مرة أخرى، تأتي البيانات الإحصائية الحكومية لتخالف القناعات والواقع المعاش، وتفتح سجالاً واسعاً لجهة مدى موضوعية واستقلالية عملية إنتاج الرقم الإحصائي في البلاد، وهذا للأسف سجال بات يعرفه القاصي والداني.
جديد المفارقات الإحصائية الحكومية ما تضمنه التقرير الوطني الثاني المتعلق باستعراض واقع تنفيذ أهداف التنمية المستدامة في سورية، والذي تضمن مجموعة واسعة من البيانات الإحصائية، وأكثر ما يستوقف المرء في تلك البيانات ما يتعلق بتطورات واقع الأمن الغذائي للأسر السورية، والمفترض أنها مستقاة من مسوح الأمن الغذائي التي نفذ أولها في العام 2015، ثم جرى تحديثه لمرات عدة في الأعوام التالية لذلك، مع الإشارة إلى أن جميع تلك المسوح نفذت بالتعاون مع منظمة أممية.
– إنجازات كبيرة!
تظهر البيانات حدوث تحسن واضح في ثلاثة مؤشرات أساسية من مؤشرات الأمن الغذائي بين عامي 2020 و2022، وهذا على خلاف ما شهدته تلك الفترة – ولاتزال تشهده الفترة الراهنة- من تدهور كبير في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد، حيث تجاوز مثلاً معدل التضخم وفقاً للمكتب المركزي للإحصاء حوالي 118.8% في العام 2021، وكل التوقعات تؤكد أنه لم ينخفض عن ذلك المستوى في العام 2022، وهذا ترافق مع انخفاض شديدة في القوة الشرائية للأسر جراء اتساع الفجوة المتشكلة بين مستويات الأسعار وبين مستويات الدخل المتحقق.
أول المؤشرات ما يتعلق بنسبة الأسر التي تعاني من انعدام شديد في أمنها الغذائي، والتي تؤكد البيانات الرسمية أنها تراجعت من نحو 8.3% بنهاية العام 2020 إلى حوالي 2.1% في العام 2022، والسؤال هنا : ما هي الخطط والبرامج التي عملت عليها الحكومة خلال تلك الفترة، وأثمرت عن انخفاض عدد الأسر التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي من حوالي 332 ألف أسرة إلى حوالي 84 ألف أسرة إذا افترضنا أن عدد الأسر هو 4 ملايين أسرة؟
ثاني المؤشرات المثيرة للاستغراب يتمثل في الأسر الآمنة غذائياً، والتي ارتفعت نسبتها من حوالي 5.1% في العام 2020 إلى حوالي 11.2% في العام 2022 أي أن سياسات الحكومة الحالية تمكنت بين العامين المذكورين من إضافة حوالي 240 ألف أسرة إلى خانة الأسر الآمنة غذائياً.. كيف؟ الله أعلم.
ثالث المؤشرات خاص بنسبة الأسر التي تعاني من انعدام متوسط في أمنها الغذائي، وهنا أيضاً نسبت الحكومة لنفسها إنجازاً يتعلق بحدوث تراجع، وإن كان بسيطاً إلا أنه في ظل الأوضاع الاقتصادية التي تعيشها البلاد يشكل حدثاً لافتاً، فقد أشارت البيانات إلى انخفاض نسبة الأسر المصنفة في هذه الخانة من حوالي 47.2% في العام 2020 إلى حوالي 46.3 % في العام 2022.
المؤشر الوحيد الذي شهد ارتفاعاً هو نسبة الأسر المعرضة لانعدام أمنها الغذائي، والتي بلغت في العام 2022 بموجب مسح الأمن الغذائي حوالي 40.4% مقارنة بحوالي 39.4% في العام 2020، وتصبح الزيادة أعلى مقارنة بالنسبة المتحققة في العام 2021 والمقدرة بحوالي 33.3%.
