إذا أردت أن تعرف المستقبل الاقتصادي لأي بلد ما عليك إلا أن تعرف نسبة الأموال التي يتم ادخارها من قبل شعب هذا البلد savings، لأنها يفترض أن تدخل لاحقاً في حلقة الاستثمار فيه وبالتالي تساهم بالازدهار الاقتصادي لهذا البلد. أما البلدان التي اعتاد أهلها الإنفاق وعدم الادّخار، فإن تراكمات من الأخطاء البنيوية ستؤثر على اقتصاده وستؤدي في المستقبل إلى ارتفاع كلفة الإقراض فيه. وكما يحتاج الماء إلى وعاء لحفظه، فإن الادخار يحتاج إلى وعاء حافظ لقيمته، وهذا الوعاء إما أن تقوم العملة المحلية بتوفيره أو تعجز عن ذلك، فيضطر المدخر للحفاظ على قيمة مدخراته إلى اللجوء إلى أساليب معروفة للحفاظ على قيمة مدخراته كشرائه الذهب أو العقار أو اللجوء إلى ظل عملات أخرى مستقرة. وإن حرص أي مواطن في الحفاظ على قيمة مدخراته حق طبيعي ولا علاقة لهذا بوطنيته، فلا يلوم أحد شخصاً إذا نقل الماء من وعاء مثقوب إلى وعاء سليم، فالعملة التي لا تحافظ على قيمة المدخرات فيها هي كالوعاء المثقوب. في هذه الدراسة سنكشف أسرار ارتفاع وهبوط الليرة السورية وسياسة الشائعات الخلاقة، في بداية الأزمة السورية قابلت طبيباً، وكان يشتم ويكيل التهم إلى كل من يشتري دولارات (التي كانت معروضة بسعر تشجيعي) ولما سألته ماذا تفعل بالفائض من مدخراتك بالليرة السورية أجاب بعفوية لا احتفظ بسيولة بل اشتري عقارات! فهو أحل لنفسه الخروج من السيولة بشكل ما، وحرّم على غيره استخدام أوعية أخرى لحفظ قيمة مدّخراتهم. ومن الغريب أن أكثر الناس في علو الصوت بإلصاق التهم على الآخرين، هم غالباً من تسبّبوا بتقصيرهم إلى وصولنا إلى هنا.. فكيف وصلنا إلى هنا؟ بتاريخ 7 آذار (مارس) ارتفع سعر الدولار مقابل الليرة السورية متجاوزاً الـ 95 ليرة سورية، وهي ضعف ما كانت عليه الليرة السورية في أوائل عام 2010، حين كان الدولار يساوي 47.5 ليرة، أي أن الدولار ارتفع منذ ذلك الحين 100%. لقد تبخّر في ذلك اليوم نصف مدّخرات كل السوريين بالليرة السورية. لم يع الكثير من الناس بل أجزم أنّه حتى بعض أعضاء الفريق الاقتصادي الذي أنفق الأشهر الأخيرة في مماحكات وتبادل التهم والتنصل من المسؤولية ربما لم يدرك تماماً أن هناك حدثاً جللاً حصل. لقد قصم الوقت الضائع في المماحكات ظهر الليرة السورية وأفقدها نصف قيمتها. ماذا يعني أن الدولار ارتفع 100% أمام الليرة؟ ببساطة يعني أن الليرة الحالية أصبحت تساوي نصف الليرة السابقة. ويحاول البعض أن يتغاضى عن حقيقة مهمة، وهي أن الضرر الأعظمي قد حصل تماماً كما يحصل حين وقوع زلزال، فالهزة الأولى هي الأقوى، ثم تليها هزات ارتدادية لن تكون مطلقاً بقوة الهزة الأولى نفسها. وهذا يعني بعد فقدان السوريين لنصف قيمة مدّخراتهم لم يبق لهم إلا النصف الآخر. فبينما أدت الخمسين الليرة الأولى التي ارتفع فيها الدولار أمام الليرة لخسارتها 50% من قيمتها الأصلية، فإن الخمسين الثانية لن تخسرها إلا 16.6%، بينما الخمسين الليرة الثالثة ستخسرها 8.4% وأما الخمسين الليرة الرابعة فستخسرها فقط 5% من قيمتها. نظرة موضوعية: لاريب أن الأزمة السياسية والأمنية التي تعصف في البلاد كان لها دور كبير. فلقد خسرت البلد الكثير من موارد القطع الأجنبي. فكان القطاع السياحي يؤمن دخلاً من الدولارات قدر بـ 8 مليارات دولار في عام 2009. وكذلك أدت العقوبات على تصدير النفط إلى فقدان نحو 15 مليون دولار يومياً. ولكن هل كان حتمياً الوصول إلى الحالة الحالية؟ في حال إصابة الجسد بمرض يتوجب على صاحبه الحيطة واتباع حمية لتجنّب مخاطر آفات أخرى، ولكن الفريق الاقتصادي لم يكن مؤهلاً للتعامل مع الأزمة، كما اعترف بذلك وزير الاقتصاد في مقابلة مجلة الاقتصادي معه. كما لم يستطع هذا الفريق إيجاد أفضل الحلول لتخفيف آثارها. فقد اتبع الفريق الاقتصادي سياسة النعامة, يبدأ بنفي حدوث أزمة، ثم إلقاء المسؤولية على الغير، ثم اتخاذ قرار ما يلبث أن ينقضه بقرار آخر. لقد فقد هذا الفريق الاقتصادي ثقة الفعاليات الاقتصادية بل ثقة كثير من المواطنين. ولا أحد يجهل دور الثقة في الحفاظ على استقرار عملة أي بلد. الغريب أن المواطن بدأ يضع كليشات يتنبأ بها بتصريحات كل مسؤول قبل أن يلفظها، كيف لا والألفاظ التي استخدمها حاكم البنك المركزي والوعيد الذي أطلقه تكرر هو ذاته حين كان الدولار بسعر 52 ل.س، وحين كان 62، وحين كان 72، وحين كان 82 مقابل الليرة، فلماذا سيثق به الناس هذه المرة؟ بل أخطر من ذلك أوكل الفريق الاقتصادي مهمة الدفاع عن الليرة إلى متعهدين من الباطن ذوي صوت عال كثيري الظهور، لكن ينقصهم شيء أساسي وهو الخبرة والمهنية وكان كل تصريح لهم يؤدي إلى ردة فعل عكسية. ملاحظات على أداء البنك المركزي: لا يمكن للمتابع لأداء المصرف المركزي إلا أن يلاحظ أن الأداء شابته منذ البداية عيوب كثيرة سبقت الأزمة الحالية، ولو حصل هذا الأسلوب في أي بلد لتم اتهام من يقوم به بالخداع وغش المواطن ولتم مقاضاة من قام به بتهمة الإضرار بمصالح الناس. غالباً ما يتصرف أي مسؤول في بنك مركزي في العالم بأسلوب أحياناً يشوبه الغموض، ولكن لم نشاهد أبداً مسؤولاً في بنك مركزي في العالمي، يلجأ إلى المراوغة والخداعbluffing ، وهي من أخطر السياسات وساهمت بإفقاد المسؤولين لهيبتهم وكلّفت صغار الكسبة أثماناً باهظة. كيف فات على المسؤولين في المصرف المركزي أنه لا يجوز غش البسطاء بالادّعاء أنهم سيحافظون على سعر الليرة في حدٍّ معين، علماً أن أي دولة تعجز على وقف تدهور عملتها حين تكون الظروف الاقتصادية غير مواتية. لقد سلك المصرف المركزي سلوك التاجر المراوغ، وللإنصاف صحيح أنه لم يصدر عنه تصريحات مباشرة، بل سمح وأطلق العنان لجوقة أطلقت لنفسها العنان بإطلاق نظريات وهمية عن مصادر دعم غير حقيقية، جعلت الكثير من العامة يصدقون هذه الادعاءات واكتفى بالمراقبة والصمت عوضاً عن نفي الشائعات الكاذبة. لقد تضرّر البسطاء، أما من يملك شيئاً من المعرفة والقدرة على تحليل الأمور فلقد فهم منذ البداية أن اللجوء إلى هذا الأسلوب الذي لا يليق بأي مسؤول في البنك المركزي يشبه تصرفات تاجر البسطة الذي يدرك أن الزبون سيكتشف رداءة البضاعة بعد فترة. الحرب خدعة: تعامل المصرف المركزي وكأنه في حرب مستخدماً أسلوب المراوغة، فتارة يطالعنا أحد المسؤولين في جريدة رسمية دون ذكر اسمه بأن البنك المركزي يتعمد هبوط الليرة ليلقن درساً للأعداء! من هم الأعداء المواطن البسيط الذي صدق وفوجئ بأن قيمة ثروته أصبحت النصف أم من يذهب لشراء حاجياته فيجد أن سعرها تضاعف! ولكل حرب منتصر، والمنتصر هنا من لم يصدق المصرف المركزي ممن استفاد من هبات العشرة آلاف الدولار بسعر تشجيعي والذي استفادت منها الشريحة العليا من المجتمع، فكنت ترى أصحاب العمل يعطون عمالهم مبالغاً ويطلبون منهم شراء عشرة آلاف دولار، وهؤلاء هم من انتصروا. ملاحظات على التدخل الأخير للبنك المركزي