اليوم أكثر من أي وقتٍ سابقٍ، أصبحت الدعوات لتحرير الاقتصاد ملازمة تقريباً لأي مقترح بمعالجة الاحتضار الذي يعيشه، فالفكرة التي بقيت خلال الحرب مستبعدة إلى حدّ كبير، باتت مطلباً يكرّر يومياً عبر ندوات وحوارات ومحاضرات ووسائل الإعلام، بلسان خبراء ومختصين ورجال أعمال، وحتى بعض المسؤولين في القطاع العام، إذ يعتبرونها حلاً لا بدّ منه للخروج من قيود الاقتصاد التي كبّلت الإنتاج والدخل على التوازي.
وزيرة الاقتصاد السابقة، الدكتورة لمياء عاصي، أوضحت أن تحرير الاقتصاد هو عملية متكاملة، يشكل الانفتاح التجاري (الاستيراد والتصدير) أحد أهم بنودها، ولكنه يشمل قضايا أخرى مثل عمليات السوق بما يخصّ إقامة المشاريع التجارية والصناعية، وحرية التسعير، والدعم، وارتفاع نسبة ما يشكله القطاع الخاص من الاقتصاد الوطني، بينما يقتصر دور الدولة في هذا الاقتصاد على التشريع والتنظيم والتوجيه العام لعمليات السوق، أما المشاركة كمالك ولاعب فتكاد تنحصر في بعض القطاعات، وخاصة ما يتعلق بالبنية التحتية والتعليم والصحة، مضيفةً أن منهجية الحرية الاقتصادية تتبعها كثير من الدول، ويختلف نسبياً مدى تدخل الدولة في الاقتصاد، وقبل 2011 كانت سورية تسير نحو تبني هذه السياسات بقوة عبر الخطة الخمسية العاشرة، وهو ما سُمّي آنذاك بتحول الاقتصاد السوري إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، وحالياً، نتيجة الأزمات التي تحيق بالاقتصاد السوري والعقوبات الاقتصادية الغربية، والصعوبات الكثيرة التي يواجهها قطاع الأعمال، يتمّ إطلاق الدعوة لتحرير الاقتصاد، لأن ذلك يضمن عوائق أقل لعمليات الاستيراد والتصدير وقطاع الأعمال بشكل عام.
ولم تنكر عاصي أن التحرير الاقتصادي يؤدي للمزيد من الانخفاض في قيمة الليرة وارتفاع سعر الصرف، ولكن الاستمرار في التشدّد المالي، ومنع استيراد الكثير من المواد والسلع للسيطرة على سعر الصرف، يسهم بنشاط متزايد لسوق التهريب، وتقوية للاحتكار الذي سيكون وراء ارتفاعات متزايدة في الأسعار، وانهيارات في القدرة الشرائية ينجم عنها ارتفاع كبير في معدل الفقر، معتبرة أنه وقبل الحديث عن الانعكاسات السلبية أو الإيجابية للفكرة، لا بدّ من النظر إلى تحرير الاقتصاد كعملية متكاملة تشمل القطاع التجاري وعموم المواطنين على حدّ سواء، لأنهم سيتأثرون بشكل كبير جراء العملية، فالرؤية المتكاملة للتحرير الاقتصادي تشير إلى أنه يجب أن يكون على مراحل بشكل تدريجي، وعلى رأس أولوياتها رواتب الموظفين، وشبكات الحماية للطبقات الأكثر هشاشة وتأثراً بارتفاعات الأسعار نتيجة ازدياد الطلب على العملات الأجنبية بسبب إزالة القيود على الاستيراد، كما أنه من المتوقع تقويض الإمكانية المحتملة لقيام تصنيع محلي لبدائل المستوردات، وهذا ما حدث في سورية بعد 2007 وتوقيع اتفاق التجارة الحرة مع تركيا، الأمر الذي أدّى إلى إغلاق آلاف المنشآت الصناعية والورشات وخاصة الصغيرة، لعدم قدرتها على المنافسة مع اقتصادات أكثر قوة.
وأضافت عاصي أنه يمكن للحكومة أن تتبع سياسات اقتصادية معتدلة، بمعنى أن تتبنى نهجاً اقتصادياً متوازناً، بين التفكير بزيادة الواردات العامة للدولة وبين ترشيد المستوردات، أي اللجوء إلى انفتاح اقتصادي مدار، فلا يتسبّب بارتفاعات في سعر الصرف كبيرة وغير مسيطر عليها، ولا أن تتبع الحكومة سياسة تشديد اقتصادي خانق لتتمكّن من ضبط سعر الصرف نسبياً، على حساب زيادة نشاط سوق التهريب وارتفاع منسوب الاحتكار بطريقة مرضية تزيد من تكدّس الثروات عند البعض، وتردي المستوى المعيشي لغالبية الناس، مؤكدة أن التشديد الاقتصادي الحالي لن يستطيع تأمين تعافٍ اقتصادي، وكذلك لا يمكن الدعوة إلى الانفتاح التجاري الكامل والسماح بالاستيراد من دون أية محدّدات.
واعتبرت الخبيرة الاقتصادية أنه لا يوجد مقترح يكون بمثابة الحلّ السحري الكامل للأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلد، فلكل سياسة، سواء باتجاه الانفتاح أو التشدّد، نقاط سلبية وأخرى إيجابية، لأن الأزمة السورية الحالية ناشئة عن ظروف وملابسات سياسية، والمعالجة الاقتصادية يمكن أن تخفف من وطأة الأزمة ليس إلا، لكن بشكل عام، يمكن تبني سياسات معتدلة والتخفيف من معوقات وقيود الاستيراد، بشرط محاربة الاحتكار وضمان وترسيخ شروط المنافسة بين جميع اللاعبين.
البعث
سيريا ديلي نيوز
2024-02-24 09:30:14