في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها سوريا منذ سنوات، شكّلت أسواق الألبسة المستعملة المعروفة باسم “البالة” متنفساً لشرائح واسعة من السوريين، وباتت تلك الأسواق مقصداً رئيسياً للكثير منهم، نظراً إلى أسعارها المتدنية وجودتها المرتفعة، بالمقارنة مع الملابس محليّة الصنع التي تضاعفت أسعارها بشكل متلاحق خلال الفترة الماضية.

أسواق “البالة” لاقت رواجاً كبيراً بين السوريين خلال سنوات الحرب، خاصّة بعد القرارات الحكومية التي منعت استيراد الألبسة الأجنبية، إضافة إلى سحب شركات الملابس العالمية تراخيصها من سوريا، تماشياً مع العقوبات الاقتصادية الغربيّة المفروضة على دمشق، ما أدى إلى ارتفاع كبير في أسعار الملابس المصنّعة محليّاً.

الخبير الاقتصادي علاء أصفري أكد  أنّ نشاط سوق البالة في سوريا ازداد خلال السنوات الماضية، نتيجة ارتفاع أسعار الألبسة المصنّعة محلياً بشكلٍ غير مسبوق، وأرجع أصفري ذلك إلى عدم توفر حوامل الطاقة، ما يؤدي إلى ارتفاع التكاليف على أصحاب المصانع النسيجية، وهذا بدوره ينعكس على أسعار الألبسة، فيصبح المواطن عاجزاً عن شرائها.

ويضيف الأصفري أن سوق البالة هو سوق “تهريب”، وكان نشطاً قبل الأزمة، ولكن نشاطه ازداد خلال السنوات الماضية بشكل كبير جداً، وهذا ما يؤثر سلباً في الاقتصاد السوري.

وعن سلبيات سوق الألبسة المستعملة يؤكد الأصفري أن السلع الموجودة في البالة “مهرّبة”، الأمر الذي يشكّل ضغطاً ونزيفاً للدولار في السوق السوداء، لأن تجار البالة والمهربين يستنزفون القطع الأجنبي من البلد.

أما عن الطرق الواجب اتباعها لوقف هذا النزيف في القطع الأجنبي، فيشير الأصفري إلى ضرورة دعم الصناعة المحلية، عبر دعم خطوط إنتاجها بتأمين حوامل الطاقة اللازمة لتشغيلها، وكلما زاد الدعم للصناعة المحلية انخفضت الأسعار في الأسواق، وينعكس ذلك على تراجع الاعتماد على سوق “البالة” من قبل السوريين.

لؤي شاهين أب ستيني لثلاثة أولاد يقول : “ليس بإمكاني شراء الألبسة والأحذية لأولادي من الأسواق العادية، حيث يصل سعر الحذاء إلى أكثر من 150 ألف ليرة (20 دولاراً)، وهو سعر خيالي بالنسبة إلى الراتب الذي أحصل عليه، لذلك فإن “البالة” هي الملجأ الوحيد المتبقي أمامي، ورغم أن أسعارها في الآونة الأخيرة بدأت أيضاً بالارتفاع، فإنها تبقى أرحم من الأسواق العادية”.
ارتفاع الأسعار يطال “البالة” أيضاً

أم فراس سيدة خمسينية زبونة في سوق “البالة” منذ نحو 20 عاماً، لاحظت مؤخراً ارتفاعاً في الأسعار داخل السوق، لكنها تقول: “رغم ذلك، فالأسعار هنا أرحم من الأسواق الأخرى، مقارنةً مع الألبسة المصنّعة محلياً، فالنوعية في البالة أفضل والأسعار أرخص، ويبقى هذا السوق هو الملجأ الوحيد لتأمين حاجياتنا الأساسية من الألبسة التي نحصل عليها في فترات زمنية متباعدة نسبياً، نتيجة الظروف المعيشية الصعبة”.

يعزو بعض الباعة في سوق “البالة” بمنطقة “الإطفائية” في دمشق، ارتفاع أسعار الألبسة داخل السوق في الفترة الماضية إلى ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة السورية “سعر الدولار الواحد في السوق السوداء 7400 ليرة”، خاصّة أن البضائع الموجودة معظمها مهرّبة، لذلك فإن الأسعار لم تعد ثابتة كما كانت قبل سنوات، بل هي اليوم معرّضة للارتفاع تبعاً لأسعار الصرف.

كذلك أرخى الوضع الاقتصادي المتأزم الذي تعيشه سوريا في الوقت الحالي  بثقله على حركة البيع والشراء داخل سوق “البالة”، وفي هذا السياق، يقول أبو فادي بائع ستيني في السوق إنه، ورغم وجود ازدحام أمام المحلات، فإن الإقبال على الشراء ضعيف جداً، بسبب تراجع القدرة الشرائية لشرائح واسعة من السوريين، إذ انخفضت نسبة الإقبال بنحو 80% منذ 4 أشهر تقريباً.

