيسمح لها بالوصول إلى الكثير من الشباب العرب بلغتهم الأم، وإيصال المعرفة لهم وهو ما يرفع من مكانة جامعاتنا على المستوى الإقليمي.

  • تشجيع النشر العلميّ باللغة الإنكليزية في مختلف أنواع المجلات المحكّمة ومن مختلف المستويات لنشر اسم الجامعة. كما تحتاج الجامعات السورية إلى تحويل مجلاتها إلى مجلات معتمدة عالمياً، ومن ثم وضعها بصيغة إلكترونية مفتوحة على مواقع خاصة بها، تسمح بضمان ظهورها للعالم. فمجلات الجامعات السورية حالياً هي مجلات "مخفية" محبوسة ورقياً في أقبية هذه الجامعات، أو منشورة إلكترونياً على مواقع مجهولة! ولا توجد أي معلومة واضحة تسمح للباحث بالحصول على نسخ المقالات المنشورة في هذه المجلات. إن تشجيع النشر باللغة الإنكليزية في المجلات المحكّمة العالمية، وتحويل مجلات الجامعات السورية إلى مجلات محكمة ومنشورة ومعتمدة عالمياً، سيسمح للأبحاث المحلية المنشورة فيها، أن تظهر وتحتسب كأبحاث ذات مرجعية عند تقييم الجامعة، وهو ما يساعد في تعزيز معيار التميز (Excellence).

 

 

ما الإجراءات البعيدة الأمد التي يجب اتخاذها؟

هناك تحديات يفرضها واقع التعليم العالي في سورية، وهي تحديات ناجمة عن خلل واضح في منظومة التعليم العالي، تجعل سورية مضطرة لمواجهته ومعالجته بالإمكانات المتوافرة؛ ذلك في حال أردنا أن ننفذ عملية تطوير شاملة لجامعاتنا تجعلها منافسة إقليمياً على الأقل قبل أن نسعى لجعلها منافسة عالمياً. إذ لا يمكن الاقتراب من الكثير من المؤشرات والمعايير المذكورة سابقاً دون تنفيذ تغييرات جوهرية تشمل سياسات التعليم العالي، فتراجع الجامعات السورية مقارنة بجامعات المنطقة وجامعات العالم هو (نتيجة) يمكن معالجتها فقط عندما نعالج مسبباتها، وإلا سنكون كمن يبحث عن القطة السوداء في الغرفة المضيئة، وهو يعلم أنها موجودة في الغرفة المظلمة.

نجمل التوجهات والتدابير التي يتوجب اتخاذها لمعالجة وضع التعليم العالي في سورية في خدمة رفع مستوى الجامعات السورية، وبالتالي رفع مستوى تصنيفها عالمياً، بأربعة توجهات يمكن استنتاجها بملاحظة واقع التعليم عن كثب، والعمل داخل جامعاتنا ومنظومتنا التعليمية، وهي تتلخص بـ:

  1. تطوير سياسة الاستيعاب؛
  2. تعريف الهدف من كل نمط من أنماط التعليم بهدف تطوير سياسة الاستيعاب؛
  3. تعديل آليات العمل العلميّ والإداريّ والماليّ للجامعات؛
  4. إنقاذ التعليم العالي من التدخلات الشعبوية ومنحه استقلالية حقيقية.

 

1.تطوير سياسة الاستيعاب

يبدو التعليم العالي في سورية أسيراً لسياسة الاستيعاب الجامعيّ التي تتدخل فيها أعلى السلطات التنفيذية. فسياسة الاستيعاب التي سعت يوماً إلى تأمين فرص التعليم العالي المجاني لأكبر شريحة ممكنة في المجتمع السوري، باتت اليوم عائقاً أمام تقدم التعليم العالي في سورية، متسببةً بوجود عدد تراكمي هائل للطلاب في الكليات الجامعية، ما أبعدَ جامعاتنا عن نسبة أستاذ/طالب أن تكون منطقية. فوجود كليات هندسية تصل فيها هذه النسبة إلى أستاذ لكل 1000 طالب، أو كليات يقدر عدد طلابها بعشرات الآلاف، يعطي انطباعاً فورياً بعدم جدية التعليم. إذن، كيف يمكن أن نقنع أية جهة تمنح الاعتمادية بأن أستاذاً واحداً قادرٌ على تصحيح 1000 ورقة امتحانية بطريقةٍ صحيحة؟ أو قادرٌ على الإشراف الأكاديمي على 1000 طالب في فصل دراسي واحد! ناهيك عن السؤال الرئيس الذي يمكن طرحه والذي يصب في تعريف وتقييم مؤشر ارتباط الجامعة بسوق العمل: ما حاجة سورية الحقيقية لكل هذا العدد من الخريجين في اختصاص الآداب أو الحقوق؟

