لكُلّ زمانٍ مِحْنة تَمرُّ على أهله؛ ولكُلّ زمانٍ فِتْنه على يدِ المُفْسدين في الأرض؛ ولكلّ زمانٍ رجال عاهدوا الله فَصَدَقوا وما بَدّلوا تبديلا.. وفي هذا العصر حاولَ أهل الباطلِ طَمْس ملامح الإنسانية ونشر الفساد والدّمار والتَّضْليل بكلِّ السُّبل ولاسيما استغلال عواطف بني البشَرْ دينياً وجرْفَهُمْ إلى هاويةِ الضّلال والكفر والتَّطَرُف والإجرام باسم الدّين وباسم الله.. وما مرَّ على وطننا آلمَنا وأوجَعنا حدَّ الموت وبآنٍ واحد هناك ما واسانا وبلْسَمَ جِراحَنا ودعانا للاعتزاز وفخر الانتماء لوطنٍ صمَدَ أمامَ أشرسَ حربٍ كونيّة هدفها دماره وانهياره وقتله؛ وكلّ هذا الصمود والقوة كانت على يد أبطال هذا الزّمان مِمَنْ استبسلوا في الدفاع عنه سواء بالسلاح أو بالفِكْر والصّلاح.. وأنا كمُغْتَرب سوري أفخَرُ بانتمائي لوطنِ الإباء والكرامة؛ وأكْبَرُ بتضحياتِ أخوتي في الوطن وصمودهم وتَحديّهم؛ وأعتزُّ بمواقفِ شُرَفائه.. وبعد زياراتٍ متعددة إلى وطني أكتشفُ أنّ كلَّ مانراهُ ونسمعهُ عن أحدِ عُظَماء هذا الوطن أقلّ بكثيرٍ ممّا نَلْمسهُ ونَشْعره بتواصلنا المباشرمعهم.. وكلمةُ حقٍ يَهْتزُّ وجداني لتسجيلها عن سماحةِ المفتي محمد بدر الدّين حسون، الرَجُل الذي قلَّ نظيرَهُ بينَ رجالاتِ هذا العصر ومُفَكِريه؛ الإنسان الذي قلَبَ الموازين وأحرَقَ المؤامرة ووازن بين إنسانيته ودينه وإيمانه.. هذا العظيم الذي أدْمَعَ عيني مرّتين، في المرة الأولى: حين سَمِعتهُ في خِطابه الموجَّه إلى الشعب السوري بعدّ استشهاد ولده المغفورله سارية رحمه الله؛ وقد اغرَورَقَتْ عيناه بدموعِ الألم العظيم.. ألم الظُلم والقَهْر والضَّلال الذي أوْدَى بحياةِ فلْذَةِ كَبدهِ على يد الكَفَرة والقَتلة.. ألم وطن يُذبَحُ بسيوفِ الغَدْر والخيانة والكُفر.. ألم إنسانيةٍ تُقتَلُ باسم الدّين وباسم الله.. والدين والله براءٌ ممّا يدّعون ويفعلون.. هذا مارأيتهُ وشعرتُ به لأقفَ عند هذا الأب المَكْلُوم بقَلْبهِ الطّاهر؛ النازف حُزْناً وألماً على أبنائهِ في الوطن.. أبنائهِ في الإنسانية.. لأراه في ذاك الموقف أباً للبشريّة كلّها ويبكيها ببكائه على ولده.. وكانت عبارته: ... بأيّ ذَنْبٍ يُقْتَلونْ؟؟ ... تَصْدَحُ في وجداني وتؤلمني لأُرَدّدها في نفسي كلّما رأيتُ مشاهدَ القتلِ والذّبحِ التي تُزْهِقُ حياةَ الأبرياء بلا رحمة.. حينها خالجني شعوراً عارماً بمَعْرفة هذا الإنسان أكثر؛ لأبحث عنهُ وأقرأ ما أمْكَنني عن مسيرته؛ وأتابعه بكلّ أقواله وأفعاله لما رأيته فيه من صفات لاتشرحها أيّة كلمات.. وكتبتُ وقتها عن موقفه ونُبله وشجاعته بوَجَلٍ واعتزاز به كمُمَثل لرِجَال الدّين المُعْتدلين في وطني.. وكإنسان في هذا الزّمن القاسي؛ ومن وقتها وأنا أتمنى لقاءَ سَماحَتِه وأتوقُ إلى شَرَفِ معرفته عن قُرْب؛ والحديث معه وسماع حديثه والاتّعاظ به وبفكرِهِ واتِّزانه.. وحالفني الحظ بلقاء هذه الهامة الوطنية الدّينية الإنسانية المُعْتدلة لأول مرّة في كانون الأول عام 2015مع عدد من المغتربين السوريين وصحفيين وسويديين وكان سماحَته يفيضُ بالمحبّة والتّواضع ويتألّق بالهَيْبة والاعتدال والرجولة لأشعر في مَجْلِسهِ بالأمان والسّلام والرّحْمة تَعمُّ أرْجَاءَ الشَّام.. وفي زيارتي الأخيرة التقَيْته مرَّتَيْن مع وفد المُغتربين السّوريين وأربعَ مرات بشكلٍ شَخْصي؛ وفي كلِّ لقاء كنْتُ أكتشفه أكثر وأعرفه أكثر؛ وكان ماعرفته عنه من مواقفه الوطنية والإنسانية واحتضانه لجميع أبناء الوطن وحرصه على وحْدَتهم وتعاضُدِهم تحتَ رايةِ الوطن الواحد الموحد، وعرفته رَجُل الدّين المعتدل بفِكْره المُتَّزِن البعيد عن كلّ أشكال التّعصب والجمود العقلي الذي يودي بحياة الأوطان ويُقهقر تقدمها، عرفته الكريم الذي يستقبل أبناء سورية داخلَ وخارجَ الوطن بكلّ مسؤولية دينية ووطنية ويعمل مابوسعه لإنقاذ سورية من بَراثنِ الفتنة ومخالب الغدر والخيانه، واستعداده للخَوْض في كلّ عمل ونشاط يرفع من شأن الوطن وينصر ناصريه ويحمله إلى برِّ الأمان والسلام.. وكل ماعرفته عنه ولمَسْته بشخصه وقرأته بوجدانه وشهدته منه من قولٍ وفعلٍ إلّا أنّه في لحظات ينتابني شعور بأنَّ ماتكتنزهُ روح هذا الإنسان أكبر وأكثر!!.. لأكتشف أنني مهما قلتُ عنه ومهما كتبت يبقى ثمّةَ شيء لايمكنني ترجمته بحروف ولا بقول؛ شيء لم تُنْصِفه إلّا.. دموعَ عيني.. التي كانت للمَرّة الثانية بمَوقفٍ ثاني لهذا الإنسان العظيم؛ وإنما هذه المرّة كنْتُ بِقُربه ومعه وفي حَضْرَتِه.. وهنا شَعرْتُ بأنني أُحبُّهُ وأُجّله بقَدرِ ما يَحْمله في قلبه وعقله وضميره من حُبٍّ وإجلالٍ للوطن ولأبنائه بكافة أديانهم وانتماءاتهم وأطيافهم، وبِقَدر مايحمل على عاتقه من مسؤولية رَجُل الدّين الرَّحيم الذّي يُكْمِلُ رسالةَ الله إلى خَلْقِه على هدى السَّلف الصّالح والأنبياء عليهم السّلام.. رسالة الرّحمة والسّلام والإيمان، وبأنّ المؤمنين أخوةٌ رغمَ اختلافِ أديانهم لأنّ الدّين لله والوطن للجميع.. ودّعْتُ وطني أحْمِلُ معي الأملَ والإيمانَ بأنّ سورية تنتصر؛ وتَنْفضُ عنها جراحَ الحرب بيدٍ من قوة ويدٍ من رحمة.. سورية صمدَتْ وستُحَلّقُ في فضاءِ المَجْد بهمّةِ قيادتها وجيشها وعُظَمائها.. وكلمتي الأخيرة: سماحة مفتي الجمهورية محمد بدر الدّين حسون.. أنا السّوري يعقوب مراد لو لَمْ أؤمن بمَسيحيّتي وأنْتَ قُلتْ: كُلّنا كنّا مسيحيين قبلَ الإسلام.. لكُنْتُ أسلَمْتُ على يَديْك.. لك مودتي واحترامي .

سيريا ديلي نيوز - . بقلم : أ . يعقوب مراد - السويد .


التعليقات