ويضيف أبو فادي: “في السابق، كنا نبيع نحو 150 قطعة يومياً، أما اليوم فلا يتخطى العدد 25 قطعة، وبسبب انخفاض الطلب نلجأ إلى البيع بأقل الأسعار لتغطية تكاليف إيجار المحل واليد العاملة”.

وعما إذا كانت الظروف الاقتصادية الحالية قد ساهمت في تنامي الإقبال على سوق “البالة” يشير الخبير الاقتصادي عمار يوسف للميادين نت أن السوق يشهد أيضاً ارتفاعاً كبيراً في الأسعار لاعتماده  على الدولار، إذ لا يتم استيراد البضاعة بشكل نظامي، وإنما عن طريق التهريب، وبالتالي لم تعد البضاعة الموجودة رخيصة الثمن.

ويضيف اليوسف أنه في ظل الأوضاع الاقتصادية الموجودة حالياً هناك ركود، سواء في سوق البالة أو في قطاع الألبسة بشكل عام، واليوم يبحث المواطن العادي عن تأمين مستلزماته المعيشية قبل الألبسة.

ويشرح اليوسف: “عندما يكون ثمن قطعة الألبسة في سوق البالة 100 ألف والحذاء نحو 70 ألفاً، ورغم أن هذه الأسعار أقل من الألبسة الجديدة في الأسواق التجارية، فإن المواطن غير قادر على تأمين هذا المبلغ، ما يجعل عمليات البيع والشراء في الحدود الدنيا.

وحول تأثير الارتفاع الجنوني للأسعار في الأسواق التجارية على الأسعار في سوق البالة تشير أم عبد الله،سيدة أربعينية زبونة في سوق البالة، أنّ أسعار الألبسة في السوق ارتفعت بنسبة 50% مؤخراً، لكنها تبقى أقل بكثير مقارنة بالألبسة الجديدة المصنعة محلياً، وعلى سبيل المثال: فإن ثمن البيجامة في الأسواق التجارية نحو 120 ألفاً إلى 150 ألف ليرة، بينما يتراوح سعرها في “البالة” ما بين 50 ألفاً إلى 75 ألف ليرة.

أحد عشر عاماً من الحرب في سوريا استنزفت بلا شك الاقتصاد والبُنى التحتية، وخلقت أزمات معيشية وخدمية عديدة، وزادت العقوبات الاقتصادية الخانقة التي فرضتها الدول الغربية على دمشق الأمر سوءاً، ما انعكس سلباً على القدرة الشرائية للسوريين، وجعلهم عاجزين عن تأمين احتياجاتهم الأساسية.
“البالة” لشرائح محددة فقط

السير داخل دمشق والنظر إلى وجوه الناس في شوارعها يكفيان لمعرفة سوء الحال الذي وصل إليه الكثير من السوريين بعد 11 عاماً من الحرب، فتلك السنوات حملت معها الكثير من الأوجاع والمتاعب والكوارث، وحرمت السوريين من التفكير بأكثر من لقمة العيش لسد رمقهم.

اليوم، لم يعد التفكير في الملابس أولوية ملحّة في ظل الظروف الاقتصادية التي يعيشها الناس، ولا يبدو أن المستقبل القريب يحمل غير الواقع الحالي.

أبو محمود، صاحب بسطة في سوق “البالة” في منطقة الإطفائية بدمشق، يؤكد  أنه لم يعد بمقدور أحد الشراء من “البالة”، وكل يوم هناك تراجع إضافي في الإقبال على الشراء، وفي كثير من الأحيان، يضطر البائع إلى البيع بسعر التكلفة لتغطية التكاليف”.

الشاب براء دعبول، بائع في سوق “البالة” في منطقة الإطفائية بدمشق، يكشف أنّ الإقبال على شراء الألبسة المستعملة ضعيف نسبيّاً خلال الفترة الحالية، والأشخاص الذين يجولون في السوق لا يشترون، وإنما فقط يمارسون “الفرجة” على المحلات و”البسطات”.

ويؤكد دعبول أن الإقبال انخفض خلال العام الحالي بنسبة 90% مقارنة مع العام الماضي، أما عن مصدر البضاعة الموجودة في سوق “البالة” فيكشف دعبول أنها مهرّبة، وهي في الغالب تتبع لماركات أوروبية.

أجاد السوريون خلال سنوات الحرب المريرة التأقلم مع الواقع الصعب الذي فرضته العوامل الاقتصادية، من خلال ترتيب أولوياتهم حسب الظروف المحيطة، فعند غياب المحروقات عن السيارات الخاصّة مثلاً، كان اللجوء إلى وسائل النقل العامّة، ولاحقاً توجهوا إلى المشي عند أزمة المحروقات الخانقة التي عطّلت وسائل النقل العامة، ويمكن إسقاط تلك الوقائع أيضاً على الملابس، إذ انتقل السوريون من الماركات الأجنبية التي كانت تجتاح الأسواق السورية بأسعار قليلة إلى البضائع الوطنية، وصولاً إلى أسواق “البالة”، ولسان حال الفقراء يقول: “ماذا سنرتدي إن أصبحت البالة للأغنياء فقط؟”.

 

سيريا ديلي نيوز


التعليقات