مربع نص: اقتصاد المعرفة القائم على العلم والمعرفة يفرض تحدياً يتمثل في ضرورة ربط الجامعات بسوق العمل لتكون مخرجاتها ذات عائدٍ اقتصادي وليست عبئاً على الدول.صحيح أن هذه السياسة أدّت دوراً إيجابياً في بناء أجيال من المتعلمين المنتمين إلى الشرائح المتوسطة والفقيرة من المجتمع السوري، إلا أن حصرها بالمنطق السابق، وفصلها عن الاحتياجات الاقتصادية الحقيقية لسوق العمل وللمجتمع، جعلها تنحرف عن مسارها، محولة الجامعات إلى ماكينات لإنتاج عاطلين عن العمل، أو ماكينات لإنتاج خريجين بمستوياتٍ منخفضة، يملؤون شواغر الوظائف الحكومية، لينفذوا أعمالاً لا تَمُتْ بصلة لتأهيلهم العلمي ضمن منظومة بطالةٍ مقنّعة. يكفي للدلالة على ذلك، دراسة عدد الخريجين من حملة شهادة الحقوق من مختلف الجامعات السورية التقليدية، ومن التعليم المفتوح والافتراضي، ومقارنتها بالاحتياجات الفعلية لسوق العمل، لنعرف حجم المعضلة التي وقعنا فيها، والتي تصب بنتيجتها بشكل مباشر في موضوعنا الخاص بتصنيف الجامعات السورية، لأن هذا الوضع يخرج جامعاتنا مباشرةً من أي إمكانية حصول على تقييم مقبول لمؤشرات الجودة الأكاديمية والتدريسية ومؤشرات الارتباط بسوق العمل.

باختصار، اقتصاد المعرفة القائم على العلم والمعرفة يفرض تحدياً يتمثل في ضرورة ربط الجامعات بسوق العمل لتكون مخرجاتها ذات عائدٍ اقتصادي وليست عبئاً على الدول.

2.تعريف الهدف من كل نمط من أنماط التعليم للإسهام في تطوير سياسة الاستيعاب

تبدو منظومة التعليم العالي في سورية، ظاهريّاً، منظومةً متنوعة من ناحية طبيعتها (مدفوعة/مجانية) ومن ناحية مدخلاتها (الشريحة العمرية والاجتماعية التي تتوجه إليها) ويمكن لهذا التنوع الظاهري بوجود تعليم افتراضي ومفتوح، إضافةً إلى التعليم التقليدي المدفوع بشقيه الموازي والخاص، أن يخدم أية تعديلات يمكن أن نجريها على سياسة الاستيعاب من أجل إيجاد توزع أفضل لطلابنا في الفروع الجامعية يتناسب مع سوق العمل، ويسمح بتحقيق حد أدنى من الجودة التعليمية.

للأسف، لم تتم حتى الآن الاستفادة من هذا التنوع. على العكس من ذلك، أدى التنوع إلى نشوء "خلطة" غير واضحة المعالم، نجمت عن دخول التعليم الخاص والموازي والافتراضي والمفتوح إلى منظومة التعليم العالي واعتمادهم كأنماط من التعليم المدفوع الثمن الذي شكّل موارد جيدة للجامعات والمؤسسات الأكاديمية ولأعضاء الهيئة الإدارية والتدريسية، دون أن يكون واضحاً تعريف هدف ودور كل نمط من هذه الأنماط، وما سبب وجوده واعتماده، وما دوره كمحركٍ هام من محركات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، تحديداً مع تكرار الاختصاصات الجامعية التي يقدمها التعليم التقليدي، وعدم نشوء اختصاصات جديدة تستفيد من مرونة أنظمة التعلم والتعليم الحديثة، وتتوافق مع التوجُّهات العالمية.

لذا صار بقاء هذه الأنماط من التعليم –رغم عدم وضوح الهدف منها وكلّ العثرات التي تمر بها وتكرارها (بمستوى أقل جودة) تجارب التعليم التقليدي– ضروريّاً من الناحية المصلحية لكل أصحاب المصلحة من دولة وأساتذة وطلاب، لكونها أداة استفادة اقتصادية واجتماعية ملحّة لهم، دون أن تحقق النتائج المرجوة منها.