وهذه نتيجة طبيعية لما أشارت إليه البيانات الأخرى من تراجع نسب الأسر التي تعاني من انعدام متوسط أو شديد في أمنها الغذائي.
كيف يستوي؟
كيف يمكن لمعظم مؤشرات الأمن الغذائي أن تتحسن في وقت تشهد جميع المؤشرات الاقتصادية تراجعاً كبيراً؟
هذا يمكن في حالة واحدة فقط، ألا وهي وجود شبكة حماية اجتماعية قوية وقادرة على تجنيب الشرائح والفئات الاجتماعية الفقيرة وصاحبة الدخل المحدود التعرض للانعكاسات المصاحبة عادة لتدهور الأوضاع الاقتصادية، لكن هذه الشبكة غير متوفرة في سورية إلى الآن، لا بل أن الحكومة عملت منذ تسلمها مهامها على تنفيذ سياسات اقتصادية واجتماعية مضادة لذلك من قبيل:
-رفع أسعار السلع والخدمات المدعومة وغير المدعومة بنسب دورية للتخفيف من عجز الموازنة، الأمر الذي تسبب بزيادة كبيرة في معدلات الغلاء والتضخم.
-استبعاد آلاف الأسر من خانة الدعم الحكومي وفق معايير غير موضوعية وبناء على قاعدة بيانات يشوبها عدم الدقة والأخطاء، وتوقف بيع السلع الغذائية المقننة التي كان يجري توزيعها عبر البطاقة التموينية وبأسعار مدعومة.
-تراجع جودة الخدمات المدعومة المقدمة للمواطنين من علاج وتعليم وغير ذلك، وهو ما رتب على الأسر تكاليف جديدة باتت ضاغطة عليها، وعلى أولوياتها اليومية.
-اعتماد سياسة جبائية صارمة أثرت على النشاط الإنتاجي في البلاد، والذي شهد تراجعاً توثقه عدة مؤشرات منها : تراجع الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة الماضية، استمرار الانكماش الاقتصادي، وزيادة قيمة الاستثمارات السورية الجديدة المؤسسة في دول عربية وأجنبية في المنطقة.
في مقاربة ما سبق نحن أمام تفسير واحد من اثنين :
-التفسير الأول وهو ما ورد على لسان أحد الباحثين المشاركين في مسوح الأمن الغذائي، والذي أوضح إن سبب زيادة نسبة عدد الأسر الآمنة غذائياً وتراجع نسبة الأسر التي تعاني من انعدام شديد في أمنها الغذائي في العام 2022 يعود وفق ما خلصت إليه نتائج مسح العام 2022 إلى ارتفاع في مدخول الأسر جراء عاملين أساسيين : الأول زيادة نسبة الأسر التي تتلقى حوالات من الخارج، والعامل الثاني يكمن في زيادة نسبة الأفراد الذين يعملون بأكثر من عمل، حيث وصلت النسبة إلى حوالي 56% ، أي أنه لا “منّة” للحكومة في ذلك، إذ إن السنوات القليلة الماضية لم تشهد برامج إنعاش تنموية حكومية وجهت لدعم الأسر الفقيرة، والتي تعاني من انعدام أمنها الغذائي أو مهددة بفقدانه، حتى يمكننا القول إن السياسات والخطط والبرامج الحكومية هي التي أدت إلى تخفيض مستويات انعدام الأمن الغذائي.
-التفسير الثاني ويتبناه منتقدو الأداء الحكومي ومفاده أن هذه الأرقام غير موضوعية وغير مستقلة، إذ من الصعب أن تعترف الحكومة الحالية أن سياساتها كانت وبالاً على الأمن الغذائي للأسر السورية، وهذا ما يستوجب إعادة تصويب الأرقام لتكون أكثر موضوعية بغية البناء عليها في رسم وتخطيط السياسات المستقبلية، الإقليمية أو الوطنية.
سيريا ديلي نيوز
2024-03-19 15:23:58