لقد تدخل البنك المركزي في سوق العملات وهبط الدولار إلى 82.5 ليرة فصفق المصفقون، ولكن فاتهم أن يعملوا جولة في الأسواق المحلية، فالسعر العالمي للسكر بتاريخ 10 آذار (مارس) كان 625 دولاراً للطن وبدولار 84 يكون سعره نحو 52 ليرة سورية للكيلو، ولكن يباع في أسواق الجملة بـ 84 ليرة سورية للكيلو، أي بدولار يعادل 135 ليرة سورية. أما القمح في بلاد القمح فيتم بيعه بالجملة بسعر 30 ليرة للكيلو، بينما الأسعار العالمية للقمح اليوم الطن بـ 235 دولاراً أي أن الكيلو بدولار 84 هو نحو 20 ليرة، بينما تم احتساب سعر القمح المحلي على دولار 130 ليرة، وقس على ذلك سلع أخرى. وخلاصة القول إن البنك المركزي حاول إخفاء المرض بمعالجة سطحية للأعراض، بينما الداء الحقيقي هو انخفاض القدرة الشرائية لليرة السورية لعدم ضبط الأسعار. وحذّرنا سابقاً أن عدم ضبط الأسعار سيولد ضغوطاً تضخمية سرعان ما تنعكس بانخفاض كبير لليرة السورية. إن ما يقوم به البنك المركزي أحسن وصفه أحدهم حين قال كأنه من يعطي مسكناً لمريض سرطان فيسكّن ألمه ولكن هل يحق له أن يتفاجأ حين ينتشر المرض ويعم الداء؟ ملاحظات على أداء وزارة الاقتصاد: إذا صدقنا ما يقوله مسؤولوا الوزارة بأن ليس لهم سيطرة لا على الأسعار ولا على السياسات المالية ولا على أزمة الغاز ولا على أزمة الخبز ولا على المواد التي يسمح باستيرادها، فنقول إذا هذا رأيكم بأنفسكم فلن نزيد على ذلك فقط نطلب منكم الكف عن أي تصريح، ويجب التفكير جدياً بدور هذه الوزارة التي لا تسيطر إلا على 15% من اقتصاد البلد وما الجدوى الاقتصادية منها. ملاحظات على وزارة المال: باستثناء الميزانية الفلكية التي تجاوز العجز فيها عتبة الـ 50% من الإيرادات، فإن وجود فقرة فيها أن الدعم يصل إلى 387 مليار دولار يوحي للمستثمرين بعدم الثقة فهذا يدل على أنه مازالت الشفافية غير موجودة في مثل هذه الظروف العصيبة واستمرت الأمور كما كانت من قبل دون محاسبة business as usual ، ولكن الوزارة لم تلعب دوراً كبيراً خلال هذه الأزمة واكتفت بمراقبة اللاعبين مثلها مثل بقية الجمهور كأنها لا تعلم أن وارداتها هي بالليرة السورية وأصبحت لا تساوي إلا نصف قيمتها، وربما يجب الانتظار لنهاية العام عند جرد الحساب حين تحويل الأرقام إلى أرقام بالدولارات من أجل إحصائيات عالمية عندها تكتشف مقدار ماخسرته من إيرادات! طبع العملة أو غش الحليب بالماء: إن الحلاب غير الأمين مع زبائنه يزيد كمية الحليب بمده بالماء، وكذلك طباعة أي عملة سمّها ما تشاء يمكن تسميتها ضخ سيولة ويمكن تسميتها بما يعرف اليوم quantative easing التسهيل الكمي أو دع رئيس جمعية حرفية يروج أنها الحل الأمثل لإيجاد بدل عن ضائع، فوفقاً لزعمه هناك من يخفي أوراق النقد السوري لتصبح شحيحة في السوق وبالتالي تهبط قيمة العملة ويجب طباعة بدلاً عنها (أغرب وأغبى كذبة تم الترويج لها)، ولكن حذّرنا سابقاً أن هذا النموذج اتبعته ليبيا وكوريا الشمالية ولم ينجح فلم كتب علينا أن نجرّب ما فشل به الآخرون. هل نجحت سياسة طمر رأس النعامة: يكفي أن ينظر المرء إلى المخطط المرفق الذي يظهر فيه السعر الرسمي لليرة السورية والسعر في السوق السوداء ليدرك أن هناك خطين لا يلتقيان، وأن كل قرار خاطئ صاحبه ازدياد في الافتراق بين الخطين. ورد هذا المقال في العدد رقم ( 135 ) من مجلة الاقتصادي الكاتب: نادر الشيخ الغنيمي     سيريا ديلي نيوز

التعليقات