لذا، يبدو ضرورياً للارتقاء بالجامعات السورية باتجاه مستويات تصنيف عالية، وإعادة الثقة بمنظومة التعليم العالي السورية، تحديد دور كل نمط من أنماط التعليم في عملية التنمية وارتباطه بسوق العمل، وإعادة النظر في مدخلاته، وإيجاد حلول تضمن الحصول على مخرجات متكافئة (خريجون) تلبي أهداف تأهيلها، انطلاقاً من مدخلات متباينة وغير متكافئة (طلاب)، وإعادة النظر في توجهات الأنماط المختلفة ضمن سياسة استيعاب واحدة، تحدد المسار الخاص بكل نمط من أنماط التعليم وأنواع البرامج التي يحتضنها، بما يضمن تكاملاً فيما بينها، عوضاً عن التكرار والاجترار تارةً في التعليم التقليديّ، وتارةً في المفتوح وتارةً في الافتراضي.

3.تطوير آليات العمل العلمي والإداري والمالي في الجامعات

لا يمكن للعمل العلمي أن يجريَ بصورةٍ صحيحة دون استقلالية قرار إداريٍّ وماليٍّ، ودون إدارة بالأهداف. ولا يمكن أن نأمل بإدارة بالأهداف دون منظومة قوانين تضمن الاستقلالية الإدارية والمالية الحقيقية للجامعات. كيف يمكن أن نتكلم على منظومة بحث علمي لا يمكن تمويل الكفاءة البشرية فيها بصورة مقبولة؟ كيف يمكن أن نتحدث عن تفرغ علمي لباحثين غير قادرين ماديّاً على التفرغ الحقيقي لأعمالهم؟ كيف يمكن أن نتحدث عن نشر علميّ في مؤتمرات مربع نص: يجب أن توفر الاستقلالية الحقيقية للمؤسسات العلمية والتعليمية إمكانية تمويل أعمالها وأجور عامليها ومراكز أبحاثها خارج إطار المنظومة التقليدية للإدارة والمالية العامة.ومجلات محكّمة لباحث تكون تكلفة مشاركته في هذا المؤتمر أو المجلة موازية لدخل سنة كاملة؟ كيف يمكن أن نتحدث عن نزيف كوادر في منظومة تعامل كوادر عالية بمستويات علمية متطورة بصيغة أقرب لقانون العاملين الموحّد، وفي ظل قانون تنظيم جامعات أصبح أقرب للقانون الفارغ من محتواه وبات بعيداً عن تحقيق أهدافه؟

إذن، لا يمكن الكلام على مستويات وتصنيفات وارتقاء علمي في منظومة عالمية عصبها الاقتصاد والمال وجذب الكوادر، في ظل سياسة تقشفية لا تسمح حتى بالاستفادة من الحدّ الأدنى المتوافر للجامعات من أجل البناء عليه.

باختصار، تعاني الجامعات ومراكز الأبحاث السورية، من استقلالية إدارية ومالية شكلية مضمونها فارغ. إذ يجب أن توفر الاستقلالية الحقيقية للمؤسسات العلمية والتعليمية إمكانية تمويل أعمالها وأجور عامليها ومراكز أبحاثها خارج إطار المنظومة التقليدية للإدارة والمالية العامة، وهو أمر غير متحقق. كما يجب أن يتوافر لهذه المؤسسات قانونٍ خاص (بالمؤسسات ذات الطابع العلمي) يسمح لها باستغلال مواردها الذاتية بشكلٍ فعال للخروج من آليات التعامل الإدارية والمالية والتعاقدية التقليدية باتجاه آليات أكثر مرونةً وانفتاحاً، إذ لا يعقل لمؤسسة علمية أن تتعاقد على أعمال ذات طابع بحثي أو نوعي مع خبراء بالمنطق نفسه الذي تتعاقد به مؤسسة عامة على توريد تجهيزات أو مفروشات مع متعهد، أو بمنطق قانون العاملين الموحّد نفسه، على أن يترافق كل ما سبق مع محاسبة المؤسسات الأكاديمية على تحقيق أهدافها ضمن خطط ثلثية أو خمسية، وعلى النتائج والتصنيفات التي تحققها وفقاً لمعايير الاعتمادية الوطنية والإقليمية والدولية.

في الحقيقة، تكمن المشكلة الجوهريّة في ضرورة إيجاد حلّ (جذري وثوري)، لمنظومة التعليم العالي السورية عموماً التي تعاملت ومنذ عقود طويلة بمنطق (الشح والتقتير) مع إدارة المؤسسات الأكاديمية التي يفترض أنها اليوم (قاطرة الاقتصاد السوريّ)، ومنعتها من الحصول على استقلالية إدارية ومالية حقيقية بعيداً عن التدخلات، فلم تسمح لها لا بتمويل أعمالها وأبحاثها على نحو مستقل، ولا باستثمار عائداتها، ولا برفع أجور عامليها، ولا باستغلال مواردها الذاتية بشكلٍ فعال ومستقل يعتمد على إنتاجيتها العلمية والأكاديمية والبحثية للخروج باتجاه آليات أكثر مرونةً وانفتاحاً، تتناسب مع روح العصر ومع اقتصاد المعرفة.

4.إنقاذ التعليم العالي من التدخلات الشعبوية

في جميع أنحاء العالم، تمتلك الجامعات والمؤسسات الأكاديمية بمجالسها حصانةً تستند إلى كون أعضائها يشكلون مرجعيات أكاديمية ومعنوية ومهنية واجتماعية وأخلاقية، وهو ما يسمح لهذه المؤسسات أن ترسم سياسات طويلة الأمد وفق تخطيط استراتيجي مدروس بعيد عن التدخلات الشعبوية، وتسمح لإداراتها باعتماد أساليب علمية تضمن جودة التعليم وصدقيّة مخرجاتها دون هذه التدخلات، وضمن سياسة عامة على المستوى الوطني تُعنى بالاستراتيجيات دون التدخل بالخطط والآليات التنفيذية.

مربع نص: منظومة التعليم السورية تحولت في الآونة الأخيرة إلى منظومة سلعية تعاني من فوضى لا يستهان بها؛ ذلك بسبب التواطؤ بين كافة الأطراف التي تعمل ضمن هذه المنظومة من إدارات علمية وأكاديميين وصولاً إلى الطلاب.يؤثر هذا الأمر تأثيراً مباشراً في سمعة الجامعات، والتي يتأثر تصنيفها ضمن المؤشرات المرتبطة بالسمعة بمستوى اللغط الذي يثار حول آليات عملها، وهو ما يجعل هذه المؤشرات تتراجع بشكل كبير على مستوى الجامعات السورية.

يخطئ من يعتقد أن الكلام الذي تردد عن (مطالب شعبية) خاصة بمراسيم الدورات الإضافية أو الخاصة بإلغاء الامتحانات الوطنية الموحدة، أو اللغط المثار حول قرارات إحداث السنوات التحضيرية في الكليات الطبية، أو تبديل أنماط الأسئلة الواردة في الامتحانات، لم يؤثر في سمعة الجامعات السورية وسمعة مخرجاتها.

يعود السبب في ذلك إلى أن منظومة التعليم السورية تحولت في الآونة الأخيرة إلى منظومة سلعية تعاني من فوضى لا يستهان بها؛ ذلك بسبب التواطؤ بين كافة الأطراف التي تعمل ضمن هذه المنظومة من إدارات علمية وأكاديميين وصولاً إلى الطلاب: فتأثير الحرب وما رافقها من هجرة للكثير من الخبرات خارج سورية، وانخفاض المستوى المعيشي للكادر الإداري والأكاديمي الذي يعمل في منظومة التعليم، واستشراء الفساد بكل أصنافه فيه، ووجود طلب شديد على التعليم لا كقيمة علمية، وإنما كقيمة اجتماعية توفرها الشهادة التي يحصل عليها الطالب، كل ما سبق، جعل منظومة التعليم عرضةً للتجاذبات، وأخرجها من سياقها الصارم المضبوط عادةً بمرجعيات وآليات علمية وأكاديمية واضحة،  فألحق ذلك إساءة كبيرة بسمعتها.

باختصار، إذا كنا نريد إبعاد السياسات التعليمية عن الشعبوية التي اتسمت بها طوال سنوات عديدة، وأن نقنع الطالب بأن (الشهادة التي يتدخل الطالب في آليات صناعتها وتقييمها وإقرارها، هي شهادة لا قيمة لها)، وأن الحق الأساس للطالب يتمحور حول حصوله على الخدمة التعليمية بأجود المعايير، في حين أن القول الفصل في آليات تقييمه يعود للمرجعيات العلمية المسؤولة عن العملية الأكاديمية بكل جوانبها، فينبغي علينا أولاً وأخيراً أن نعيد لهذا الطالب ثقته بهذه المرجعيات، عن طريق إعطائها قيمتها الحقيقية، وتحصينها على كافة المستويات، بتوفير كل مقومات نجاحها العلمية والمالية والإدارية. وهو أمر سيسهم مباشرة في تعزيز صورة الجامعات السورية، سواء أكان ذلك على مستوى المنطقة، أم على المستوى العالمي، مع التأكيد أن هذا الأمر ليس ثانوياً، وأن أي استبيان حالي لقياس مستوى الثقة بالجامعات السورية (من خارج سورية) سيؤدي بالتأكيد إلى نتائج لن تعجبنا.

 

 

خاتمة

يتضح أن الجامعات السورية الخاصة والعامة تفتقد، كمؤسسات أكاديمية، لأي وجود حقيقي على الساحة الدولية، في حين أن خريجيها ينتشرون في الكثير من الجامعات الغربية والشرقية، ويحققون إنجازاتٍ فردية مميزة عندما يخرجون منها إلى مؤسسات أكاديمية خارجية، وهو ما يؤكد أن المشكلة الحقيقية تكمن في الواقع الإداري والأكاديمي لجامعاتنا. وبما أن الوجود الحقيقي للمؤسسات الجامعية اليوم بات ينعكس في عملية تصنيفها ضمن مختلف منظومات التصنيف الأكاديمية، ورغم وجود انتقادات مفادها أنَّ منظومات التصنيف ليست ذات مرجعية علمية فقط، وإنما تتعداها إلى جوانب تتعلق بحجم الجامعات وعراقتها ونفوذها، إلا أن الاهتمام بالتعليم وبالبحث العلمي من قبل الأمم المتحدة، ومن قبل النسبة الغالبة من الدول بحسبانه الركيزة الأساسية في اقتصاد المعرفة، وأحد مكونات خطط التنمية المستدامة، والعناية بروح المنافسة التي تولدها عملية التصنيف، أدّيا إلى إيلاء الكثير من الاهتمام للترتيب العالمي والتصنيفات، لا سيما الأكثر تأثيراً، بحسبان أن هذه التصنيفات هي أداة تسمح لنا بقياس أداء الجامعات.

للأسف، لا تملك الجامعات السورية حالياً أية قدرة على المنافسة في التصنيفات الأكثر أهميّة في العالم، بسبب ضعف الانفتاح، وتراجع البحث العلمي فيها، وندرة تعاونها مع الجامعات الكبرى، وانحسار عملية النشر باللغة الأم وباللغة الإنكليزية. إلا أن بعض الإجراءات الإسعافية السريعة، كزيادة مشاريع التعاون مع جامعات صديقة خارج سورية، وتعزيز الانفتاح والنشر باللغات الأجنبية بعامّة، والإنكليزية بخاصّة، وتحويل المجلات المحلية للجامعات إلى مجلات عالمية معتمدة يمكن أن يسمح بتحسين صورة وظهور الجامعات السورية إقليمياً وعالمياً، إلا أن التغيير الأساس وعلى المدى البعيد يجب أن ينبع من فكر جديد ورؤيا جديدة للتعليم العالي في سورية، تسمح بخروجه من عنق الزجاجة الموجود فيها والناجمة عن تطبيق سياسات تعود إلى القرن الماضي، ولا تتناسب مع عصر اقتصاد المعرفة الرقميّ الحاليّ.

 

 

 


[1] Ricardo Rodriguez, John Warmerdam and Claude Emmanuel Triomph, "An analysis and evaluation of the methods used and results achieved”, European Parliament, 2010. http://www.europarl.europa.eu/document/activities/cont/201107/20110718ATT24270/20110718ATT24270EN.pdf

[2] "ShanghaiRanking Academic Excellence Survey 2018 Methodology”, shanghai ranking, http://www.shanghairanking.com/subject-survey/survey-methodology-2018.html

[3] "World University Rankings 2018 methodology”, times higher education, 29 August 2017. https://www.timeshighereducation.com/world-university-rankings/methodology-world-university-rankings-2018#survey-answer

[4] QS World University Rankings, https://www.topuniversities.com/qs-world-university-rankings/methodology

[5] Ranking Web of Universities, http://www.webometrics.info/en/Methodology

د. خليل عجمي _ مركز دمشق للأبحاث والدراسات مِداد - سيريا ديلي نيوز


التعليقات